| د. رحيم هادي الشمخي
هو امرؤ القيس، الملك الضليل جندح بن حجر الكندي من أشهر شعراء الجاهلية، بل أولهم منزلة في طبقات الشعراء العرب، أبوه آخر ملوك بني أسد، أمه فاطمة بنت ربيعة أخت كليب والمهلهل الشاعر والفارس الذي أصدأ السيوف في يمينه طوال أربعين سنة وحرقة ثأر كليب لم تهدأ في روحه، سمي الملك الضليل لعجزه عن إدراك ثأر أبيه واستعادة الملك الذي كان معقوداً لأبيه وأجداده.
ما أقصر الأحلام الجميلة!
كان الزمان رخياً وامرؤ القيس لاهياً عن شجون الدنيا منغمساً في لذاتها، أبوه ملك وأمه أخت ملك وهو أصغر إخوته، الخارج عن طاعة أبيه وقوانين عشيرته، شاعر المعلقة الأولى.. يستريح على الأرائك ويأكل الشهد، يقضي أوقاته في صيد وقنص وجلسات سمر وشعر.
وفي حاله هذا جاءه تابع أبيه، وقف على مقربة منه وهو يلعب النرد مع أصحابه، ونظر إلى الرجل الذي حمل معه سيف أبيه ودرعه وجواده وقدوره، ولكن أين حجر بن أكل المرار الذي وضع الرقاب تحت السيوف أين؟
قال الرجل، مات الملك.. قتل بنو أيد أباك؟
وجم الجميع وساد الصمت، ثم قال امرؤ القيس لأصحابه لنواصل اللعب ثم تمتم ساخراً..
ضيعني صغيراً.. وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا خمر غداً اليوم خمر وغداً أمر.
الوداع يا ليالي العشق ونزقات الشعر ولم يبق غير قتاد الروح، من دون أن يسأل الرجل، قال له: وصية الملك ألا أسلم درعه وسيفه لمن يجزع ويبكي وإخوتك الأربعة بين باك ولاطم ونائح كالنساء!
في البدء تخيل الأمر من خداع النفس أو من أحلام ليالي السكر، لكنه بدأ يفيق ولابد من إدراك الثأر، وأخذ يستعيد الأيام التي عاشها والذكريات التي توارثها من أيام جده أكل المرار الذي دانت له الرقاب.. ثم شرع يقرأ مطلع قصيدته الأولى التي اعتلى فيها شعراء المعلقات:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
استرجاع لماضي الزمان
نشأ امرؤ القيس بأرض نجد في كنف أبيه من بني أسد وسلك مسلك المترفين من أولاد الملوك يلهو ويلعب، يعاقر الخمر ويغازل الحسان، وأنه أنفق وقته في التشبيب بالنساء والخروج في ذلك حد الصراحة في الفحش منصرفاً عن أرث أهله واعتداده بالملك وقيادة الشجعان، فكرهه أبوه لذلك وزجره عن اللهو ولما أخفق في إطاعته لما يريد طرده وأقصاه عن الديار، فالتف حول امرئ القيس بعض ممن يحبون شعره ويرغبون في مشاركته الصيد واللهو وقول الشعر.
إنه الثأر ولا فرار منه..
وما بين هول الفجيعة وإغفاءة السكر قال امرؤ القيس لندمائه:
– إن الشجا يبعث الشجا، والدماء لا تريد أن تجف، قسم جدي قبائل العرب بين أبنائه، قسم بينهم ميراث الكراهية وجعلهم يحلمون بملك العرب كما كان جدهم الأكبر أكل المرار، في الأمس قتلوا الحارث بن عمر بعد أن نهضوا من ذل الأسر وفداحة الأتاوات، واليوم دارت الدوائر مرة أخرى على ابنه «حجر» بعد أن أمعن في القتل طلباً للثأر وإذلال القبائل.
وسط هذه الدائرة من الدماء كنت أهرب من الجميع وأحاول أن أوهم نفسي أني لست منهم، لا ظل لي ولا جذر بينهم، قال لي أبي يوماً: أنت تقول الشعر وهذه صفة تأنف منها الملوك وصاح في قومه غاضباً.. كيف نرضى بمن يصاحب السكارى، كلهم لفظوني، نزعوا مني صفة الإمارة من دون أسف!
ولكن الجذور هي الجذور.. وهذا ميراثي، أب مقتول، وعرش لا أريده وثأر ثقيل الوطأة.
وبدأ ينظر إلى ما تركه أبوه، خمسة دروع يتوارثها ملوك كندة ملكاً بعد ملك وسيف وجواد وبعض القدور.. أهذا أنت يا حجر ابن أكل المرار.. وصرخ بالثأرات الملك.. سارت كندة وبكر وتغلب خلفه طلباً للثأر، واختلط صهيل الخيول بصليل السيوف وتناثر الدم يملأ الوديان.. بنو أسد لم يكونوا فريسة سهلة والصحراء مغارة كبيرة ومن سار خلف امرئ القيس من فرسان كندة وبكر وتغلب يكرهون الملك المقتول، وفي صباح إحدى المعارك رفضوا اللحاق ببني أسد ومقاتلتهم.. وقالوا لملكهم المنتظر لقد أصبحت ثأرك.
ولكني لم أقتل قتلته، وتركوه وحيداً مع الجثث ونعيق الغربان، ولكنه ثأر أبي والعرش الذي أكرهت عليه، إنه قدري الذي لا مفر منه.
وأخذ يستجير بالقبائل الواحدة بعد الأخرى وتقع من أجله حروب عدة، وبدأت رحلة التردي، من صحراء إلى جبل ومنه إلى مغارة إلى فخ جديد وما أضيق الصحراء في وجه المطارد.
ثم نزل في فزارة عند جابر بن مازن، وكان حكيماً فأبلغه حقيقة مهمة، أنه لا قدرة له على مقاومة الذين يطلبون دمه وقال له: إني أراك في ضل من قومك وأهل البادية أهل بر لا يملكون حصوناً تمنع الأعداء من الوصول إليهم وليس لك الأبلق حصن السموءل ببلدة تيماء.
وكان الرجل كريماً، رحب به وسمح له بالإقامة لكن الحصن مكتوم الأنفاس يختنق الشعر ويتطاول الليل فيه ولابد من الرحيل، وأودع ابنته ودرعه وسيفه عند السموءل.
إلى أين؟ إلى الشمال
واستنجد بقيصر الروم فأكرمه ومنحه إمارة فلسطين، ولكن ماذا أفعل بالإمارة، أريد ثأر أبي واستعادة عرش ملوك كندة، وأعد له جيشاً لتحقيق هذا الأمر، لكن امرأ القيس في رحلة التردي هذه لا يعرف ماذا يفعل، وعاد الجيش قبل أن يغادر أرض الروم، وقفل الملك الضليل راجعاً وحده وقد اشتدت عليه القروح، ومات ودفن في أنقرة قبل الهجرة بمئة عام تقريباً.
شاعر المعلقة الأولى
يعتبر امرؤ القيس رأس فحول شعراء الجاهلية المعروفة أخبارهم، وإن كان مسبوقاً «بزمان قول الشعر» بشعراء مثل أبي داوود الأيادي وخاله المهلهل بن ربيعة، إلا أنه سبقهم في طرق كثيرة من أبواب الشعر، والإفاضة فيه، فهو أول من أجاد القول في استيقاف الصحب، وبكاء الديار، وتشبيه النساء بالظباء والمها وفي وصف الخيل بقيد الأوابد، وتقريب مأخذ الكلام وتجويد الاستعارة وتنويع التشبيه، ويغلب على شعره التشبيب والوصف أيام صبوته وبث الشكوى من الزمان وتنكر الخلان زمن محنته!
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى علي بصلبه
وأردف إعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وشعر امرئ القيس غلبت عليه حياة بالبداوة في جفاء العبارة وخشونة الألفاظ وتجهم المعاني لكننا نراه ينتقل من حسن الديباجة وبديع المعنى إلى مقاومة الوصف وسهولة المأخذ، ما جعل الشعراء الذين خلفوه يحاكونه في رقة قصائدهم ومن أبياته المعروفة:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
فليس على شيء سواه بخزان
فإنك لم يفخر عليه كفاخر
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
(سيرياهوم نيوز-الوطن)