علي عواد
في ظل الأزمات المتفاقمة التي تعصف بـ «إسرائيل» على المستويين السياسي والاجتماعي، تبرز ظاهرة جديدة تشكل تحدياً جوهرياً لأمن «الدولة» وهويتها: تجنيد إسرائيليين من مختلف الخلفيات للتجسّس لمصلحة إيران. ما كان يُعد سابقاً انحرافاً فردياً صار يعكس اتجاهاً أوسع، إذ تظهر حالات متزايدة من التعاون مع أعداء «الدولة» كنتيجة لتآكل التضامن الداخلي. هذه التطورات لا يمكن فصلها عن السياق السياسي الأوسع، إذ تعكس حالة من التفكك الاجتماعي والسياسي العميق. من هنا، فإن فهم هذه الظاهرة يتطلب تحليلاً عميقاً لتداعيات الانقسام الداخلي على الأمن القومي الإسرائيلي، والدور الذي تلعبه القوى الإقليمية في استغلال هذا الانهيار لتحقيق أهدافها الإستراتيجية
في السنوات الأخيرة، ومع تفاقم الانقسامات التي فجّرتها السياسات الحكومية، وتحديداً إصلاحات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو القضائية، أصبح الشعور بالإحباط والاغتراب يسود شريحة كبيرة من الإسرائيليين. هذه البيئة المنقسمة تمثل فرصة نادرة لقوى إقليمية مثل إيران و«حزب الله»، اللذين يعملان على استغلال نقاط الضعف المجتمعية والأمنية لتقويض «إسرائيل» من الداخل.
ما يجعل هذه الظاهرة أكثر خطورة هو أن التجسس لم يعد مقتصراً على الدوافع الأيديولوجية التقليدية، بل أصبح مرتبطاً بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية، مثل الطمع في المال والاغتراب. وفي خضم صراع داخلي محتدم، يبدو أن بعض الإسرائيليين لم يعودوا ينظرون إلى «دولتهم بمنزلة كيان يستحق الولاء»، ما يجعلهم أدوات بيد خصومها.
تشير التقارير الأخيرة إلى تزايد حالات التجسّس التي يتورط فيها إسرائيليون يتعاونون مع المخابرات الإيرانية، ما يعكس تصدعات عميقة في «المجتمع» الإسرائيلي. ما كان يُعدّ في الماضي أمراً نادراً – خيانة اليهود لدولتهم لمصلحة أعدائها المعلنين – أصبح يتكرر اليوم، مدفوعاً بخيبة أمل سياسية، وأزمات اقتصادية، وفشل حكومي متزايد.
في مقال رأي نشرته صحيفة «هآرتس» أول من أمس بقلم الكاتب يوسي ميلمان، (كان مراسلاً لشؤون الاستخبارات والإستراتيجيا لصحيفة لـ «هآرتس» قبل ذهابه إلى صحيفة «معاريف» ثم عاد إلى «هآرتس» عام 2019)، يلمح المقال إلى ظاهرة غير مسبوقة: «الإسرائيليون الذين كانوا في الماضي موحّدين في الدفاع عن دولتهم، أصبحوا ينحازون بشكل متزايد إلى الدول والجماعات التي تقاوم العدوان الإسرائيلي. ويبدو أنّ إيران، عبر استغلال حالة عدم الاستقرار في إسرائيل، وجدت شركاء جدداً في قلب النظام الذي تسعى إلى تقويضه. يتماشى استهداف المواقع الحساسة، مثل قواعد سلاح الجو ووحدات الاستخبارات، مع الإستراتيجيات الأوسع لإيران وحلفائها، بما في ذلك «حزب الله»». ويتحدث المقال عن استخدام الاستخبارات الإيرانية أساليب شبيهة بتلك التي كان يعتمدها جهاز «الكي جي بي» (أبرز جهاز استخبارات إبان الاتحاد السوفياتي)، الذي ينشر شِباكاً واسعة للعثور على متعاونين محتملين. وهذا الاتجاه الجديد في التجسّس لا يعكس فقط المصالح الشخصية كالطمع أو العزلة الاجتماعية، بل يعبر عن تآكل في القيم التي كانت تشكل أساس «المجتمع» الإسرائيلي. نجاحات إيران الأخيرة تشير إلى تحول واضح: تصدعات في نسيج الدولة يجري استغلالها لتعزيز المقاومة من الداخل، وتحويل بعض الإسرائيليين إلى أدوات في مواجهة حكومتهم.
شهدت إسرائيل في العام الماضي زيادةً في الانقسامات الاجتماعية، حيث يشعر عدد من السكان بالإحباط من السياسات العدوانية التي يتبنّاها بنيامين نتنياهو. وقد أضافت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة إلى حالة السخط، ما خلق بيئةً خصبة للتجسّس. ومع تصاعد هذا الاستياء، استغلت الاستخبارات الإيرانية هذه الانقسامات ونجحت في تجنيد عدد متزايد من الإسرائيليين للعمل ضد دولتهم. ولم تعد جهود إيران مقتصرة على استهداف الفئات المهمشة، بل وصلت إلى عمق «المجتمع» الإسرائيلي. وأظهرت الحالات الأخيرة تورط أشخاص من خلفيات متنوعة – رجال أعمال، طلاب، وحتى جنود في «الجيش» – في جمع معلومات حساسة عن مواقع عسكرية وأمنية. ويُظهر هذا التحول أن الدافع الأساسي لهؤلاء لم يكن أيديولوجياً، بل مادياً، ما يعكس تراجع «التضامن الوطني».
في حين ينظر المسؤولون الإسرائيليون إلى هؤلاء الجواسيس باعتبارهم خونة، فإن الأسباب الكامنة وراء الظاهرة سياسية بلا شك. أدت سياسات نتنياهو، بما في ذلك إصلاحاته القضائية، إلى تعميق الانقسام في المجتمع الإسرائيلي. كما كشفت الحرب مع «حماس»، التي كان يُعتقد أنها ستحقق الوحدة، عن نقاط ضعف خطيرة. وأشار المقال إلى أنّ رمز المقاومة، الشهيد السيد حسن نصرالله، استغل هذه الانقسامات باعتبارها دليلاً على هشاشة إسرائيل، ما حفّز الجهود على اختراق الدولة من الداخل.
تعتمد الاستخبارات الإيرانية أساليب شبيهة بتلك التي كان يعتمدها جهاز الـ «كي جي بي»
تبرز حالات التجسس الأخيرة ليس فقط بدافع الطمع أو العزلة، ولكن أيضاً كنتيجة لانهيار سياسي واجتماعي أوسع. إنها تعكس رفضاً للسياسات الحكومية، ما يضع هؤلاء الأفراد – سواء بوعي أو من دونه – في صف الحركات التي تعارض الاحتلال والعدوان العسكري الإسرائيلي.
يكشف ارتفاع حالات التجسس عن تحوّل عميق في «المجتمع» الإسرائيلي، يصل إلى جوهر الاستقرار السياسي والاجتماعي في «إسرائيل». يكشف هذا الانهيار في الولاء الوطني انقسامات حادة تهدد بتقويض أسس مجتمع كيان الفصل العنصري، إذ لم تعد الخيانة عملاً نابعاً من الهامش، بل أصبحت ظاهرة تجد صداها بين مختلف الفئات. هذه التطورات تمنح أعداء إسرائيل الإقليميين، مثل إيران و«حزب الله»، فرصة استثنائية لتوسيع نفوذهم عبر استغلال نقاط الضعف الداخلية. ومع استمرار السياسات اليمينية المتطرفة لحكومة نتنياهو وتعميق الانقسام المجتمعي، ستظل إسرائيل تواجه خطر تفكك داخلي أكبر مهما حاولت قول عكس ذلك من خلال حروب الإبادة والتطهير العرقي في الشرق الأوسط، ما سيُضعف قدرتها على التعامل مع التهديدات الخارجية. إن غياب الإصلاح الحقيقي والمصالحة الاجتماعية يفتح المجال أمام مزيد من التصدعات، ما يجعل الحديث عن إسرائيل القوية والمتماسكة أقرب إلى وهم تتلاشى خيوطه مع كل «خيانة» جديدة.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار