بيروت حمود
ارتكب جنود الاحتلال الإسرائيلي فظائع لا تُمحى، من الصعب حتّى على من هم خارج غزة مشاهدتها، نظراً إلى قساوتها ووحشيّتها واستحالة تخيّلها بالنسبة إلى العقل البشري «الطبيعي». غير أنّ هذه الفظائع التي عادة ما تركت أثرها في الحروب التاريخية على مرتكبيها، لم تفعل ذلك بالجنود الإسرائيليين. وعلى رغم ما تقدّم، فإن هؤلاء يعانون صدمات نفسية، وخصوصاً منهم الجنود في الخدمة النظاميّة، والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 عاماً، وسببها ما عايشوه خلال القتال. في سلسلة تقارير وتحقيقات نشرها موقع «همكوم هخي حام بغهينوم» (المكان الأكثر حرية في الجحيم) العبري، تسلّط الكاتبة رافيتال حوفيل الضوء على الصدمات النفسية التي يتعرّض لها الجنود في الألوية النظامية والاحتياطية، والتي دفعت نحو 25% منهم إلى رفض الاستمرار في القتال، وطلب التسريح لأسباب طبية ونفسية، في ما يمثّل «ظاهرة يجري إخراسها».
في واحد من تلك التقارير، يُنقل عن إحدى أمهات الجنود قولها، إنه بعد مرور أكثر من سنة على الحرب التي لا أحد يعرف إلى أين تسير وكيف ستبدو نهايتها، بدأ الجنود يصفون أنفسهم بأنهم «سود»، وهو ما يعني بالتعبير العسكري أنهم «باتوا في حالة اكتئاب، وتآكل معنوي ونفسي، وفاقدي الحافزية والدافعية تماماً». ويلفت تقرير آخر إلى أن الجنود النظاميين اعتقدوا أن «ما رأوه كان كل شيء… فبعد ثلاث سنوات من جائحة كورونا، وحجر صحي أمام الشاشات، بدا الجيش بالنسبة إليهم بمثابة تجربة منعشة». ولكن فجأة، اندلعت الحرب، و«شاشات جيل التيكتوك تبدّلت بمشاهد يصعب احتواؤها». ويتابع أن «شهادات المقاتلين، وبينهم أولئك الذين ما زالوا هناك، ووصلت أرواحهم إلى نهايتها… «تقشعر لها الأبدان»»، في إشارة إلى الثمن النفسي للحرب.
وفي السياق نفسه، يروي ألون (اسم مستعار كحال غالبية الجنود الذين جرت مقابلتهم بسبب الخشية من ملاحقتهم وتعرّضهم للعقاب)، وهو جندي في سلاح المدرعات، أنه بعد ثلاثة أسابيع من القتال المتواصل في غزة، «تلقّينا صاروخاً. قائدي قُتل أمام عينيّ، والمُذخّر أصيب بجروح خطيرة. أجليناهم؛ المصاب نُقل بمروحية عسكرية، وأنا وجندي آخر نقلونا إلى طاقم معالجة ردود الحرب، في قاعدة سديه تيمان». ويضيف: «كنا من دون أي شيء.. ستراتنا مغطاة بالدماء. أعطانا أحد عناصر الاحتياط بنطالاً وكنزة، وسمحوا لنا بالاستحمام والتحدث مع أهلنا، ثم تحدث كل واحد منّا على انفراد مع ضابط الصحة النفسية».
ويتابع: «عدتُ إلى البيت بعد ثلاثة أسابيع متواصلة، وحضرت جنازة والد صديقي وهو عنصر في الاحتياط قتل في الحرب.. عندما عدت مجدداً إلى غزة، أدركت أنني لم أعد أحتمل. قلت لأحد الضباط إنني أشعر بالانفصال، ولا يمكنني مواصلة الأمر… اليوم أُعالج بواسطة العقاقير الطبية. صحيح أنه لا توجد لديّ استرجاعات، ولكن لديّ أفكار تلاحقني. شُخصت بـاضطراب نفسي حاد (Acute Stress Disorder)، واكتئاب». والاكتئاب، وفقاً للتقرير، هو العارض الأكثر شيوعاً على الإطلاق في صفوف جنود الاحتلال، إلى جانب اليقظة الزائدة والقلق، والعصبية، وعدم الصبر، وعدم التأقلم في البيت خلال العطلة. «في المرتين الأخيرتين اللتين وصل فيهما إلى البيت، رفض النوم في غرفته، وبصعوبة تناول طعامه، وكان في ضائقة نفسية صعبة جداً»، وفق ما يقول شقيق أحد الجنود في أحد ألوية المشاة، مضيفاً: «عندما سألته والدتي إن كان ثمة شيء بإمكانها إصلاحه، قال لها: «روحي».
واحد من كل ثلاثة جنود التقوا بضابط صحة نفسية خلال الفترة المتوسطة الأولى من الحرب
ويشير التقرير إلى أن واحداً من كل ثلاثة جنود التقوا بضابط صحة نفسية خلال الفترة المتوسطة الأولى من الحرب، وأنه «منذئذٍ، الرقم ما فتئ يكبر ويتعاظم». ويتحدث، في هذا السياق، عن استئناف منظمة «أمهات في الجبهة»، والذي قُدّم إلى المحكمة «العليا» بخصوص تآكل المقاتلين، وفيه فصّل الأهالي التدهور المتدحرج في وضع أبنائهم النفسي. ويلفت عوفر، وهو والد جندي في سلاح المشاة، ضمن لواء لا يزال إلى الآن في غزة، إلى أن ابنه الذي تجنّد في آذار/ مارس العام الماضي، كان قد فقد أساساً اثنين من رفاقه الذين لازموه طوال الوقت، وأنه في كانون الأول/ ديسمبر الماضي أنهى دورة قنّاص، وعلى الفور انضم إلى القتال في غزة، و«مذّاك هو هناك. إنه يرى من خلال الهدّافة (المنظار الذي يوضع على سلاح القناص). لديه الكثير من علامات الإكس (في إشارة إلى من قتلهم)… وعندما يعود إلى البيت يحبس نفسه في غرفته، وإن لم يأتِ رفاقه ليخرجوه للتفسح يظل هناك. أخيراً، نمت إلى جانبه في الغرفة نفسها، طوال الليل وهو نائم، كان يعطي التعليمات وكأنه في ساحة المعركة»، وفق ما يضيف الأب. ورداً على سؤال عمّا إذا كان الجندي قد أطلع أهله على ما عايشه، يردّ عوفر: «نعم، يشاركنا بصراحة بمعطيات تقريرية، كأنه صحافي؛ إذ يقول «أصابه. ردّ بإطلاق النار عليه. أنزل به ثلاث طلقات. أخليناه. ضمدت جروحه». ويفيد بـ«أننا استشرنا ضابط الصحة النفسية الرئيسيّ في الجيش، وقال إن هذه إحدى المشاكل التي يعانيها المصابون، وهي إضرابات ما بعد صدمة القتال؛ حيث يشرح لك وضعاً معيّناً من دون أدنى مشاعر». ويخلص الأب إلى أن «الفرصة الوحيدة المُتاحة أمام ابني هي أن يرفض مواصلة القتال، وهو غير مستعد لذلك بعد».
من جهتها، تقول أورنا، وهي والدة جندي مشاة في الخدمة النظامية يقاتل في غزة منذ اندلاع الحرب، إنه «في كل مرة يأتي فيها ابني، يكون متعباً ومنطوياً على نفسه وعديم الصبر». وتضيف أنه «لا يشاركنا ما مرّ به، فعندما أسأله يقول «اتركيني يا أمي ليس لديّ طاقة لذلك».. ولكنه يقول في بعض الأحيان أشياء مثل «هل تعرفين يا أمي ما هي رائحة الموت؟ أنا أعرف». وتُقرّ بـ«أنني لا أعرف ما الذي رآه ابني، ولكنني أعرف أنه بات شخصاً آخر». أمّا الدكتورة نوريت بليزنتال – بيرغر، وهي اختصاصية نفسية تربوية وتنموية وأمّ لجنديين، أحدهما نظامي يقاتل في غزة، والآخر احتياطي يقاتل في الشمال، فتعتقد أنه «لا يزال من السابق لأوانه فهم ما جرى». وتستدرك بأن «من الواضح أنهم مرّوا بأشياء صعبة. إنهم يشاركون ما عبروه بحذر شديد. قُتل اثنان من فريق ابني الأصغر وآخرون كان يعرفهم عن كثب. ولم يتمكن من حضور بعض الجنازات لأنه كان في القتال».
على أن تمار، وهي أيضاً والدة أحد الجنود في «الكوماندوز» ويقاتل حالياً في لبنان، ترى أن «العلاج قصير، ولذلك لا يمكن أن يفضي إلى نتيجة. فمن المستحيل أن تشفى روح في يوم واحد». وبحسب الموقع، فإنها غاضبة بسبب «الاستغلال المتواصل للجنود النظاميين»؛ إذ كما تقول «الآلة مهما كانت، ستستنفد مع مرور الوقت، فكيف بالنسبة إلى مقاتلين في سن الـ 21 عاماً. الاحتياطيون يحظون بالعلاجات، يتسرّحون، وبإمكانهم معالجة أنفسهم بأنفسهم، أما النظاميون، فمن يعتني بهم؟». وتختم بـ«أننا إزاء جيل كامل قد لا يشفى». والأهم، وفقاً للموقع، أنه إذا «كان بإمكان ضابط الصحة النفسية في الماضي تحديد أن المقاتل غير مؤهل حالياً للقتال، فيسمح له بفترة من الراحة، فإنه اليوم وبسبب نقص القوى البشرية، لم يعد ذلك متاحاً إلا من خلال إذن القادة والمسؤولين»
سيرياهوم نيوز١_الاخبار