لُجين سليمان
منذ تصاعد وتيرة الحرب مؤخرا، اتفقت مع صديق لبناني مقيم في ألمانيا أن نتبادل الحوار بشكل يومي، لا سيما وأن الأحداث الأخيرة كانت قد أثارت الكثير من الأسئلة لدى كلينا. بدأنا الحوار حول سبب غربتنا، إذ كان قد مضى زمن طويل لم نتواصل فيه، ولم أعرف ما الذي دفعه إلى السفر. أثارتني النقطة التي بدأ كلامه منها، فأخبرني أنه ومنذ الثامنة عشرة من عمره، وفي كل عام عندما كانت تجتمع عائلته من أجل الاحتفال بعيد ميلاده، كان يشعر أن هذا الاجتماع هو الأخير، إذ أدرك منذ الصغر أن بلاده عاجزة، لن تتمكن مستقبلا من لم شمل عائلة بأكملها، بل يجب على فرد أو أكثر التغرب، والسفر من أجل الكسب، لمساعدة من بقي في الداخل.
بعد حديث طويل عن المراحل التي مر بها في غربته، أخبرني أنه وقبل حوالي الشهرين قد قرر العودة من أجل زيارة عائلته، إذ قطع رحلته من ألمانيا ذهابا وإيابا، وعلى الرغم من أن مدة بقائه لم تكن لتتجاوز الأسبوع، إلا أن الهدف الأساسي كان الاحتفال بعيد ميلاد ابن أخته، الوحيد الصغير المدلل في العائلة، الذي لم يره منذ مدة طويلة، فقد اشترى له بدلة رسمية مع ربطة عنق، ليسخر من أناقته. ولكن ومع أول صوت انفجار، أُلغيت الرحلة، فسماء بيروت لم تعد آمنة.
بدأت هواجسه الداخلية تزداد، ففكر أنه قد لا يرى منزله مجددا، فلم يكن يستطيع أن يقترب من مناطق مرعبة في ذهنه، إذ كان يخشى مثلا أن يتخيل أنه قد لا يرى أهله مجددا، فاكتفى بمخاوفه من أن منزله قد يُدمّر. بدأ الحنين يظهر بشدة، لمشاكله مع أخيه الأكبر، تجاهله لأخته الصغرى، ندم لأنه لم يفهم أبويه كما يجب، أصابه ألما شديدا في ذاكرته، ما الذي كان يمنعه من احتضان واقعه السيء مع محطيه كله. تمنى شيئا يشبه إنسانا يحتضر، ويرغب لو كان قد استطاع أن يتعامل مع من حوله بشكل جيد يوما ما كي لا يُمضي حياته تأنيبا وأسى.وبالفعل كان عاجزا، إذ أنه ليس هناك أكثر عجزا من أن تُشاهد الحرب من وراء شاشة هاتفك المحمول، هل هناك أكثر وجعا من أن ترى المنزل الذي جمعك وأخويك بات خرابا، خرابا أقصى أمنياتك هي لمس حطامه. ندم حتى على الأيام العادية التي لم تكن ترضيه، كما لم تكن ترضي الكثيرين منا، إلا أن اليوم لم يعد الندم مجديا، فالأمور خرجت عن السيطرة، والحل ليس بأيدينا كأفراد.
حاول العودة إلى الواقع العملي، بعيدا عن كل الهواجس التي لا تبني سوى احتمالات مرعبة، ومع ذلك لم يستطع استجماع قواه، فأكثر ما استطاع فعله هو أنه قد نهض وأرسل ملابس ابن أخته مع صديقه المسافر إلى بيروت عبر الشركة الوحيدة المتبقية، خوفا من أن يكبر الطفل، وتصغر الملابس، وتستمر الحرب كما حدث مع أهلنا في غزة.
لم تكن لمواساتي أي معنى، فلم أعرف ما الذي يمكن قوله؟ أمضيتُ الوقت صامتة، لأن كل ما قاله لن تداويه كلمة، وقد يكون الصمت أكثر مواساة في هكذا حال. فبكل أسى هذه هي دورة الحياة في بلداننا، نُخيّر بين الرغبة في الموت ببطء بالحصار الاقتصادي في الداخل، أو الموت بسرعة على يد عدو مدعوم بعالم همجي لا يعرف سوى القتل، فيعطي خيارات للموت تحت نيران القصف في الخيم، أو تحت الردم في البيوت قبل ان يُهجّر سكانها إلى خيم أيضا، عندها مهما تعددت الأسباب لن يكون الموت واحدا.
(سيرياهوم نيوز ١-بوابة الشرق الأوسط الجديدة)