محمد ناصر الدين
يقول عالم الأنثروبولوجيا السويدي المرموق، أولف هانرز، إنّه يمكننا تمييز ثقافات المدن وفقاً لقدرتها على استيعاب الدلالات الواردة من الخارج والتي تولد أيضاً من الداخل وتوسّع في داخل المدينة نفسها: دلالات الحداثة والهوية لمدينة بيروت في مطالع القرن العشرين هي ما يرصدها ويشرحها الباحث اللبناني نادر سراج في كتابه المرجعي «بيروت: جدل الهوية والحداثة» الصادر عن دار «مكتبة أنطوان»، راصداً التواريخ والسرديات «الصغرى» لأفراد عاشوا تبعات التبدلات السياسية والثقافية في النصف الأول من القرن الذي انتقلوا فيه من مواطنين عثمانيين إلى عروبيين سوريين، ثم إلى رعايا دولة الانتداب الفرنسي واستقروا في نهاية المطاف كمواطنين في الجمهورية «العتيدة»: يتتبع سراج في كتابه تاريخ عائلة بيروتية (جده لوالدته ويذكر في النص باسم إحسان أفندي الذي يمثل نموذجاً حيّاً لموظف عثماني كبير من أبناء الثغور وأدى عسكريته تحت بيارق السلطنة وفي مدنها بين بيروت وطرابلس الشام ومصراته والمرقب وبانياس ويافا، وعانى وأسرته تبعات التغيرات الكبرى خلال الحربين) عبر وثائق العائلة، فتتآزر المعلومة الموثقة مع تلك المروية ومع وثيقة الأحوال الشخصية جنباً إلى جنب مع الصورة الفوتوغرافية والبطاقة التعريفية وجواز السفر لينقلنا من التواريخ الصغيرة إلى التاريخ الكبير الذي قد ترشدنا المقاربة الأنثروبولوجية والقراءة اللسانية والسيميائية المعمقة أخيراً إلى محاولة جادة لكتابته في البيت ذي المنازل الكثيرة وفقاً لجملة كمال الصليبي الشهيرة. إذ تتكشف أمامنا بيروت العثمانية والانتدابية أسواقاً ومرافق وبيوتاً وأزقة، وجادة فرنسية خلابة، وتتكشف خصائص عائلاتها وشبكة علاقاتها المنسوجة وأوراقها المنسية، وتتبدى على أكمل وجه صيغة الحداثة التي استعارها البيروتيون من الغرب في تلك الحقبة ولطّفوها وطبعوها بطابعهم المحلي وتزينوا بها بوصفها واحدة من علامات تميزهم الاجتماعي وانفتاحهم الثقافي، إذ كانوا أول الوسطاء في التجارة العثمانية والأوروبية، وأصبحوا بنمط حياتهم وبخطابهم التواصلي والتعددي أصحاب هذا الطابع الكوزموبوليتاني الفريد الذي أطلقوه ورسموا أبعاده. كما يعرّج الكتاب على نهضة المدارس والمعاهد من المقاصد إلى «الليسيه العلمانية» والكلية العاملية ومدرسة الصنائع التي ينتمي إليها ابن «الأفندي» وتجمعه الصورة التذكارية مع عدنان الحكيم زعيم حزب النجادة والتي يجعل منها سراج غلافاً لكتابه: يغوص الأستاذ الجامعي الحائز الدكتوراه في الجامعيات من السوربون وعضو مجلس أمناء المنظمة العربية للترجمة في يوميات الناس وأخبارهم التي ننشر مقتطفات منها ويدخل المدينة من أروقة غير متوقعة أبعد ما تكون من الأكاديميا، بل مما يعتبره الآخرون «الشذرات والشظايا وسلة المهملات الثقافية» كما يقول كلود ليفي ستروس، ليرسم بورتريه للمدينة التي تصنع حداثتها بأظافرها ورئتها المنفتحة على البحر والأفكار، وتحضر أسماء شوارعها التي يزرع العدو صواريخه في لحمها الحي اليوم من البسطة إلى مار إلياس والنويري ورأس النبع إلى كل شوارعها البهية، فسلام على بيروت الروح تمسك الوحش من قرنيه ثم تغسل يديها في البحر وتمسح على رؤوس الأبناء والعشاق والشهداء.
أبو غسان يقتني جهاز تلفزيون
تنبئنا الوقائع أن الشغف بسماع الموسيقى، على اختلافها، والنزعة إلى اقتناء أجهزة الراديو الحديثة شاعا في الأربعينيات في صفوف الشرائح الشبابية «المقتدرة». كان خريج «مدرسة الصنائع والفنون – فرع الميكانيك» في الثلاثينيات واحداً من هؤلاء. عرف عنه هذا الشغف الذي ائتلف مع امتهانه حرفة الاتجار بها، بحكم عمله في مجال بيع الأدوات الكهربائية وتصليحها. تمثل طموحه في افتتاح محل خاص به لبيع الأدوات الكهربائية، أسوة بصديق عمره عدنان الحكيم (زعيم حزب النجادة) الذي سبقه إلى افتتاح محله في شارع الأمير بشير وعملا بالحكمة القائلة «ربّ ضارة نافعة»، فقد واتته الفرصة بعيد وفاة شقيقه الأكبر عام 1942 لتحقيق هذا الحلم المعلق. فالشقيق الأكبر والخريج المقاصدي أكرم كان يشغل دكاناً حوّله مشغلاً للخياطة في شارع البسطة، مقابل موقف «محطة العريس». وبحكم شغور المأجور بالوفاة، ارتأى الوالدان تحويل وجهته إذ يصبح لبيع الأدوات الكهربائية، وفي مقدمتها الراديوات، لمصلحة الابن الأصغر. سرعان ما تصرف خريج الصنائع بالمحل وموجوداته، فباع آلات الخياطة «دوكما»، أي كما هي. كان المحل يتميز بموقع مناسب؛ فهو «على خط التران»، وعلى يمينه كانت تقوم «محلات أبو بدر البابا للسمانة»، وعلى يساره «ملحمة مصطفى زغل» ويليها محل محمود الطيارة لمستلزمات الخياطة، ثم منشرة القاضي، وتلاصقها «بورة» تعود لعائلة دمشقية حيث كان يقطن عبد الرزاق الطوبجي، المشهور بإتقان ألعاب الخفة وتصنيع نماذج الدمى الفولكلورية. وكان من أوائل الذين اقتنوا جهازاً تلفزيونياً في المنطقة.
محل سندويشات ينقلب خمارة ليلاً
كانت محطة الترامواي الأحمر اللون المعروفة باسم «محطة العريس»، تتوسط محطتي «النويري» و«البسطة الفوقا»، وتتصل لجهة الشرق بشارع محمد المحمصاني، ولجهة الغرب بشارع سيدي حسن. هذه المحطات كانت يومها علامات دالة لمستقلي الترامواي، مثلما للمشاة والسكان وأصحاب الحاجات. لكنها دائماً ما امتلكت تسمياتها الشعبية الشائعة والغالبة على تلك الرسمية المخطوطة على لوحات معدنية ذات لونين. فنهاية خط الترامواي جنوباً في عرف الجمهور: «المحطة» (Terminus) وثمة من يعتبرها الأولى؛ أي بداية «الخط». وكان موقعها في آخر موضع مأهول يومها، وهو المكان الذي ستقوم فيه لاحقاً «سينما سلوى» و«ملحمة الصحة » التي افتتحها آل قليلات عام 1948 إزاء مدرسة «بيت الأطفال» التابعة لـ «جمعية المقاصد». اشتهرت الملحمة ببيع المشروبات غير الروحية، كالسوس والجلاب والتمر الهندي، إضافة إلى صنع المقانق الـ«باب أول» وبيعها. ونظراً إلى أهمية المحطة عهدذاك، أدرجت صورتها واسمها في بطاقة بريدية.
ثمة زبائن متطلبون كانوا يفضلون في سرهم المشروبات الروحية على السوس والجلاب. وجدوا ضالتهم في خمّارة تفتح بابها بعيد حلول الظلام «لطالبي الكيف» (بدلالته اللبنانية لا المصرية). اتخذت موقعاً عند الزاوية الشرقية المقابلة لمحلات قليلات، وبجوار مكتب مختار المزرعة الحاج سليم المدهون. كانت الوحيدة العاملة في المنطقة، وعرفت عند مرتاديها بروائحها النافذة، كما بازدواجية وظائفها المعلنة منها والمستترة، وبتنوع معايير تعاملها مع جمهورها الطامع في الحصول على «خدماتها» المفتقدة في الجوار. بعضهم كان يقصدها في وضح النهار لابتياع سندويشات باردة، وبعضهم الآخر تحت جنح الظلام لطلب مشروبات روحية نادرة الوجود.
إدارتها انعقدت للثنائي الياس يرانيان وصهره القبرصي اليوناني تيودوري. وتمثلت ميزتها التفاضلية بالنسبة إلى أهل منطقة «الحرش» و«الغربية» (أغراب الدار)، في أنها كانت وفقاً لـ«آرمة» مرفوعة مطعم سندويشات «شرعياً». يبيع نهاراً أنواع البسطرما والسجق والمقانق الشهية المذاق التي لا تتوافر بنكهتها وطريقة إعدادها إلا عنده. لكنّه يتحول ليلاً، بقدرة مشغّليه وحنكتهم، إلى خمارة مسدلة الستار، تعجّ بقاصديها المتعبين من عناء العمل. ومتى خفت حركة المارة وخيّم الظلام، كانوا يتقاطرون إليها من الأحياء المجاورة لتعاطي الخمور.
السجائر من ماركتي «صوايا» و«البافرا» إلى «سالم»
انتشار عادة التدخين واكتشاف مضاره على الصحة العامة حفّزا «دليل بيروت» الصادر مطلع القرن المنصرم على نشر تعليق يرصد ثلاثة مضار للتدخين. اطلع عليه الأفندي الكاره كل أنواع التدخين، والمعاني من ذيوله في الداخل المنزلي. فتأكدت مخاوفه، وراح يستعيد المضار في ذهنه وهو يفكر في صحة زوجه. بحّ صوته وهو يسعى إلى ثنيها عن تدخين السجائر، نظراً إلى الضرر اللاحق بمدخنيها. فقد أجمعت الآراء على أن أضرار التبغ عدة، ومن أهمها: يفسد الهضم، ويشوش الذاكرة ويضعفها، ويضعف أيضاً السمع والإبصار، والأهم من ذلك هو أنه من «مذهبات المال».
استوقفه الضرر الأخير القابل للاحتساب (التقريش). يستعيد صورتها وهي تمج سحبة طويلة من سيكارة «صوايا» الوطنية. يؤكد إعلانها الترويجي المنشور في جريدة «البيرق»، في تموز (1929)، أنها «غلبت كل سيكارة في جميع أنحاء البلاد اللبنانية والسورية». أُمّيّتها غلبتها فلم تسعفها بقراءته. وذهبت سدى نصيحة الزوج «بلاها يا إم أكرم… موت وشحتار… كل صحابنا بطّلوها». فبعد سنوات، لاحظ «أهل البيت» في البسطة الفوقا، أن أحوال المدخنات إلى تطور، والصحة إلى تراجع. وبدا لهم أن كبيرتهم، المخبر عنها، انصاعت جزئياً لرغبة «ابن عمها» الأفندي المتقاعد فانساقت من دون أن تدري في ثقافة التدخين الحديثة. «طلّقت» إلى غير رجعة ماركتي «صوايا» و«البافرا» الوطنيتين، وانتقلت إلى تدخين سجائر «سالم» بطعم النعناع أسوة بقريبات لها! لم تعد القصة مجرد نفث دخان سيجارة لف تركية التبغ، تذكرها بحماتها «الخانم»، أو أخرى «وطنية» باب أول. بل بات المدخن والمدخنة يتذوقان «طعمة» النعناع، وغيره من المذاقات «المودرن» وهم يشعلان سجائرهما، ويتركان العنان لأفكارهما.
يضع العالم كله بين يديك
في عام 1928، يُنشر في إحدى الصحف (البيروتية) إعلان تجاري طريف بخصوص جهاز الراديو. ارتكز الإعلان الترويجي على مقولة «يضع العالم كله بين يديك». «الصنايعي» المتخرج حديثاً لم يغرد خارج سرب «الموضة» الآخذة بالانتشار. انتمى باكراً إلى شلة البسط والانشراح الشغوفة بقيادة السيارات وقطع المسافات خارج شركة شكري عودة «غراموفون الشنتة». وعلى ما بدا للناظرين والمراقبين، فالماركة التي شاعت يومها أكثر من سواها هي «وستنكهاوس». ومن باب الإشهار، أكّد وكيلها العام سليم الحلبي، المتخذ محلاً له في «شارع ويغان»، للجمهور، أنها المعتمدة لدى جميع حكومات العالم وشعوبها. ومنذ الثلاثينيات، انطلقت الإعلانات الصحافية المروّجة لاقتناء الراديو واتخذت موقعاً بارزاً في الصحف؛ ومنها على سبيل المثال دعاية راديو «كروسلي» مع صورة للراديو، التي أدرجت في صحيفة «المكشوف» (أيار/ مايو 1935). وثمة ثانية تعود لجهاز راديو «شهرته تغني عن التعريف» هو «فيلكو» الأميركي بصنفيه (راديو البيت وراديو أوتوموبيل). وميزته أنه يتمتع بخاصيتين: وجود «آنتين خصوصي لمنع التموجات»، وإيفاد مهندس خصوصي للتركيب والكفالة. كان على العائلة أن تختار موضعاً مناسباً للجهاز الغراموفوني. فاستقرّ الرأي على اقتطاع مكان مميز له في صدارة المنزل، وفي «الليوان» على وجه التحديد. التخصيص الوظيفي لغرف الدور البيروتية التقليدية قضى بأن الليوان مخصّص لمبيت ضيوف العائلة ليلاً، واستقبال الزوار نهاراً. وبذلك بات جهاز الراديوي واحداً من معالم الحداثة المنزلية التي يتباهى بامتلاكها وإبرازها ضمن المقتنيات العائلية، وكان يفضّل التموضع عادة بقربها لأخذ صورة تذكارية لأفراد الأسرة.
السيارة والطريق الأفضل «لصَيد الحسان»
أما أول سيارة دخلت لبنان ووصلت إلى ميناء بيروت في مطلع القرن العشرين، فكانت تخص السيد ميشال سرسق. واشترى الطبيب المعروف غراهام الذي سمّي شارع باسمه في رأس بيروت سيارة «فورد» بعد ذلك، ويقال إنه قضى قبل أن تصل السيارة إلى بيروت. فسُجّي جثمانه فيها ونُقل إلى مثواه الأخير، وكان يقودها إبراهيم بطرس شيبان من سوق الغرب. وبما أنّ الترامواي كان وسيلة النقل العامة، نذكر أنّ أول سائق له كان شريف صالح، وعمل على الترامواي الرقم 9، ثم خليل جريديني في رأس بيروت، وكان يُعرف بكنية «أبو شكري». نعاود استقراء ما سطره الصحافي رياشي في هذا الصدد؛ فالأوتوموبيل – خصوصاً في تلك الأيام – هو مثل الفسطان، عدو الفضيلة الأول والطريق الأفضل لصيد الحسان. لذا يحث القارئ كي يتصور «ما كانت قوة هذا الأوتوموبيل مع فتوة صاحبه وغناه وكرمه ولطافته». استتباعاً لما سبق، يُلاحَظ أن عصر سيارات «الدودج » و«الفورد أبو دعسة» و«الدوزوتو»، التي كان يقودها شبان المدينة، ويمنون النفس باقتنائها يوماً مضى إلى غير رجعة، مع تبدّل الأحوال والأزمنة والسنن والأذواق. ها هو جيل «الفوكسول» و«إيزابيللا» وأخواتهما، يتخذ مواقعه في المشهد المديني والعائلي، إن في يوميات السائقين اللبنانيين، أو في صورهم الفوتوغرافيّة. ويبدو أن ماركة السيارات «دوزوتو» تحولت بمرور السنين إلى كناية طريفة وملتبسة الدلالة عند المتلقين بفعل تقادم «موديلها وتلاشي سطوتها وألقها في مدارك «أهل المهنة». فمتى نعتوا أحدهم بأنه «دوزوتو»، خصوصاً في أوساط العاملين في مهن تصليح السيارات وبيع قطعها، فهذا يعني أنه أمسى قديم الطراز، ولا فائدة ترتجى منه أو انتهت صلاحيته ولم يعد ذا نفع لمن حوله.
غواية التصوير على جادة الفرنسيين ومقاهيها
نقرأ في مندرجات «دليل بيروت» الصادر عام 1890 أنّ عدد أحياء بيروت أو محلاتها يبلغ خمساً وعشرين. وترد مينة الحسن أو ميناء الحصن، بوصفها واحدة من هذه المحلات، وكانت تقع في مرتبة وسطى بين الزيتونة الواقعة لجهة الشرق والمنارة الواقعة لجهة الغرب. ولمزيد من التحديد، فهي كانت تمتد على شاطىء البحر في رأس بيروت، وكان الناس يقصدونها مشاة أو على العربات للتنزه في طريقها الطويل أو للجلوس على صخورها. ودليلنا على ذلك صورة قديمة مأخوذة حوالى عام 1900 تظهر استراحة الجنود العثمانيين على صخور رأس ميناء الحصن.
مقهى «عروس البحر» هو واحد من قهاوي (مقاهي) بيروت الخمسين التي كان أكثرها على طريق عربات الشام وعلى شطوط البحر وطريق النهر. هذه المقاهي شكلت فسحات للتسلية والترفيه لعائلات المدينة. اعتاد الأفندي ارتياد هذا المقهى البيروتي حيث التقطت له صورة مع أصدقاء في الثلاثين من كانون الثاني (يناير) من عام 1925. وبعد تقاعده في الستينيات، اختلف الهوى وتبدل المقام، فقد واظب على ارتياد «قهوة البحرين» المجاورة لمسجده المفضل، جامع المجيدية، ولمقهى «الحاج داود»، بحكم أنها أضحت ملتقى دائماً لشلة الموظفين المتقاعدين. كما كان يحب سماع خطب الجمعة التي يلقيها الشيخ محيي الدين المكاري قاضي الشرع في بيروت، الذي خلف الشيخ عبد الرحمن يموت خطيب الجمعة فيها.
لدى مقاطعة شركتي الترامواي والكهرباء بسبب غلاء الأسعار، نظم يحيى اللبابيدي أنشودة «أما شركات ماركات ماركات»
تذكر الوقائع أن الاسم الذي عرفت به «القهوة» عند البيارتة، منذ تأسيسها عام 1924 هو «حمام ومنتزه البحرين» لصاحبه إبراهيم حنقير. في عام 1910، أتى «دليل بيروت» على ذكر «حمامات بحر موجودة ضمن القهاوي البحرية للأولاد»، وأخرى جميلة المنظر والترتيب (للرجال والنساء) في محلة «الزيتونة». كان شمل متقاعدي الإدارة (العثمانية فالانتدابية) يلتئم كل صباح، في الزاوية عينها، حيث يقضون الوقت في استعادة ذكريات ماضيهم وتبادل خبريات الوظيفة العمومية التي سرقت منهم أحلى سني أعمارهم. كانت هذه الاستعادات تتم على إيقاعات زغردة النرد الأبيض في «لعب الطاولة»، والدخان المنفوث من حلقات تدخين التنباك الأصفهاني، المصاحبة بطقوس شرب الشاي والعصائر وارتشاف القهوة ولعب «الشدة» أو «الداما». أما حيّ الزيتونة البيروتي، فنلاحظ أنه كان يحتضن مجموعة المقاهي التي كانت تقوم على ركائز خشبية متينة مثل «البحري وقصر البحر والبحرين ومقهى الحاج داود». وكان هذا الأخير كناية عن «بلكون» فسيح الأرجاء يقوم على «سنسول خشب» بطول يراوح بين 5 و6 أمتار، كما كان يصفه البيارتة. واعتُبر من أشهر المقاهي التي ارتادها أهل المدينة ليرشفوا قهوتهم وينفثوا دخان التنباك الأصفهاني، وليتنافسوا، مع شرط أو من دونه، في لعب «الطاولة»، وينعموا برؤية شاطئ البحر. شيِّد عام 1907 على صخور البحر، وكان يرتاده هواة النرجيلة والقهوة ولعبة النرد.
كانت جادة الإفرنسيين تقع في حيّ مينا الحصن، وهي استهوت «ولاد بيروت» والمناطق، وارتبط ارتيادها في أخلادهم باكتساب قيم الانفتاح والعصرنة والرفاهية وممارستها. فقصدوها وتواعدوا في أرجائها متى سنحت لهم فرص «الزوغة» (الزوغان)، أي النزق والطيش، أو حينما ينهون أعمالهم اليومية. كانت تبدأ بشارع البطريرك الحويك وتنتهي بشارع أحمد شوقي، جامعة بذلك المجد من طرفيه الروحي والشعري.
مغارة «الحمام والوطاويط» في الذاكرة الفوتوغرافية
عُرفت صخرة الروشة باسم «مغارة الحمام»، وذكرت في كتاب صادر عام 1930. في صباهم، وفي غفلة عن الأهل كان مبلغ المغامرة عند الفتيان أن يتسلقوا صخورها أو يمارسوا متعة الاستلقاء على صخور «جزيرة الحمام». شاع مقابلها الفرنسي في أوساطهم بصيغتين شبه متماثلتين: الأولى Grotte aux Pigeons والثانية Ile des Pigeons
التسمية فرنسية الأصل، ومردها أن المغارة Rocher مثقوبة في وسطها وتكاد تشبه «البيت» أو «البرج» الذي يصنع لمبيت الحمام. كانت تقع في شارع المنارة، وتضم جزيرتين فاتنتين. لم تكن مقصد أهل البلد فحسب، بل عدت ضمن عشرة مواقع وأبنية أثرية وتحف روّجت لها مديرية السياحة والاصطياف في كتيّبها الصادر عام 1951. والصورة الفوتوغرافية المأخوذة شاهد إثبات وتغيير فردي، تعود لعام 1926، أي بعد مرور سنة على احتفاء بريد لبنان الكبير بالصخرة، وتخليدها، هي وحرج بيروت، في طابعين بريديين تغريميين (الأول بقيمة غرشين والثاني بقيمة غرش واحد).
التسميات المتعددة لهذه «المغارة» التي دعيت أيضاً «مغارة الوطاويط» و«الحمام» وحتى «الفقم». وهي اتخذت في وعي أبناء المدينة اسماً آخر. إذ كان الجامع الواقع في نطاق رأس بيروت يعرف باسم «جامع الروشا» (بالألف الطويلة لا المقصورة وفقاً للعوائد النطقية لقدامى البيارتة)، والمحلة التي كان يقع فيها هي «محلة الروشا» كما يذكر «دليل بيروت». أما لفظ «الروشة» (بالتاء المربوطة)، فورد للمرة الأولى في وثيقة شرعية تعود لعام 1847. هذه الصيغة الأخيرة (الروشة) التي استقرت عليها التسميتان السياحية والشعبية، أدرجت في دليل موسوم «لبنان بلاد السياحة والاصطياف» صدر عام 1930. بعدها بأربع سنوات، تتربع صخرة الروشة على الغلاف الرئيسي لكتيب سياحي صدر عام 1939 باسم «دلیل وخارطة شوارع بيروت».
مشاغبات الفنانين والشعراء البيروتيين
يستدعي الكلام عن الفنان يوسف قرانوح (حسني)، استذكار زميله الفنان يحيى اللبابيدي بالخير. كانا يشكلان مع الشاعر عمر الزعني «الثلاثي الفني البيروتي» الذي أبصر أبطاله النور نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. عاصروا المدة الانتقالية العثمانية/ الفرنسية، وشهدوا المتغيرات الاجتماعية، وتفاعلوا مع حاضرهم. أعملوا قرائحهم ومخيلاتهم وأقلامهم لانتقاد الأوضاع المتردية في مفاصل مجتمعهم، وتصويب المسارات والتنديد بالخيارات العامة الخطأ، بأسلوب شفاف، مأنوس وساخر. وعندما قاطع المواطنون «الأشراف» شركتي الترامواي والكهرباء بسبب غلاء الأسعار، نظم يحيى اللبابيدي أنشودة بعنوان «أما شركات ماركات ماركات» انتقد فيها ماركة «نصب»، ويريد بها «شركة النور»، وماركة «نهب»، ويلمح فيها إلى شركة مياه بيروت أو «كبانية المي»، وثالثتها ماركة «هات»، ويقصد بها «الترمويات»، ويتساءل عن الجهة المستفيدة منها: «مين راضي عنها إلا المأجور؟»
وحينما شكت بيروت، مدينة الآبار ومدينة الماء والخضرة الدائمة، في أوائل الثلاثينيات من قلة المياه وانقطاعها عن البيوت، وكثرت الشكوى من شركة المياه، أرّخ الزعني هذه الحادثة بقصيدة عنوانها «المي المي»، وعرج فيها على ذكر الترامواي: «يا ناس بيروت ما فيها ميّ/ جنة سوريا خليانة من الريّ/ إزاي صابرين يا ناس/ إزاي كوبانيتنا ما إلها خيّ/ تصليح قساطر وقسوط المي/ طلعت رواحنا من الكوباني/ ما فيش نتيجة زي الترامواي/ من دق الميّ وهيي ميّ ».
وفي حقبة العشرينيات، كان لقائد شرطة بيروت الشاعر عبد الرحيم قليلات وواضع ديوان «الهيام في الدين والأخلاق»، موقف من القرار الانتدابي المجحف القاضي برفع أسعار تذاكر التراموي في بيروت. فنظم في عام 1922 قصيدة بعنوان «ترامواي بيروت»، أدرجها في قسم «الفكاهة والجد في قالب الهزل»، انتقد فيها حشر الناس في «عربات عرفت نوحاً وحاماً»، مشبهاً إياها بعلب السردين: «علب السردين حاكتها ازدحاماً فقضى الناس اختناقاً وازدحاماً». كما تطرّق إلى عقد مقارنة بين نوعي العملة اللذين تناوب على تداولهما الأهالي، خلال حكمَي الأتراك والفرنسيين ومما قاله متناولاً وحدتي النقد المعنيتين، أي المتليك (ربع القرش التركي) والفرنك الفرنسي: «متليك الأمس قد أروى الأواما وفرنك اليوم لم يروِ الأواما».
أخبار سوريا الوطن ١_الأخبار