حسين شكر
تطورت دراسات الحرب كحقل أكاديمي من الفكر العسكري المبكر والتحليل التاريخي إلى مجال منظم بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تركّز على الجوانب السياسية والإستراتيجية والأخلاقية للنزاعات. بناءً على أعمال مفكرين مؤسّسين مثل صن تزو، و كلاوزفيتز، وميكافيلي، اكتسب هذا المجال زخماً إضافياً وأهمية خاصة في الحرب الباردة، ولا سيما مع إنشاء برامج مثل قسم دراسات الحرب في كلية كينغز في لندن. اليوم، أصبحت دراسات الحرب متعددة التخصصات، إذ تشمل دراسة الحروب التقليدية وغير التقليدية، بما في ذلك مكافحة التمرد، والإرهاب، وحرب الإنترنت، وبناء السلام. ويهدف هذا المجال إلى فهم أسباب الحروب وتأثيراتها، عبر دمج رؤى من التاريخ والعلوم السياسية والتكنولوجيا والأخلاقيات لفهم الصراعات المتغيرة في عالم معقد ومترابط.
ومع تطوّره ودخول عوامل جديدة في حركة ما بعد الحداثة مثل مفهوم الدولة نفسها، ما شكّل طبيعة مختلفة للحروب عمّا كانت عليها سابقاً، اختلفت التوجهات النظرية حول محددات الانتصار والهزيمة في الحروب، وانقسمت في الأعم الغالب إلى ستة محددات لكل منها مؤيدوها ومنظّروها أكاديمياً، وهي غير مقسمة منهجياً لكنني أقسّمها هنا إلى:
الفوز العسكري، تحقيق الأهداف السياسية، الاستقرار والصمود الاقتصاديين، الفوز النفسي والأيديولوجي، تحليل الخسائر والمكتسبات، الشرعية والإدراك العام.
وإذا كان قد اختلف المنظرون حول ماهية هذه المحددات فقد اتفقوا على أنها تختلف بين الحروب التقليدية (التي هي عادة تحدث بين الدول) وبين الحروب غير المتكافئة (تحدث بين الدول وحركات مسلّحة) كحالة الحرب الدائرة حالياً بين إسرائيل ككيان يهدف إلى الاحتلال وحزب الله كمقاومة مسلّحة تأخذ طابع المنظمة، بمعنى أنهم اتفقوا أن محددات الفوز للدولة تختلف في التكافؤ والتساوي عن تلك التي للمقاومة نظراً إلى طبيعة الحرب غير المتكافئة أصلاً.
المحددات:
ففي الفوز العسكري يعتقد المنظرون أنه لتحقيق النصر، على المحتل إنهاء تهديد المقاومة وتحقيق سيطرة كاسحة على الأرض المنوي إزالة خطرها تُنهي أي عمل مقاوم فيها، وهو ما يتضمن قمع أي عمل مقاوم والسيطرة على النقاط الجغرافية الأساسية وخلق وجود عسكري يمنع مقاومة مستقبلية. أمّا النصر العسكري لدى حركات المقاومة، فهو بالبقاء واستمرار فعل المقاومة نفسه وإظهار الصمود، ما يمنع المحتل من تحقيق السيطرة الكاملة ويؤرّق وجوده العسكري.
في تحقيق الأهداف السياسية، يعتقد المنظرون أن نصر المحتل يكمن في قدرته على التحكّم بشكل فعّال في عمليات صنع القرار في الدولة المحتلة، وتأمين وصوله إلى مواردها، والحفاظ أو إيصال حكومة موالية له للحكم في المنطقة المحتلة. هذا قطعاً مع إمكانيته على تحقيق أهدافه التي وضعها إبان دخوله الحرب. أمّا نصر المقاومة، فيكمن نجاحها في منع المحتل من تحقيق أهدافه السياسية، مثل إجباره على التخلي عن السيطرة أو جعل احتلاله غير فعّال وبلا جدوى.
في تحليل الخسائر والمكتسبات، يفوز المحتل إذا استطاع تحقيق أهدافه من دون أن يتكبّد خسائر فادحة، ففي حال إنضاب المقدّرات واستنزافها وفي حال الإضرار بالمكانة والسمعة الدولية فإن من الممكن أن تكون تكلفة الحرب أكبر من مكتسباتها، ما يعني هزيمة قطعية. أمّا بالنسبة إلى المقاومة، فالمحدّد هو إمكانيتها في إلحاق أكبر قدر من الخسائر والأكلاف المختلفة، عسكرياً، سياسياً، بشرياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وإضرار بالسمعة، ما يجبرها على الانسحاب أو تغيير أهدافها.
إنّ المنظرين يضعون مكتسبات مثل السيطرة على مواقع جغرافيّة حساسة، أو اعتقال قادة المقاومة فضلاً عن اغتيالهم تحت تصنيف المكتسبات التكتيكية التي لا تعني النصر في الحرب
في الشرعية والإدراك العام، يكسب المحتل إذا استطاع إنشاء ووضع نظام جديد في الدولة المحتلة مع قدرته على الحفاظ على شرعية دولية وشرعية شعبية، ما يجعل الشعب يدرك وجوده كحالة نفعية وضرورية. أمّا المقاومة، فتكسب إذا استطاعت المحافظة على شرعيتها أمام شعبها الذي يراها الحامي الشرعي لسيادة وطنه.
في الفوز النفسي والأيديولوجي، يفوز المحتل إذا استطاع كسر إرادة المقاومة، وإنشاء هيمنة أيديولوجية، ما يُعيد تشكيل الهوية أو الولاء للشعوب المحتلة. وهذا عبر إقناع الناس بشرعية فعله وفرض قيمه الخاصة وسلخ القيمة الأخلاقية عن المقاومة. أمّا حركة المقاومة، فتنتصر إذا استطاعت الحفاظ على معنويات عالية، قدرة إقناع أيديولوجي، ودعم شعبي. وهذا يحدث إذا نجحت في الحفاظ على شعبيتها وتأثيرها في جمهورها، ما يُبقي هويتها المقاومة وهدفها الأيديولوجي قويين.
في الاستقرار والصمود الاقتصاديين، ينتصر المحتل إذا استطاع أن يخلق جدوى اقتصادية من احتلاله من دون تكبد خسائر تجعل من استمرارية المكتسبات عبئاً. إضافة إلى ذلك، فهو ينتصر بقدرته على الحفاظ على ديمومة اقتصاده المحلي من الاستنزاف المالي جرّاء حربه. بمعنى آخر إذا قادت حربُه إلى استنزاف مالي، وعجز موازنة، وخلل في الاقتصاد الداخلي من إنفاق عسكري مرتفع وقيود استيراد وتصدير، فإن هذا ليس بانتصار. أمّا حركة المقاومة، فانتصارها في المقام الأول هو قدرتها على تعطيل أهداف المحتل وأطماعه الاقتصادية وجعل كلفة الاحتلال والحرب عبر الاستنزاف عالية جداً. وفي المقام الثاني، انتصارها هو قدرتها على إبقاء الاقتصاد المحلي في حالة صمود مثل الوصول إلى الموارد وهو ما يكون أيضاً عبر منع الاقتصاد المحلي من الانهيار الكلي.
للخروج من هذا الإطار النظري والدخول إلى تطبيقات عملية تتعلق بسياق حرب إسرائيل على لبنان، فإذا أردنا القول بانتصار إسرائيل فعليها: – في الفوز العسكري، أن تسيطر على جنوب الليطاني سيطرة كاملة تمنع من وجود عسكري مقاوم يناوئ أهدافها الأمنية.
– وفي تحقيق الأهداف السياسية، ومع تعذر إمكانية إيصال قوى سياسية موالية لها في لبنان إلى الحكم، فعليها بالحد الأدنى إيصال سلطة سياسية تأخذ في الحسبان هاجسها الأمني وتعمل على تلبيته.
– وفي تحليل الخسائر والمكتسبات، عليها أن تحقق أهدافها التي وضعتها من دون أن تتكبّد خسائر استنزاف اقتصادية وسياسية وسمعة دولية أعلى من مكتسبات أهدافها.
– وفي الشرعية والإدراك العام، عليها كسب شرعية شعبية ضمن اللبنانيين مع إدراك أن وجودها ضرورة للبنان.
– وفي الفوز النفسي والأيديولوجي، عليها إعادة تشكيل هوية اللبنانيين وفرض قيمها وأيديولوجيتها الخاصة وسلخ قيمة المقاومة منهم.
– وفي الاستقرار والصمود الاقتصاديين، عليها أن تخلق جدوى اقتصادية تعود عليها بالفائدة المادية من حربها على لبنان من دون أن يُصاب اقتصادها الداخلي بخلل.
أمّا حزب الله:
– في الفوز العسكري، عليه أن يبقى ويستمر في فعل المقاومة، ما يمنع الإسرائيلي من تحقيق إنجازه العسكري.
– وفي الأهداف السياسية، منع الإسرائيلي من تحقيق أهدافه السياسية من إرجاع المستوطنين بالقوة إلى الشمال وفصل جبهة لبنان عن غزة.
– وفي تحليل الخسائر والمكتسبات، عليه إلحاق أكبر قدر من الخسائر عسكرياً، سياسياً، بشرياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وإضرار بالسمعة، ما يجبر العدو على الرضوخ للأمر الواقع.
– وفي الشرعية والإدراك العام، عليه الحفاظ على شرعيته أمام اللبنانيين الذين يرونه أساس حماية سيادتهم وكرامتهم كما كان على مدار 40 عاماً.
– وفي النفسي والأيديولوجي، عليه الحفاظ على زخمه الأيديولوجي ودعم اللبنانيين له، وهذا يعتمد كثيراً على صمود بيئة المقاومة في مواجهة مصاعب الحرب من تهجير وفقدان أحبة وخسارة ممتلكات.
– وفي الاستقرار والصمود الاقتصاديين، عليه منع الاحتلال من تجيير إنجازاته العسكرية إلى مكاسب اقتصادية.
وحتى مع هذه المحددات جميعاً، فتحديد المنتصر من المهزوم يحتاج إلى عامل الوقت ليس فقط ليوم إعلان وقف القتال، بل إلى مدة زمنية تتجاوز هذا اليوم وتكون كافية لإظهار الديناميات الجديدة التي سيرسيها اتفاق وقف إطلاق النار نفسه. أمّا الذين يقولون بهزيمة حزب الله حالياً في خضم الحرب، فهم إن لم يكونوا من المثبّطين الموجودين في كل زمن حرب، يسعون إلى استغلال المعارك بما يخدم أجندتهم الخاصة، فهم قطعاً من الجهلة الذين لا يعلمون بدراسات الحرب. وهذا بطبيعة الحال لا يعني بأن حزب الله لم يتلق ضربات قاسية كالاغتيالات وهجوم البايجر وضرب جزء من القدرات الصاروخية، لكن ضمن إطار دراسات الحرب تبقى هذه الضربات في إطار المكاسب التكتيكية التي يتوجب على محققيها تجييرها في سياق مكاسب إستراتيجية لتحقيق النصر. بمعنى آخر، إنّ المنظرين يضعون مكتسبات مثل السيطرة على مواقع جغرافية حساسة، أو اعتقال قادة المقاومة فضلاً عن اغتيالهم تحت تصنيف المكتسبات التكتيكية التي لا تعني النصر في الحرب، بل يعتقدون أن المكاسب الإستراتيجية، مثل السيطرة العسكرية الساحقة وتحييد قوى المقاومة، هي وحدها التي تستطيع تحقيق هذا النصر. وعليه، فإن عملية البايجر واغتيال جزء من الصفين الأول والثاني لقيادة حزب الله على رأسهم الأمين العام الشهيد السيد حسن نصرالله، ليست إلا إنجازات تكتيكية لا تضمن لإسرائيل نصراً حتى تستطيع تجيير هذه الضربات إلى إنجازات إستراتيجية مثل القضاء الكامل على قوة وقدرة حزب الله البرية والجوية والصاروخية في جنوب نهر الليطاني (التي هي ألزمت نفسها بها)، ومن يعتقد بغير ذلك فهو، مجدداً، واهم جاهل أو من محبي الإحباط والخنوع والإذعان.
* باحث لبناني
سيرياهوم نيوز١_الاخبار