حوراء حوماني
يحاول بعض المغتربين أو النازحين اللبنانيين الاطمئنان على بيوتهم في قرى وبلدات الجنوب عبر خدمات التصوير بالأقمار الاصطناعية المتاحة اليوم. إلا أنّ هذا الأمر ينطوي على مخاطر كثيرة تصل إلى تعريض الأمن القومي للخطر
كثر من أهالي القرى في الجنوب اللبناني خاصة الحدودية منها يغلبهم حنينهم لتراب تلك البلدات وبيوتها إذ لا قدرة لمعرفة أحوالها. وإلى جانب أحزانهم على الراحلين فيها شهداء، يتساءل بعضهم يومياً أي من منازل القلوب عمد العدو الإسرائيلي إلى هدمها وأيها نجا من الوحشية حتى الآن ولا يزال يقف شامخاً. وقد دفعهم الفضول إلى البحث عن طرق للوصول إلى مشاهد أو صور جديدة لتلك الحارات التي احتضنت طفولتهم وذكريات شبابهم. وهنا، حضر التصوير بالأقمار الاصطناعية ليشبع هذا الفضول، فالخدمات المتاحة عند الطلب ليست جديدة، وكانت تستخدم لأهداف عسكرية وهندسية ومدنية وحتى صحافية. واليوم تعود إلى الواجهة مع بحث بعض الأفراد عن طريقة لمعرفة حال قراهم التي نزحوا عنها قسراً مع بدء عدوان العدو الإسرائيلي واشتداده أو الذين يحنون إليها في غربتهم خارج لبنان.
يقدّم عدد من الشركات العالمية العاملة في هذا الإطار تقارير مصوّرة وفقاً للطلب في مقابل مبالغ مالية، مثل شركة OnGeo Intelligence التي لجأ إليها بعض اللبنانيين المغتربين لرؤية أحوال قراهم الجنوبية ولو افتراضياً ومن بعد. إذ يقوم المستخدم بتعبئة طلب عبر الموقع الإلكتروني للشركة يحدد فيه المكان الجغرافي والمدة الزمنية التي يرغب في رصدها على ألا تتجاوز الأشهر الستّة الأخيرة، وكذلك آلية الدفع في مقابل هذه الخدمة. يتضمّن التقرير المرسل خريطة عامة للقرية التي طلبها المستخدم، مرفقاً بتحديد للمدة الزمنية التي يغطيها وتوقيت التقاط الصورة، وللجغرافيا التي تُرصد تغيراتها وتُوثق تفاصيلها صورياً من بيوت وطرقات ومساحات خضراء. تتمتع هذه الخرائط بجودة عالية تمكّن المستخدم من التحرك فيها لتحديد وضع المنازل ومحيطها، على أنّ كلفة الخدمة تتفاوت بحسب الجودة المحدّدة مسبقاً، فكلما كانت الخريطة عالية الدقة، كان سعرها أعلى.
كانت هذه الشركات تُقدم عادةً خدماتها في التصوير الفضائي لأهداف متعددة، حكومية كانت أم تجارية وغير حكومية مثل: مراقبة الموارد العالمية، تحديد ميزات الأرض، رصد التغيرات البيئية والكوارث الطبيعية، تحديد المناطق الحرجية وتغيرات التضاريس مع مرور الوقت، التخطيط العمراني، رسم الخرائط، تحديد خطوط الطرق وحواف المباني، وظروف البنية التحتية بشكل أعلى مستوى من الوضوح البصري. هذه الخدمات تنتج تجربة بصرية محسّنة عبر رؤية الميزات الأصغر التي يمكن جمعها من صور القمر الاصطناعي، ما يسمح للحكومات والمؤسسات والعملاء التجاريين بالتحقق من هذه الميزات من دون إرسال فرق استكشافية إلى الميدان أو زيادة كلفة استخدام الطائرات من دون طيّار لتحقيق الأهداف نفسها.
ولأن الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية تعدّ وسيلة فعّالة عندما يتعلق الأمر بالاستكشاف والتحليل، اتجه بعض الصحافيين الاستقصائيين إلى استخدامها عند تغطية موضوعات مثل: الصراعات، التغيّر المناخي، اللاجئين، حرائق الغابات، أنشطة التعدين غير المشروعة، انسكابات النفط، إزالة الغابات، العبودية… وغيرها لتحقيق إفادة أكبر من هذه الصور الملتقطة من الفضاء.
وقد حدّدت «الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية » عشر جهات يمكن للصحافيين أن يلجأوا إليها من أجل الحصول على دعم مجاني متطور للحصول على صور مُلتقَطة بالأقمار الاصطناعية لتحقيقات استقصائية ودراسات مقارنة وتتبّع، من بينها The Truth Genome، Sky Truth، وPlanet الأميركية التي تجمع صوراً يومية لمساحات اليابسة حول العالم بأسره.
وإذا كانت غالبية المستخدمين للإنترنت تجد في خدمات مشهورة ومجانية مثل Google Earth وGoogle Street وغيرهما مصدراً للحصول على صور مُلتقطة بالأقمار الاصطناعية بسبب سهولة استخدامها، وقدرتها على تقديم خدمة الرسم على الخرائط والصور الثلاثية الأبعاد، إلا أنّها لا توفر ذلك بجودة عالية.
لكن ما هي مخاطر هذه التقنيات على الأمن الوطني والعالمي؟
هذه الخدمات التي يتم تقديمها تحت عناوين تجارية وهندسية ومدنية وصحافية وبيئية وغيرها، تحمل في طياتها مخاطر تتعلق بالخصوصية والأمن، خصوصاً في بقع الصراعات حول الكوكب، وعندما تكون هذه الخدمات متاحة لبعض الدول دون غيرها. يمكن لصور الأقمار الصناعية التجارية والاستطلاعية السرية كشف النقاب عن وقائع أو أنشطة سرية ترغب الدول في إخفائها. ومن المثير للاستغراب أنّ الأمثلة على هذه الخروقات تأتي من الدول التي تعدّها الولايات المتحدة عدواً لها، مثل «توثيق ترسانة كوريا الشمالية النووية و كشف انتهاكات حقوق الإنسان في الصين كاحتجاز سكان الإيغور في معسكرات الاعتقال هناك، والتحقق من المناورات العسكرية الروسية واستهداف المدنيين في أوكرانيا».
وسبق أن أثيرت هذه المخاوف من احتمال استخدام قدرات هذه الأقمار الاصطناعية لأغراض تجسسية مثل شركة Albedo Space الأميركية التي تخطط لإطلاق أقمار اصطناعية في أوائل عام 2025 تحلّق في مدار منخفض من سطح الأرض، لتقديم خدمات التصوير الفضائي بدقة تصل إلى عشرة سنتمترات، أي بدقة تُظهر وجوه البشر. وتعد هذه الشركة عملاءها بتقديم البث المباشر في حال أرادوا ذلك أو إرسال ما تصوّره خلال ساعة من الطلب. وبذلك، تعمد إلى توفير مستوى جديد من قدرات مراقبة الأرض على خطورتها.
الدفاع الرقمي حقّ مشروع، ويجب اعتباره أمناً قومياً بامتياز (ربيع بعلبكي)
وفي ظل كل هذه التطوّرات الخارقة للأمن عالمياً، يحذّر الخبير في الحوكمة الرقمية ربيع بعلبكي من «خطورة هذه التكنولوجيا من دون ضوابط في بلد كلبنان»، متسائلاً: «هل يسمح الكيان المؤقت للعدو الإسرائيلي بهذه الخدمات فوق أرضه؟» قبل أن يجيب بحزم: «طبعاً لا! ». ويوضح أن الدور الحقيقي للأقمار الاصطناعية تقديم خدمات عسكرية قبل أي شيء، مشيراً إلى أنّ تقنيات المسح داخل الأرض ودمجها بالتصوير الفضائي، يُشكّلان الخطر الأكبر على أمن الدول، إلى جانب كشف تحركات وتتبع علامات وبصمات القدم واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المكان من جميع الأبعاد المتاحة.
ويضيف بعلبكي أنّ هناك بالفعل قوانين وأنظمة تحكم استخدام تقنيات التصوير الفضائي، لكنها قد تحتاج إلى تحديث بهدف مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة. فالقوانين الدولية على مستوى معاهدات الأمم المتحدة، تنظّم استخدام الفضاء الخارجي، لكنها قد لا تغطي بشكل كافٍ التطورات المتسارعة في تقنيات التصوير العالي الدقة، بالإضافة إلى القوانين الوطنية على مستوى الدول التي تفرض قيوداً على بيع صور الأقمار الصناعية عالية الدقة وتوزيعها لأسباب أمنية. كما أنّ شركات الأقمار الصناعية التجارية تخضع لتراخيص وقيود تشغيلية تحدّد ما يمكنها تصويره ونشره، مع الحاجة إلى اتفاقيات دولية لتنظيم استخدام هذه التقنيات المتقدمة في المجال العسكري. لكن بعلبكي يرى أنّ معظم الدول المهيمنة تتجسّس عسكرياً على دول أخرى من دون أي احترام للقوانين مثل قانون GDPR الأوروبي الذي تطرق إلى تصنيف البيانات الحساسة ومنطلقات جواز الاستخدام. وإلى جانب تحديث الأطر القانونية حول العالم، يجد بعلبكي أن التحديات المستقبلية في هذا الملف تشمل عناوين توازن الأمن والشفافية، التحكّم ومنع انتشار التقنيات، ومدى التعاون الدولي لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول لهذه التقنيات.
أما لبنانياً، فيؤكد بعلبكي على وجوب العمل على ملف الأمن الرقمي بكل أشكاله وبمستويات متعددة دفاعية وقانونية وتقنية وتوعوية، مقترحاً إقامة خدمة العلم الرقمية التي تحث على المسؤولية الدفاعية الرقمية لدى المواطنين، بهدف تقليص الجرائم الرقمية والالتزام باستخدامات الذكاء الاصطناعي المسؤول. ويعتبر بعلبكي أن الدفاع الرقمي حقّ مشروع وعليه يجب اعتباره أمناً قومياً بامتياز، مؤكداً أهمية البدء بالابتكار الأمني والعسكري «على صعيد المقاومة والدفاع وطنياً وعدم استيراد أي أجهزة أو تطبيقات يمكن تصنيعها محلياً».
سيرياهوم نيوز١_الاخبار