وسام كنعان
القاهرة | في العام الماضي، أجّل «مهرجان القاهرة السينمائي» دورته الخامسة والأربعين، تضامناً مع ما يحدث في قطاع غزّة من إبادة صهيونية. لكنّ الدورة انعقدت هذا العام في الموعد المحدد ما بين 13 حتى 23 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي في دار الأوبرا في القاهرة، لتدشّن فرقة «وطن للفنون»، الآتية من غزة، احتفال الافتتاح برقصة فلسطينية على أنغام تراث الأرض المحتلة. تلفّحت الفرقة بالكوفيات بينما تزيّنت صدور الجمهور بعلم فلسطين الذي وزّعته لجان المهرجان على جميع الضيوف. وقال رئيس المهرجان الممثل حسين فهمي في كلمته: «كانت وما زالت القضية الفلسطينية هي قضية مصر لأنها تمثل العدل والكرامة، ومن مكاني هنا أعرب عن تضامني مع أشقائنا في فلسطين وغزة، ولن ننسى إخوتنا في لبنان الذي يعاني منذ سنوات وهو في اختبار صعب، ونحن نتضامن مع شعبه».
افتتح فيلم «أحلام عابرة» الفلسطيني «مهرجان القاهرة السينمائي»
وكان لافتاً مقاطعة المهرجان المصري الأعرق لجميع الرعاة الاقتصاديين الذين يدعمون الكيان الصهيوني، فيما كان أفضل خيار للافتتاح الفيلم الفلسطيني «أحلام عابرة» للمهرج رشيد مشهراوي. مَن لا يعرف السينمائي الفلسطيني الأبرز من بين أبناء جيله، فقد ولد عام 1962 في مخيم الشاطئ في غزّة، ثم بدأ مشواره في مطلع ثمانينيات القرن الماضي مع فيلم تسجيلي أول بعنوان «الشركاء» لتمرّ خمسة أعوام كاملة حتى يتمكن من إنجاز فيلمه الثاني «جواز السفر». بعدها، صار الرحالة الفلسطيني حاضراً في أهم المحافل السينمائية العالمية. لعلّ أحد أهم أفلامه كان عام 2005 بعنوان «انتظار» (2005)، السمة التي لازمت حياته منذ الولادة، بعدما انتقلت إليه من عائلته التي هجّرت عن أرضها في يافا عام 1948 وهي تعتقد أنّ إقامتها خارج الوطن لن تزيد على أسبوعين. لكنّ الإقامة الموقتة صارت عنواناً دائماً، ومرّ العمر ولم ترجع فلسطين بعد!
على أي حال، لا يتضمن «أحلام عابرة» (بطولة أشرف برهوم واميليا المصو وعادل أبو عياش) رسائل مباشرة وآراء حادة، إنما سينسحب نحو مطرح أكثر سينمائية وشاعريةً وسينفرد بالشيفرة الآسرة التي تقول: يمكنك أن تضمّن أكثر المفاهيم عمقاً وغالبية القضايا تعقيداً في طرح بسيط وسلس وفرجة حيوية ممتعة! هذا بالضبط ما يقترحه البناء الحكائي لفيلم «أحلام عابرة» الذي ينطلق من قصة سامي البالغ 12 عاماً، الذي يقرر السفر من مخيّم قلنديا حيث يعيش مع أمّه، إلى بيت لحم ليقابل خاله هناك ويبحث معه عن الحمامة التي أهداه إياها قبل أسبوعين وتعلّق بها كثيراً، لكنها طارت وحتماً عادت إلى موطنها الأصلي!
في البداية، يمنع حاجز الاحتلال الميكروباص الذي يقلّ سامي من الدخول، فيجرّب الطفل العبور وحده، ليجابه بفوهات البنادق، فتسلك القافلة درباً آخر، ليصل الطفل إلى دكان خاله. المهم يبدو الخال قريباً جداً من الطفل، ويحمّل نفسه مسؤولية اعتقال والده الذي وقف في وجه الاحتلال عندما قرر تحويل أرضه إلى مستوطنة. وكان الخال مسؤولاً عن تهريبه عندما كان الصهاينة يلاحقونه، إلى أن تأخر ذات مرّة لعدة دقائق كانت كفيلة بالقبض على الرجل. يسأل الخال شريكه في الشغل عن الحمامة، فيقول له إنّه جاء بها من القدس القديمة. يقرّر الخال التوجّه إليه مع ابنته وسامي، فتتعرض المجموعة لمضايقات هائلة عند حاجز الاحتلال تتجاوزه بصعوبة من دون أن يتمكّن الطفل من العثور على ضالته، لأنّ الحمامة لم تعد إلى القدس القديمة، بل إنّها غالباً طارت لصاحبتها الأصلية في حيفا! يصاب الطفل بالخيبة فيعده خاله بأن يسافر يوماً إلى حيفا ليستعيد له طائره، من دون أن يعجبه ذلك، ثم يرضخ لرجاءات ابنته بأن يسافروا فوراً إلى حيفا وهذا ما يحصل. يصل الجميع إلى بيت أم وليد في حيفا لكنها لم تكن موجودة، بل سيطر المستوطنون على البيت! تخضع العائلة المحتلة لطلبات الرجل بأن يتفقدوا حظيرة الحمام على السطوح من دون فائدة لتعود الرحلة خالية الوفاض بعد اعترافات الطفل بأنه تعلق بالحمامة التي أراد أن يدربها على إيصال الرسائل وتمنى لها أن توصل رسائله لأبيه في المعتقل.
في فيلم الطريق هذا الشاعري والمليء بالرموز، استخدم مشهراوي براعته بعين راصدة ومدركة وحساسة، ليريك شيئاً من واقع فلسطين المحتلة وتفاصيلها ويومياتها في ظلّ الاحتلال ولو أنّ الأخير بدا في خلفية الأحداث. وارتكز إلى فكرة واقعية تقول إن الصهيوني موجود على الحاجز، وفي الأسواق، وبين المدن، وفي كل مكامن القوة وهو مدجّج بسلاحه، فيما مستوطنوه يسكنون بيوتنا بعد احتلالها، وفي كل مستوطنة، هناك قلب فلسطيني معلق بأرضه ينبض على شكل قنبلة موقوتة يمكن لها أن تمحي أثر المستعمر في لحظة واحدة! هكذا، يمكن للمشاهد حسن النية أن يتلقف رسائل الفيلم الذي يكتنز على قاعدة ذهبية في تضمين البساطة أعلى درجات العمق!
سيرياهوم نيوز١_الاخبار