| إسماعيل مروة
كتب باحثون عن تقزّم دور الثقافة، وصدرت كتب عن الآليات التي سعت فيها القوى الفاعلة في العالم إلى ضرب الثقافة في عمقها، وردّ كثيرون الأسباب إلى التقانة والإنترنت، وهذا فيه شيء من الصواب لكنه ليس كله وردٌّ كثيرون إلى طبيعة الحياة الاستهلاكية المعاصرة التي لا تأخذ في حسبانها الثقافة لعناصرها كافة، سواء كانت مقروءة أم مسموعة أو مرئية، وهذا فيه جانب مهم للغاية، ولكن هذه الأسباب مجتمعة وأسباب أخرى غير معلنة تكمن وراء تردي الثقافة بكل عناصرها، وفلا الكتاب كتاب روح، ولا وجود لصحيفة ترافق الإنسان، وفي كل أصقاع العالم، ولا السينما بقي لها الدور الذي كانت تحمله وتقوم به، حتى السينما، والهوليودية ضمناً صارت تضع ميزانياتها في خدمة المنصات التي تصل إلى كل مكان، وتجني الأرباح الطائلة وهي في مكانها، والمسرح في العالم تحوّل إلى ظاهرة احتفالية موسمية، أو إلى مواسم لجبر خاطر المسرح والمسرحيين حرصاً على شعور شكسبير وهنريك إبسن وبيكيت وسعد الدين وهبة وسعد الله ونوس وسواهم كثير، وظاهرة اليوم العالمي للمسرح صارت تمرّ مرور الكرام، فقد يلتفت إليها واحد، وقد لا يفعل، ولم يعد المسرحيون يتسابقون ويفاخرون فيما إذا أوكلت إليهم مهمة كلمة المسرح العالمي في يومه! نتذكر جميعاً، ممن تجاوزوا السنّ القانوني تلك الفرحة والغبطة حين أوكل إلى المسرحي سعد الله ونوس إلقاء كلمة يوم المسرح العالمي، ونتذكر ذلك الصدى الكبير، ولا يزال كثيرون من مثقفينا وأنصافهم يرددون كلمات سعد الله التي ذهبت مثلاً عن تلك الكلمة (محكمون بالأمل)، وبقيت الكلمة مادة الصحافة عاماً كاملاً.
وحين جاءت كلمة بعدها وازن كثيرون بين الكلمتين المهم أن هذه الظاهرة لم تعد موجودة، والمسرحي السوري الكبير فرحان بلبل ألقى كلمة المسرح في تونس، وهي غاية في القيمة والمحتوى، ولولا العلاقات الشخصية لم تصل إلى شريحة محددة من المهتمين، مع أن ما فيها يصل إلى حدّ القواعد الفكرية للمسرح، وفي السينما يذكر جيلنا، وهو آخر الأجيال على ما أذكر أن يوم الأحد كان يوماً مختلفاً عند متذوقي السينما والأفلام الجديدة، فكان الواحد منا يدور على صالات العرض كلها، وجمهرة كبيرة من المتابعين كانت تفعل، ونتابع إلصاق الإعلانات للأفلام في عرضها الأول أو أكثر وفي تمديدها، وتبدأ الحفلات في يوم الأحد من العاشرة والنصف صباحاً بصورة استثنائية، والجمهور يتوافد إلى الصالات، وبأسلوب راقٍ عائلي ومثقف، واليوم تحولت هذه الصالات إلى صالات مغلقة بسبب الإصلاحات المزعومة منذ عقود، أو إلى كافتريات تدعو زوارها إلى جلسة هادئة، ولكن لا تتبعها رحلة في فيلم في الأفلام، في هذه القاعات يتجمهر الناس، يتناولون أشياء ثم نجد صالة الشاي خاوية، والناس حملوا تذاكرهم ليجلسوا في مقاعدم، والدفعة الجديدة من الناس للحفلة التالية يجتمعون في صالة الشاي بأبهى هيئة وحلة!
كان الواحد منا يبحث في مكتبات دمشق والمدن الأخرى عن كتاب جديد صدر، أو عن كتاب تراثي قديم، وكم كنا نجلس القرفصاء لساعات عند العم أبو سالم النوري رحمه الله في مكتبته لاستعراض مئات الكتب، ونقصد سوق الحميدية لزيارة المكتبة العربية للراحل العالم أحمد عبيد، فلديه كنوز الكتب، وعنده المعرفة التي يزود بها، وكان يضع علبة ضيافة من السكاكر والكراميل للداخلين كافة، وكأن الدخول إلى المكتبة يشبه عيداً وفرحة أو بهجة..!
ومن الطرائف التي لا أنساها للعم أبو سالم، أنه بعد أن ألف ترددي إلى مكتبته العامرة ولمح ما أختاره من طبعات علمية ومحققة، أمسك الكتاب مرة وقال ضاحكاً هذا السعر غير صحيح، وبعد شرائه قال: أنت تعرف ما تريد..
ولن أنسى له أنه خرج إلى الرصيف مرة ليخبرني بأن مؤلفات عباس محمود العقاد الكاملة جاءته في 19 مجلداً، وأعطاني نسخة بالتقسيط، وما إن انتهيت من أقساطها وجدته يضحك ويقول تلك 19 مجلداً وجاءت التتمة 6، ومن جديد أعطاني التتمة بالتقسيط.
أين بائع الكتاب الخبير؟ أين المشفق على طالب العلم، ولا أنسى مرة كنت أتردد إلى المكتبة العربية لأقرأ صفحات من كتاب وأضع إشارة لأعود مرة أخرى وأتابع، وحين لمحني العالم الجليل أحمد عبيدو عرف أنني ليس لدي ثمنه، قال لي: هذا الكتاب من تأليفي، وأنت طالب علم، وأهداني الكتاب!
غياب الثقافة ليس بسبب التقانة وحدها، وليس بسبب واحد بعينه، وليس لأن زماننا نعت بالتفاهة، فجيل اليوم أفضل منا وأكثر سعة في أفقه ، ولكن غياب الثقافة هو جريمة موصوفة يرتكبها المعنيون، لأنها تغيب الأصالة والهوية، وتنزع عن الإنسان خصوصيته التي تجعله عالمياً، الثقافة المحلية التي جعلت نجيب محفوظ عالمياً، ودارت الدنيا بحنا مينة ونزار قباني، هي وحدها القادرة على خلق هوية، وهي القادرة على تحصين الإنسان لينطلق..
الثقافة ليست مظهراً، بل هي جوهر متكامل للشخصية ومآلاتها وغاياتها.
أخبار سوريا الوطن ١_الوطن