بقلم د. حسن أحمد حسن
استذكار السنوات الأولى من العمر يحمل في تلافيف ما يصل إلى المرء الكثير من الدفء المُفْتَقَد، وإن كانت المنغصَّات كثيرة والحوائج التي بقيت على الرفوف المنسية أضعاف ما طالته يد الطفولة من أغصان الأمنيات، لكن العزاء لدى الجميع كان في القناعة المشتركة أن ما يمكن إدراكه يكاد يكون متشابهاً، والبيادر أقرب ما تكون إلى نسخة مكررة ما عدا استثناءات قليلة لا يُبْنَى عليها…
في مثل هذه اللحيظات من الأحلام الهاربة بالصدفة من عجلة الزمن التي تطحن الذاكرة كغيرها من معالم الجمال والنقاء والأمنيات المشروعة على سكة العصرنة والحداثة الموبوءة بما نعرف وما لا نعرف من فيروسات قاتلة إلى عالم جميل… في مثل هذه التداعيات الذهنية العابرة يعيش المرء وكأنه في حلم هارب لا يريد التلوث برائحة الموت المنتشرة في الأجواء جراء اللحم البشري المشوي في أفران دعاة الديمقراطية والقادم إلينا على أجنحة الطائرات الحربية وفي رؤوس أكثر الصواريخ طاقة تدميرية تنهال على رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء وكل مظاهر الحياة حيثما يريد “الفاتحون الجدد” وبما يرضي نزعة القتل والسكر بالدماء لدى “شايلوك” وأحفاد من جادلوا الرب بلون البقرة المطلوب ذبحها، ولاسيما أن على الضفة الأخرى من بلاد “الكاوبوي” من انتعل جلود الأبرياء وفراء الضحايا ليستكمل بناء ناطحات السحاب، ويرمم ما تآكل من تمثال الحرية والديمقراطية الغارق في عاصمة الضباب على الضفة الأخرى، وهذا القادم معروف بطيشه وصفاقته وهو مصرٌ على استكمال حلب ضرع البقرة قبل الذبح.
نعود لما تبقى من ذكريات الطفولة فنحن أبناء الستينات وما قبل من القرن الماضي نستذكر بعض حكايا الجدات التي كنا نستعيض بها عن الذهاب إلى الطبيب وقت المرض، فالأطباء قلائل والتوجه إلى العيادة في المدنية البعيدة قد يكون مقدمة للموت قبل الوصول…لم تكن جداتنا تقص علينا ما حدث مع ليلى والذئب والجدة المريضة القابعة في البيت تنتظر الموت، بل معظم الحكايات كانت عن الآباء والأجداد ورحلة الكفاح والصراع مع الحياة والوحوش المفترسة، وسرعان ما تخفَّ الآلام تدريجياً عندما يرد ذكر أبي محمود أو غيره وكثيرة هي الألقاب والأسماء، ولكل قصته الخاصة التي تروي كيف كان يسافر من قرية إلى أخرى وبيده عصاه برأسها المزروع بالمسامير، والحكم بالموت الحتمي على كل وحش يعترض طريقه… بعض الحكايات كانت تثبت في الذاكرة معالم الرجولة وفنون التنافس الرياضي بين شباب القرية في رفع تلك الصخرة الإسطوانية التي يسمونها “معرجلينة”، وكيف تعلو الزغاريد بتنصيب الفائز بطلاً من مختار الحي أو الأكبر سناً بين الحاضرين، وعندها تلاحقه عيون الصبايا الحالمات بأن تكون كلاً منهن عبلة حبيبة عنترة العبسي الذي حمى أهله وقومه، لا “ليلى” التي جن عشيقها، ولا ليلى التي ينتظرها الذئب على أطراف القرية.
لا أدري لماذا ضغطت على الذاكرة وبقايا الروح تداعيات قصة ليلى والذئب التي اعتاد الأطفال في العقود الأخيرة على سماعها من الأمهات وحتى عبر الأجهزة الخليوية التي صادرت الكثير من نقاء الطفولة، واستطاعت أن تحدد مجرى الحياة المرسوم والمفروض على أكثر من جيل، ماذا نحن فاعلون؟
دمعة ساخنة حفرت مجراها على خدي دونما استئذان وأنا أسأل نفسي: ترى أية حكايات سترويها طفلة اليوم عندما تصبح أما أو جدة لأولادها وأحفادها قبل النوم؟ … عن أي ذئب وعن أية ليلى ستتحدث الطفلة السورية التي تصبح أما أو جدة؟ هل تروي قصة قطعان الذئاب التي هاجمت القرى والبلدات وبقرت بطون الحوامل وقطعت أثداء العذارى، أم عن تلك الوحوش التي ألقت بالأطفال والنساء والرجال أحياء في الأفران ومن على أسطحة المنازل، أم أولئك الأكثر توحشاً الذين كانوا يمطرون دمشق وبقية المدن السورية بالقذائف والمفخخات ليصادروا حق الحياة، ويلتقون مساء يتبادلون أنخاب الترويع والترهيب مع كبيرهم الذي يروي لهم كيف حطم بقية “مجاهديه” رؤوس صواريخ منظومات الدفاع الجوي بالمطارق والأحجار الصلبة؟ … قد لا تضطر “ليلى السورية القادمة” لرواية تلك القصص القذرة، فهناك من تكفل مسبقاً بذلك: بعض أصحاب ربطات العنق “الرسن” الذين تباهوا بأنهم إعلاميون أحرار بالنقل المباشر لكل ما قام به “ثوار الغفلة” من إجرام ومجازر باركها برنار هنري ليفي وغيره من أكلة اللحم البشري، وتدفقت عشرات مليارات الدولارات من مصادر شتى لتمويل ذلك.
أية ليلى تلك التي ستروي قصتها الطفلة الفلسطينية التي ترى على مدار الساعة ألف ذئب ووحش مسعور… “ليلاتنا ــ جمع ليلى” أكبر من أن يحصيها عدد، وذئابهم ووحوشهم وكلابهم المسعورة تجاوزت كل ما عرفته البشرية من إجرام ومجون في القتل وسفك الدماء البريئة… ليلى الفلسطينية في الغد ستعانق شقيقتيها اللبنانية واليمنية، وتحذف كل منهن من الذاكرة كل ما له علاقة بالطفولة لأنها حُرِمَتْ من كل حقوق الطفولة وإنسانية الإنسان… ليلى الباقية التي ستصبح أما وجدة في كل جغرافيا تقول: “لا” لأَكَلَةِ اللحم البشري في العصر الحديث … ليلى هذه ستبقى تحمل جينات الأصالة والتحدي، وتبصق في وجه العالم الخانع الصامت، ستبقى “ليلانا” تحتضن أطفالها بحنان، وتعيد على مسامعهم قبل النوم حكاية الفلاح الذي عاد إلى بيته وعلى رأس عصاه بعض بقايا من جمجمة ذئاب لا يمكن اتقاء شرها بغير ذلك.
عذرا يا ليلى المستقبل “فكلٌّ يغني على ليلاه” ويبدو أن ليلى حبيبة عشاق الكرامة والإباء والعنفوان والأصالة تختلف كثيراً عن ليلى مواخير السهر النتن والليالي الحمراء والعربدة المعجونة بكثير من دمائنا وأشلاء أبنائنا الذين لما يولدوا بعد…. حبيبتي ليلى! الذئاب كثيرة ومتنوعة، والوحوش تتناسل وبكثرة فجهزي عصاك وعصاي يا حبيبتي، وإن هرمنا وتقدم بنا العمر، فمن قال إن الستيني الشرقي لا يجيد حمل العصا واستخدامها؟ … الحياة ستستمر، وستأتي ليلى وليلى، وحول كل منهن الكثير من الآباء والأبناء والأجداد والأحفاد، وكل منهم على يقين أن حماية ليلى من مفرخة الذئاب المسعورة والوحوش المفترسة دَيْنٌ وواجب ومسؤولية…لتبقي بألف خير رغم الجراح “ليلاي” الحبيبة…
(موقع سيرياهوم نيوز-2)