علي عواد
القمع الرقمي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني ليس مجرد خلل في تطبيق السياسات، بل امتداد لمنظومة احتلال قائمة على السيطرة، عندما يتشابك النفوذ السياسي مع المصالح التجارية. وفي الوقت الذي تُترك فيه الدعوات الإسرائيلية خاصة الصادرة عن جماعات اليمين المتطرف إلى العنف من دون رقيب، يجري تقييد أي تعبير فلسطيني عن المقاومة بوصفه «تحريضاً». هكذا، يتحول الفضاء الرقمي من ساحة حرة إلى جبهة جديدة يخوضها الفلسطينيون، في محاولة لتوثيق نضالهم وكشف انتهاكات الاحتلال رغم كل الحواجز الخوارزمية والسياسية.
تناولت المقالة الأخيرة في The Intercept تداخل السياسة والأعمال داخل شركة «ميتا»، كاشفةً عن دور رئيسة قسم السياسة في «ميتا» المعنية بإسرائيل والشتات اليهودي، جوردانا كاتلر. فقد اتضح أنها قد مارست ضغوطاً من أجل حذف المحتويات الموجهة من مجموعة Students for Justice in Palestine، التي تعدّ من أبرز المجموعات الداعمة للقضية الفلسطينية. أفاد التقرير أن كاتلر استخدمت قنوات التصعيد الداخلية في «ميتا» لتقديم طلبات لمراجعة عدد من المشاركات الخاصة بـ SJP، مستندةً إلى سياسة «المنظمات والأفراد الخطيرين» في «ميتا»، التي تمنع النقاش الحرّ حول قائمة سرية تضم آلاف الكيانات. كاتلر، التي تمتلك خلفية سياسية قوية في الحكومة الإسرائيلية، عملت على تعزيز التعاون بين «ميتا» والجهات الحكومية الإسرائيلية، ما أثار قلق الخبراء بشأن توازن القوى داخل الشركة. وقد أشار بعضهم إلى أن هذا التداخل يمثل تحيزاً واضحاً، إذ تفتقر المنصة إلى أفراد يمثلون وجهات نظر الفلسطينيين.
صورة مصممة عبر ادوات الذكاء الاصطناعي
تشير الأدلة إلى أن كاتلر كانت تسعى إلى إزالة محتويات تضم «اقتباسات» من كتّاب فلسطينيين مرموقين وتفاصيل عن شخصيات تاريخية، مثل ليلى خالد، وغسان كنفاني، بالإضافة إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» (PFLP) و «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» (DFLP) وبالمناسبة كلاهما يعتبران من المجموعات الماركسية-اللينينية (المكارثية ليست قدراً)، ما يعكس تحكّماً صارماً في الخطاب الذي يُسمح به على المنصة. في الوقت نفسه، يُظهر سلوك كاتلر وأثره على الحريات الأكاديمية والنقاشات العامة مدى الحاجة إلى وجود ضمانات لمنع هيمنة أي جهة حكومية على النقاشات السياسية.
كذلك، كشف تقرير لموقع «ذي إنترسبت» في عام 2016 أنّ فايسبوك وافق على العمل بشكل وثيق مع الحكومة الإسرائيلية لرصد المحتوى وحذفه الذي تعتبره «تحريضاً». تعاون يمنح إسرائيل، التي تحتل الأراضي الفلسطينية، سلطة تشكيل الخطاب على الإنترنت. وزيرة «العدل» الإسرائيلية حينها، أييليت شاكيد، تفاخرَت بأن فايسبوك امتثل لـ 95 في المئة من طلبات إسرائيل لحذف المحتوى، معظمها استهدف الفلسطينيين. في المقابل، تركت منصات التواصل منشورات تحريضية من إسرائيليين ضد الفلسطينيين من دون أي حذف أو رقابة. يعكس هذا التعاون حملةً أوسع من قبل إسرائيل للسيطرة على السردية الرقمية. على مدى سنوات، لم تكتفِ إسرائيل بمراقبة نشاط الفلسطينيين على منصات التواصل، بل اعتقلت أيضاً أفراداً بسبب منشورات وُصفت بأنها «تحريضية». ومع إمكانية تنظيم الاحتجاجات في غضون ساعات عبر المنصات الرقمية، ذهبت إسرائيل إلى منع هذه النقاشات من الأساس، ما أدى إلى خنق أصوات المقاومة الفلسطينية.
رئيسة قسم السياسة في «ميتا» جوردانا كاتلر عملت على تعزيز التعاون بين الشركة وإسرائيل
أحد أكثر الجوانب إثارةً للقلق هو التمييز الواضح في الرقابة. بينما تحذف منشورات الفلسطينيين التي تدعو إلى المقاومة باعتبارها تحريضاً، تبقى منشورات الإسرائيليين الداعية إلى العنف متاحة من دون عواقب. خلال الحرب على غزة عام 2014، انتشرت على منصات التواصل منشورات إسرائيلية تدعو إلى قتل الفلسطينيين، ونُظمت مجموعات للهتاف بـ«الموت للعرب» و«الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت» في الشوارع. الأكثر إثارة للدهشة هو أنّ المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم يسهمون في هذا التحريض الرقمي. فقد نشرت الوزيرة شاكيد على فايسبوك سابقاً تصريحات عنصرية تحرّض على الكراهية ضد الفلسطينيين. ومع ذلك، نادراً ما تحذف هذه المنشورات. يكشف هذا التمييز أن الرقابة ليست مجرد مسألة تطبيق «إرشادات مجتمعية»، بل أداة للسيطرة على السرديات العامة.
في عامَي 2023 و2024، نشر عدد من المسؤولين الإسرائيليين اليمينيين تصريحات تحريضية على منصات التواصل الاجتماعي، ما أسهم في تأجيج التوترات في المنطقة. في آذار (مارس) 2023، كتب وزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير على حسابه الرسمي على «إكس»: «نحن هنا وسنظّل هنا. أي محاولة للتعرض لنا ستقابل بأقسى رد». كما نشر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أيار (مايو) 2023 تغريدة على «إكس» جاء فيها: «الوجود الفلسطيني في المناطق هو خطأ تاريخي يجب تصحيحه». وفي أيلول (سبتمبر) 2023، صرح بنيامين نتنياهو عبر «إكس»: «يجب أن نكون على استعداد لاستخدام القوة المفرطة للحفاظ على أمننا». وعبر فايسبوك، قال رئيس أركان «الأمن القومي» السابق، مئير بن شبات، في كانون الأول (ديسمبر) 2023: «الوقت قد حان لإظهار القوة. ليس لدينا مكان للضعف في هذه المنطقة». وفي شباط (فبراير) 2024، نشر صحافي وسياسي إسرائيلي يشغل منصب عضو في الكنيست عوفر شيلح تغريدة على «إكس»: «يجب أن نكون موحّدين ضد العدو. أي ضعف يمكن أن يؤدي إلى فقدان كل ما حققناه.
يعكس هذا التحيّز الواقع الجيوسياسي الأوسع؛ فإسرائيل، دولة الفصل العنصري، تمتلك نفوذاً على شركات التكنولوجيا، في حين يفتقر الفلسطينيون، كشعب تحت الاحتلال، إلى القوة نفسها. بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، فإن الحفاظ على علاقات جيدة مع حكومات مؤثرة مثل «إسرائيل» هو قرار تجاري، إذ تلتزم هذه الشركات قانونياً بتعظيم الأرباح. ونتيجة لذلك، يجري إسكات الفلسطينيين ليس فقط من قبل المحتل، بل أيضاً من قبل الشركات التي تتحكّم بمنصات الاتصال العالمية.
إن قمع الصوت الفلسطيني ليس حالة استثنائية، بل هو جزء من اتجاه عالمي تضغط فيه الحكومات على شركات التكنولوجيا لقمع المعارضة. من الولايات المتحدة إلى الهند، تتزايد مطالبات الدول بحذف المحتويات التي تنتقد سياساتها. في هذا السياق، يمثل الفلسطينيون أبرز ضحايا التراجع عن حرية التعبير الرقمي. عندما تحدد الدول القوية ما يمكن وما لا يمكن قوله على الإنترنت، يقوّض هذا الوعد الأصلي للإنترنت بأنها مساحة ديموقراطية للمعلومات. وتُخنَق أصوات المهمشين الذين يعتمدون على هذه المنصات لمقاومة القهر، ما يجعل من الصعب على الحركات المناهضة للاضطهاد أن تلقى صدى عالمياً.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار