محمد ناصر الدين
تقول الأسطورة إنه كانت في الأصل ثلاث عذارى فائقات الجمال والفطنة لا يردن سماع شيء عن الزواج، فتدخّل إيروس مطلقاً عليهنّ سهامه التي تبعث على الرغبة وجمع في الحبّ أبناء الأرض وحوريّات الماء. وهكذا توالد أهل صور المنحدرون من الآلهة. إنها المدينة التي تركت الآلهة سماواتها البعيدة، لتسبح على شاطئها اللازوردي، الساكنة عند مداخل البحر والمخترعة للأرجوان فوق أردية نسائها، والمدينة التي كوّنت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق. وقفت في وجه الإسكندر تقاتل بعينيها وأسوارها، ويقف أبناؤها بخناجرهم يذودون عن بيوتهم وشرفهم حين يستبيحها الغازي. تخترع أمثولة لأبنائها في كل زمن، فيستلهم فتى من قراها اسمه أحمد قصير ما سمعه من حكايات أجداده ويركّع الغزاة الصهاينة في عملية استشهادية عام 1982 ويكتب من عروس عاملة بداية الممكنات. ستظلّ صور المدينة الملونة التي تقدّم الطائر الأزرق قرباناً لبوسيدون، إله البحر ذي الجدائل الزرقاء، فتلتحم الصخرتان الهائمتان في المياه، وينبعث من الزيتونة المباركة زيت يضيء ولو لم يمسسه نار. نسترجع تاريخها على لسان مؤرخها معَن عرب في كتابه البديع «صور حاضرة فينيقيا» ونعرض صفحات المدينة التي ستردّ كيد الشيطان الهاجم عليها إلى نحره، وتجتاز الليل الطويل المزنّر بالصواريخ التي تفتك بالإنسان والبيوت والثقافة وكل ما هو نقيض آلة القتل الصهيونية الهمجية، لترجع إلى حوريات الحب في أفقها المفتوح على فلسطين وتجلس الآلهة إلى يمناها، تتلو عليهم صلاة البحر
وصف المدينة في ملحمة الشاعر نونوس
(القرن الخامس بعد الميلاد)
في الكتاب الأربعين من الملحمة (الأبيات: 298-580) يزور ديونيزوس صور، موطن قدموس وأوروبا، فيتعرف إلى معالمها ويعجب بجمال موقعها، ثم يزور هيكل إلهها ملقرت الذي يرحّب به ويقصّ عليه تاريخ المدينة وتاريخ سكانها:
«ترك باخوس بلاد العرب وارفة الظلال مسرعاً بخطاه ووجهته سوريا، راغباً في أن يتفرج على موطن قدموس وبلد الصوريين. وفي أسواقها لفتت نظره المنسوجات الثمينة، وأعجب بالأقمشة المطرزة في مشاغل أشور، والمزخرفة بالفضة من متاجر بابل، والمناديل المصبوغة بعصارة الصدفة الصوريّة. وعندما وجد اليابسة موصولة بالبحر، تملّكته دهشة مزدوجة، إذ إنّ صور تقع في وسط البحر قطعةً من اليابسة، تلتف حولها المياه من جوانبها الثلاثة، تستلقي فيها كما لو كانت عذراء تسبح تاركة للمياه الرأس والعنق والصدر، ناشرة ذراعيها إلى الجانبين، بينما يضفي الزبد على جسدها بياضاً ناصعاً، وترتكز برجليها إلى الأرض، تضم اليمّ في معانقة متينة. وازدادت دهشة باخوس عندما دخل إلى صور الحصينة، ففيها فقط يجاور راعي البقر ملاح السفينة، وسائق الأغنام الصياد يسحب شباكه من البحر، وعلى أصوات المجاذيف تضرب الماء فاتحة طريقها، تشقُّ سكك الفلاحة الأرض الغنية الخصبة. وهكذا يختلط في مكان واحد هدير البحر بضحكات الأطفال وحفيف السنابل. هنا مرساة سفينة وهناك شجرة مثمرة، على هذه الجهة سفن وملاحة وناقلات، وعلى تلك سكة الفلاحة والمواشي مع ناي الرعاة والمناجل. هنا الشبكة والشراع، وهناك الدرع والسلاح.
قبر احيرام
ولم يسع الإله عند هذا المنظر إلا أن يهتف: إيه! هل هذه هي جزيرة على اليابسة؟ هل لي أن أقول إنني لم أشاهد قط جمالاً كهذا؟ فالأشجار التي تنتصب حتى السماء، تتمايل على نغم الأمواج، وعندما تتناجى حوريات البحر في مخابئهنَّ، تسمعهن جنيات البر اللواتي يرقصن على الأشجار. وعندما تهب رياح الجنوب على الأمواج وعلى الحقول قادمة من قمم لبنان، تحمل مع النسيم المنعش خصباً للمواسم وهدى للملاحين. أيتها المدينة الشهيرة، مالكة روعة الأرض وفتنة السماء، إن البحر ليقبّلك من جهاتك الثلاث!
أسطورة التكوين
يسأل الإله ديونيزوس سيدَ الكواكب هرقل في الملحمة ذاتها: «أيها المرصع بالنجوم، أخبرني عن هذي البلاد وعن شكل الجزيرة! أي إله بنى المدينة، وأي ابن سماء وضع تصميمها؟ من الذي رفع صخورها وثبتها في البحر؟ من خلق هذه الروعة وأعطى الينابيع أسماءها؟ من ربط إلى اليابسة هذه الجزيرة المنشقة عن البحر؟». فيجيب هرقل: «منذ الأزل سكن البشر هنا، عمرهم كعمر الكون، ولدوا يومها من التربة البكر التي لم تفلح، وأنشأوا مدينة على أرض صخرية ثابتة لا تزعزعها الدهور، وقد بقوا في غفوتهم بينما كانت الأرض تتلظّى من حرارة الشمس، وكنت أنا، بقلبي المفعم بالحب للمدينة واقفاً على رؤوس أبناء الطين، فظهرت لهم على صورة إنسان قائلاً كلمتي الإلهية وصوت نبوءتي: انزعوا عنكم هذا النعاس يا أبناء الأرض، وبفؤوسكم الحادة اقطعوا سنديانات الجبل واصنعوا مركبة تسيّرونها على سطح البحر وقوموا بمأثرة تأخذها عنكم باقي الأمم. قصّوا ضلوعاً للسفينة واجعلوها كثيفة حول المحور، وسمروا ألواح الخشب فوق هيكلها، واربطوا الكل رباطاً متيناً لا تحله العواصف، وأعطوا لمركبتكم شكل السمكة التي تسبح في اليم، وأثقلوها بالحجارة لئلا تتلاعب بها الأمواج لو بقيت خفيفة. شقوا سطح المياه بمركبتكم حتى تصلوا إلى المكان الذي اختارته لكم الأقدار. وهناك تجدون صخرتين عائمتين تتقاذفهما الأمواج، وتدعيان العنبريتان (الإمبروزية) لعبيرهما الطبيعي، وفي وسطهما شجرة زيتون عظيمة في أعلاها عقاب، ومن الشجرة تنبعث ألسنة من اللهب، كما تتأجج النيران عند جذعها، فتلتهب ولكن لا تحترق. وحول جذعها يلتف ثعبان مخيف، أمسكوا بالطائر النبيه وقدموه قرباناً لذي الجدائل الزرقاء، واسكبوا من دمه على الصخرتين الهائمتين، فتتوقفان عن الحركة والدوران، وتقترب إحداهما من الثانية لتؤلفا جزيرة واحدة، ثابتة لا تتزعزع. أسسوا هناك مدينة وسط البحار، حصينة من جانبيها.
أصل التسمية
أطلق الصوريون على مدينتهم اسم «صُر» الذي يمكن إرجاعه إلى الأصل «طرّ» الذي يعني في أكثر اللهجات السامية الصوان أو الحجر الحادّ، دالاً بذلك على طبيعة الجزيرة الصخرية القاسية التي بنيت عليها المدينة، فصور تعني في الفينيقية الصخرة. وتروي إحدى البرديات التي كتبها رحالة مصري في عهد رعمسيس الثاني (1292 – 1225) فتروي عن: «مدينة في وسط البحر، اسمها صور الميناء، تنقل المياه إليها بالقوارب، وهي أغنى بالسمك منها بحبات الرمل». وفي رسائل تل العمارنة من أمراء صور وجبيل إلى أمينوفيس الرابع أخناتون، تظهر المدينة باسم صوري Surri. وفي الزمن ذاته، يتكرر هذا الاسم في كثير من الوثائق الآشورية والكلدانية، وفي نصوص التوراة يتردّد اسم صور ابتداء من القرن العاشر ق. م. على شكل «صُر» ער وهكذا يتردد على النقود والكتابات الفينيقية. أما الكتابة العادية للاسم في اللغتين اليونانية واللاتينية، فهو تيروس Tyros الذي يرد للمرة الأولى عند هيرودوت (الكتاب الثاني، وقد اتبعت معظم اللغات الأجنبية هذا الاسم).
الماء الذي شرب منه المسيح
شُبكت المدينة الجزيرة بقنوات تحت الأرض توصل إليها احتياجاتها من المياه من ينابيع رأس العين، والشكل الحالي لبرك رأس العين والرشيدية، وما تبقى من قنوات المياه إنما ترجع كلّها غالباً إلى العصر الروماني، بينما كانت صور في القرن الثاني عشر ق.م. تتموّن بالمياه بواسطة القوارب، ولم يكن فيها في القرن الثامن ينابيع مياه عذبة، حتى إنّ سكانها اضطروا ــــ في حصار دام خمس سنوات ـــــ إلى شرب مياه الخزانات وآبار الجمع لأنّ العدو ترك على البرّ حامية لتمنع سكان الجزيرة من الوصول إلى مياه رأس العين. ويروي التراث الصوري أنّ حجراً رخاميّاً كبيراً كان إلى جانب الينبوع، جلس عليه يسوع ذات مرة ينتظر رجوع بطرس ويوحنا اللذين أرسلهما للمدينة يجلبان منها الخبز، وأن المخلص قد أكل معهما وشرب من ماء النبع.
صور الفينيقية
في سنة 980 ق. م. تولى حيرام بن أبي بعل عرش صور وعمره عشرون عاماً، ووصلت صور في أيامه إلى مركز حضاري وتجاري لا يجارى، وأصبحت بحق «درّة البحر الأبيض وسيدة الأوقيانوسات». وفي عهده، شهدت صور حركة عمران وإصلاح لم يعرفها تاريخ المنطقة من قبل، إذ وجه عنايته بادئ ذي بدء إلى حاضرته وعاصمة مُلكه، وكانت صور، حتى القرن العاشر، تتألّف من جزيرتين: الشمالية (والرئيسية) التي كانت تقوم عليها المدينة، والصغرى إلى الجنوب الغربي، التي لم يكن عليها آنذاك سوى هيكل بعل السماء. وقد سدّ حيرام القناة المائيّة التي كانت تفصل بين الجزيرتين، ووسّع مساحة المدينة وجلب كميات كبيرة من الصخور والحجارة من الجبال إلى شرق الجزيرة الرئيسية، فربح بذلك مساحات إضافية توسعت المدينة عليها. وأولى حيرام دور العبادة في صور عنايةً خاصةً، فرمّم القديمة منها، وجلب خشب الأرز من جبال لبنان لسقفها وأعاد بناء هيكلَي ملقرت وعشتروت، وأقام عموداً من الذهب في هيكل بعل السماء. ولم يقتصر الإعجاب بهذه المنجزات على الصورتين، بل تعدّاهما إلى جيرانهما الذين بهرتهم عظمة صور وتألقها في عهد ملكها الشاب، وكان داود ملك الإسرائيليين أبرز هؤلاء، فلم يبخل عليه حيرام بذلك، وأرسل له خشب أرز ونجارين وبنائين.
الحصار الكبير زمن الإسكندر المقدوني
كانت صور المبنية على صخرة وسط البحر، مع منازلها ذات الطبقات الكثيرة، محاطة بجدران من الحجارة الضخمة، يبلغ ارتفاعها مئة وخمسين قدماً وترتفع فوقها أبراج تسهّل على حماتها مهمة الدفاع عنها، بينما كانت صفوف السفن متأهبة لسد الطريق بوجه من لا ترضى عنه. وكانت المدينة لا تؤخذ من البر، إذ كانت تفصلها عنه قناة يراوح عرضها بين ثلاثة وأربعة ملاعب، والبحر الذي يحيط بالجزيرة كان على جانب كبير من العمق، ولم يكن عنده مكان لنصب السلالم وتسلق الأسوار، إذ كانت هذه تنزلق حتى البحر ولا تترك مكاناً لقدَم. إلى جانب هذه الصعوبة، لم يكن للملك سفن يستطيع بواسطتها قذف أبراج المدينة، ولو حصل على بعضها، فعدم ثباتها وتلاعب الأمواج بها يجعلان قذائفها أقل فعالية، عدا عن إمكان إصابتها وردّ ضرباتها. ولم يبقَ أمام الإسكندر سوى ردم القناة البحرية التي تفصل بين الجزيرة والبرّ، وجمع الإسكندر المقدوني قواده وذكّرهم بأن هذه المدينة هي الوحيدة التي تجاسرت على مجابهتهم وإيقاف موجة انتصاراتهم، ثم دعاهم إلى حث الرجال على العمل وإلى عدم التهاون معهم. وفي كانون الثاني سنة 332 ق. م.، وبهذه الروح، بدأت أعمال الحصار.
(تصوير علي حمود)
بدأ جنوده بنقل أنقاض صور البرية، ثم حولوا أنظارهم إلى غابات لبنان القريبة ليقطعوا منها الصخور والأشجار اللازمة، وظهر بعد مدة قسم صغير من السد فوق سطح الماء، وأدرك عندها الصوريون أيّ خطر يتهددهم إذا استطاع العدو إنجاز البناء، فبدأوا بإرسال قوارب قتال خفيفة إلى جانبي السد، ورموا العمال بالسهام، فقتلوا وجرحوا كثيرين منهم. وهيأ الصوريون سفينة كبيرة ملؤوها بالزفت والكبريت وجذفوا بها إلى السد ثم أشعلوا النار فيها وقفزوا إلى الزوارق التي سحبوها معهم، وساعدت رياح هبّت في هذه الأثناء على نشر اللهب ومد النيران بسرعة. وهدَتهم الحاجة إلى استنباط وسائل جديدة للدفاع، إذ كانوا يربطون الخطافات ومراسي السفن إلى عواميد وصواري ويرمونها فجأة على السفن المقتربة، كما أن الرماح والفؤوس والمناجل المربوطة إلى الأخشاب كانت تلحق أضراراً كثيرة بالمحاربين والسفن. وكانت لديهم قدور كبيرة من الحديد تُملأ بالرمل المتوهج والكبريت المغلي وتصب فجأة من أعلى الأسوار، وما من شرّ كان يخشى أكثر من هذا الرمل الذي كان يحرق كل ما في طريقه وحياته تغرز في الدروع والأجساد. أما الخطافات والمراسي، فكانت تسحب بعد رميها جارفة معها المقاتلين وأجزاء من السفن، وأحياناً سفناً بكاملها. ثم فتح المهاجمون ثغرة في أحد الجدران سرعان ما سدّها أبناء الجزيرة بإقامة جدار كامل وراءها: ومع شهر آب، بدأ الهجوم العام فزعزعت آلات الحصار الجدار الجنوبي، ومن السفن الحاملة للجنود رُميت السلالم المتسلقة على الأبراج، واستولى أدميتوس قائد الإسكندر على أحدها ولكنه سقط تحت ضربات المدافعين، فحلّ ملكه محله، واحتلّ برجين من أبراج الجزيرة ثم تقدّم على رأس جنوده إلى القصر الملكي. وتمكنت سفن الصيدونيين والجبليين والأرواديين من فتح المرفأ الجنوبي بينما هاجمت سفن القبارصة المرفأ الشمالي وملأت دفقات المهاجمين الجزيرة. أما الصوريون الذين أحدقت بهم الأخطار من جميع الجهات، فقد انسحبوا إما إلى الهياكل أو إلى بيوتهم لمتابعة القتال، كما إن بعضهم رمى نفسه بين المهاجمين كي لا يقضي من دون أن ينتقم من الغزاة، وكثيرون منهم صعدوا إلى سطوح بيوتهم وأخذوا يقذفون منها بالحجارة والصخور وبكل ما تقع عليه أيديهم. وأمر الإسكندر بإضرام النار في البيوت وبقتل الجميع، باستثناء من يحتمي في إحدى منشآت صور المقدسة. ورغم أن المنادين أعلنوا ذلك مراراً، فلم يلجأ أحد من المدافعين ليحتمي بالآلهة، بل وقف كل واحد أمام بيته، متأهباً لصدّ المهاجمين حتى النفس الأخير.
تجارة صورة وصناعتُها
كانت تجارة صور تشمل جميع الحاجيات المعروفة آنذاك، فالزيت الذي تنتجه معاصر اليهوديّة كان الصوريون يحملونه إلى ترشيش ويستبدلونه بالفضة، والقدور النحاسيّة التي كانت ترد إلى أسواق صور من قبرص كانوا يذهبون بها إلى بريطانيا وإيرلندا ويستبدلونها بالقصدير، وفي مصر كانوا يسوقون العقاقير والدهونات الطبية والعطور والأواني الزجاجية مارين على أثينا آخذين معهم الأواني الفخارية إلى الشواطئ الإسبانية.
وكان للمنتوجات الزراعية مكان الصدارة في تجارة صور، إذ إن فينيقيا نفسها كانت تستهلك القسم الأكبر منها نظراً إلى كثرة عدد سكانها وانشغال أكثرهم بالتجارة والصناعات اليدوية، وكان ملوك صور يسيطرون على تجارة الحبوب ويرسلون السفن لشرائها. وكانت هذه التجارة مهمة إلى حد جعل النبي حزقيال يرجع إليها أهمية صور الاقتصادية وغناها الكبير.
وكانت الخمرة إحدى السلع المهمة في تجارة صور، ويروي تاسيوس عن روابط وثيقة بين ديونيزوس إله الخمرة وصور، وعن أعياد سنوية كانت تقام له فيها، وأن الصوريّين كانوا يجلون هذا الإله إجلالاً خاصّاً ويزعمون أن الخمرة أنعم بها ديونيزوس على البشرية على إثر احتفاء أحد الرعاة الصوريين به واستقباله بلطف، فكافأه الإله وهداه إلى طريقة صنعها وأوصاه بأن يرشد أبناء مدينته إليها، كتقدمة منه للصوريين.
وكانت شجرة الزيتون نادرة في مصر ومعدومة في بلاد بابل، وإلى هذين البلدين، حيث كانت صناعة المراهم والبلاسم تحتاج إلى كميات كبيرة من الزيوت النقية الصافية كان الصوريون يصدّرون كل احتياجاتها.
وكانت تجارة العطور والبهارات والأفاويه احتكاراً لصور منذ أقدم العصور، حتى أن أسماء أكثر هذه المواد أخذت عن الفينيقية إلى اللاتينية واليونانية.
والقصة التي يرويها هيرودوت عن الطرق التي اتبعها الصوريون والقرطاجيون بالتعامل مع سكان أفريقيا تروي أنهم كانوا يضعون سلعهم على الشاطئ وينسحبون إلى سفنهم بعد أن يوقدوا النار لتنبيه الأفريقيين إلى وجودهم، فيقترب هؤلاء منها ويتفحصونها، ويضعون إلى جانبها من تبر الذهب ما يعتقدون أنه يعادلها، ثم يعودون إلى سفنهم، وعندها يرجع التجّار، فإذا ما وجدوا كمية الذهب تناسب بضاعتهم أخذوها وانصرفوا، وإلا تركوها ورجعوا إلى سفنهم ينتظرون الزيادة. ويقال إن أحداً من الطرفين لم يكن يخدع الآخر، إذ لا يمسّ الفينيقيون الذهب ما لم يجدوه مساوياً للبضاعة، ولا يلمس الأفريقيون السلع قبل أن يأخذ التجار الغرباء ثمنها.
صور وصناعة صباغ الأرجوان
نسب الصوريون اكتشاف هذا الصباغ إلى آلهتهم، وتروي إحدى الأساطير أن هرقل كان يتمشى ذات يوم على الشاطئ الفينيقي وبرفقته تيروس (صور) إحدى حوريات الماء الفينيقيّات، التي كان الإله متيماً بها، وعضّ كلبها على صدفة وجدها بين الصخور ولوّن فمه بعصارتها، فأعجبت تيروس باللون وأقسمت أنها لن تستقبل الإله ما لم يقدم لها ثوباً مصبوغاً بهذا الأحمر البهيّ، تزهو به على أقرانها. وقد اضطر الإله إلى البحث عن كمية من هذه الأصداف واستخراج مادتها الملوّنة لصباغ رداء لحبيبته تيروس التي بنى لها في ما بعد صور وسماها باسمها. ومناطق سكن الأصداف المستعملة في إنتاج الصباغ الصوري كانت تمتد من جبل الكرمل حتى صيدا، لكن أفضل أنواعه كانت تستخرج من الأصداف التي تجمع بين عكا ورأس الأبيض، من أعماق تصل إلى 25 قامة، وتعطي عصارات تراوح ألوانها بين الأبيض والعاجي، تؤلف مواد أو قواعد أساسية عند معالجتها بالحوامض، ألوان الأرجوان المختلفة.
كانت الأصداف تجمع في فصل الربيع، وقبل أن تبدأ بوضع البيض، في سلال ذات فتحات ضيقة تحتوي على لحوم حيوانات بحرية صغيرة كطُعم لاستجلاب الأصداف، فإذا ما دخلت السلّة كمية وافرة منها سُحبت من البحر وبُدِئ فوراً باستخراج العصارة من الحيوانات الحيّة، وكانت هذه الحيوانات تسحق وتستخرج عصارتها، ثم يضاف إليها قليل من الملح، وتترك ثلاثة أيام لتنفصل عنها أجزاؤها الصلبة، وينقل الباقي إلى أوعية من الحجر أو الرصاص، تتخللها قساطل تمر فيها المياه الساخنة والبخار وتحفظ حرارة السائل قريبة من درجة الغليان، وتعطي بعد عشرة أيام سائلاً صافياً ذا لون غامق مائل إلى الحمرة، يشكّل حوالى ستة بالمئة من الكمية الأصلية.
مواقع صور الأثرية
أجرت المديرية العامة للآثار تحت إشراف الأمير موريس شهاب منذ عام 1947 حفريات تشمل مناطق المنارة (الكنيسة الصليبية) تنتصب والخراب المجاور لها المدينة الرومانية والبصّ (منطقة المدافن). وقد كشفت حفريات المدينة عن شارع معبد بالفسيفساء على جانبيه أعمدة من الرخام الأبيض المطعم بالأخضر، في طرفه مبنى كبير مربع الشكل، كان محاطاً من ثلاث جهات بأعمدة من الغرانيت وعلى بُعد ثلاثين متراً من الشارع شُيّد ملعب مربع الشكل تقريباً (45 x 43 م) تحيط به مقاعد حجرية على خمسة صفوف، وعلى جوانبه كانت خزانات للمياه تراوح أبعادها بين أربعة وخمسة أمتار وغير بعيد عن الملعب كانت الحمامات التي لم يكن لأيّ مدينة إغريقية أو رومانية غنى عنها.
وبالقرب من الكنيسة الصليبية، عُثر على مذبح حجري مكرس لإله المدينة ملقرت – هرقل مع عبارة التقدمة: «قدم هذا المعبد شكراً للإله المقدس هرقل، ديودور بن نطعمبعل بعدما كرّمه مجلس المدينة والشعب لاستقامته وإخلاصه وكرمه». وأدت حفريات البصّ، حيث يتصل سدّ الإسكندر بالبرّ الصوري إلى العثور على قوس نصر يبلغ ارتفاعه عشرين متراً، في أول الشارع الذي يؤدي إلى صور الرومانية، والمعبد بمربعات حجرية لا تزال آثار العجلات ظاهرة عليها. كان هذا الشارع محاطاً من جانبيه بالأعمدة والدكاكين، كانت قناة المياه تسير في محاذاته، فتزود سكان المدينة بمياه الشرب من برك رأس العين في هذه المنطقة وجدت كمية كبيرة جداً من النواويس (تعود إلى ما يقارب منتصف القرن الثاني وأول الثالث)، يقارب عددها الثلاثئة، بينها عشرة عليها نقوش مأخوذة موضوعاتها من الإلياذة والأساطير الإغريقية، تعتبر من أدق وأروع ما نقش في العصر الروماني كله: منها ثلاثة تعبّر عن مشاهد من حياة أخيلس وحصار طروادة، ويمثل بعضها مشاهد معارك تخوضها الفتيات المحاربات (Amazones)، كما يعبر أحدها عن تعلق فيدرا بهيبوليت وصدّ هذا الأخير لها، ويصور ناووس آخر مناظر نشوة ورقص تؤديها حاشية باخوس الثملة.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار