خضر خروبي
لا يزال إصدار «المحكمة الجنائية الدولية» أوامر اعتقال بحق كل من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير حربه السابق يوآف غالانت، الخميس الماضي، يلقي بظلاله ليس على المشهد الإسرائيلي فحسب، بل وأيضاً على العلاقات الخارجية لتل أبيب مع العالم، ولا سيما منه الغرب.
إسرائيل والغرب: بين العزلة الممكنة والاعتقال المتعذّر
حتى هذه اللحظة، يبدو الموقف العام في أوساط حلفاء إسرائيل، بخاصة الأوروبيين منهم، كإيطاليا، وكندا، وبلجيكا، وسلوفينيا، باستثناء عدد محدود كالمجر، ذات الإرث الحافل في «كسر» الإجماع الأوروبي خلال السنوات الأخيرة، والتي تكاد تكون الدولة الأوروبية الوحيدة التي يعلن رئيس حكومتها نيته توجيه دعوة إلى نتنياهو لزيارة بودابست، أقرب إلى الإجماع على ضرورة احترام ما يصدر عن «المحكمة الجنائية الدولية» وتنفيذه، من منطلق مراعاة القانون الدولي، إذ شدّد وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروزيتو، الذي تتولى بلاده هذا العام الرئاسة الدورية لـ»مجموعة السبع»، على أنّ بلاده «سيتعين عليها توقيف» نتنياهو وغالانت في حال زارا إيطاليا، معتبراً في الوقت نفسه أنّ المحكمة «مخطئة» بقرارها عبر وضعها الزعيمين الإسرائيليين في المستوى نفسه مع قادة حركة «حماس». وهو موقف يتقاطع مع ما قاله رئيس الحكومة الكندية، جاستن ترودو، حين أكد أنّ «من المهم حقاً أن يلتزم الجميع بالقانون الدولي»، مضيفاً «(أننا) سنلتزم بجميع اللوائح والأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية».
ومع ذلك، لا يزال الالتباس يعتري الموقف السياسي لعدد من البلدان الغربية، عاكساً انسجاماً أكبر مع الموقف الأميركي المندّد بقرار «الجنائية الدولية»، والذي بلغ حدّ تهديد عدد كبير من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، المحكمة، بإصدار عقوبات ضد أفرادها وقضاتها، إضافة إلى التلويح باستخدام ما يُعرف بـ»قانون غزو لاهاي» الذي يسمح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية لتحرير أي أميركي أو مواطن من دولة حليفة، محتجز لدى «الجنائية الدولية» التي تتخذ من مدينة لاهاي الهولندية مقراً لها. وفي حين طالبت أحزاب معارضة في الدنمارك، بعد يوم من صدور مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالانت، ومن جملتها حزب «إنهدسليستا» اليساري، باستجواب برلماني مستعجل لوزير الخارجية، لارس لوكا راسموسن، كي يدلي بتعهد واضح بأنّ الحكومة ستنفذ أمر الاعتقال بموجب المذكّرتين، في ضوء تذبذب مواقف كوبنهاغن حول العلاقة مع إسرائيل، استبق نائب رئيسة الوزراء الإيطالية، ورئيس «حزب الرابطة» اليميني المتطرف، ماتيو سالفيني، بدوره، موعد انعقاد قمة مرتقبة لـ»مجموعة السبع» في روما يومَي الإثنين والثلاثاء المقبلين، للتباحث في تداعيات قرار «الجنائية الدولية»، بتصريح قال فيه إنّ «نتنياهو سيكون موضع ترحيب إذا جاء إلى إيطاليا».
ولا تقتصر المواقف الأوروبية البالغة الصراحة في انحيازها إلى إسرائيل، على المجر، إذ سبق أن شكّك رئيس حكومة تشيكيا، بيتر فيالا، في فعالية وصدقية الخطوة التي اتخذتها «المحكمة الجنائية الدولية»، مدّعياً بأنها «تساوي بين الممثلين المنتخبين لدولة ديمقراطية وقادة تنظيم إرهابي إسلامي»، بينما أثنى المتحدّث باسم الحكومة الألمانية، ستيفن هيبسترايت، على دور بلاده في إنشاء «النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية»، بموجب اتفاقية روما، قبل أن يلفت إلى «العلاقة الفريدة» بين برلين وتل أبيب، لاعتبارات تاريخية، قائلاً: «من الصعب عليّ أن أتخيل أننا ننفّذ اعتقالات (بحق إسرائيليين) في ألمانيا على أساس» الاتفاقية المذكورة.
ومع ذلك، يشير مدير «معهد رأس المال السياسي» للبحوث، ومقره بودابست، إلى التمايز المجري عن سائر بلدان الاتحاد الأوروبي على أكثر من صعيد، وبخاصة تحدّي قرار توقيف قادة إسرائيليين أخيراً، واضعاً إياه في إطار إصرار الزعيم اليميني الشعبوي على «التمسّك بمنطقه المناهض لمؤسسات (الاتحاد الأوروبي)»، إضافة إلى «إرسال إشارات (إيجابية) ليس فقط إلى نتنياهو، بل أيضاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، الذي يشاركه هذا المنطق، وموقفه الداعم بقوة لإسرائيل.
من جهتها، وفي معرض تقييمها للموقف الأوروبي العام، اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ موقف بلدان أوروبا، «التي تُعتبر ركيزة من ركائز دعم المحكمة، هي النقطة الأكثر إشكالية بالنسبة إلى نتنياهو»، ولا سيما أنّ بريطانيا وفرنسا أيّدتا موقف «الجنائية الدولية»، رغم أنهما لم تؤكدا أنهما ستنفّذان أمر الاعتقال بحق نتنياهو في حال تواجده على أراضي أيّ منهما.
وتوقّفت الصحيفة عند تفاوت مستويات ردود الفعل الأوروبية في هذا الصدد، والتي راوحت بين الحماسة الواضحة لقرار المحكمة، والتأييد الملتبس لما بدر عنها. وفي الاتجاه الأول، ذهب رئيس وزراء إيرلندا، سيمون هاريس، الذي وصف أوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت بأنها «خطوة بالغة الأهمية»، ووزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيلدكامب، الذي أعلن إلغاء زيارة مقررة إلى الأراضي المحتلة على خلفية تأييده للقرار. أما المواقف الذاهبة في الاتجاه الثاني، فبرز من بينها قول متحدث باسم الحكومة البريطانية إنّ لندن «تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، التي تُعد الهيئة (القضائية) الدولية الأساسية المعنية بالتحقيق في أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي وملاحقة مرتكبيها»، مستدركاً بأن لإسرائيل «الحق في الدفاع عن نفسها وفقاً للقانون الدولي». كما برزت تصريحات لوزير خارجية النرويج، إسبن بارث إيدي، الذي رأى أنه «من المهم أن تنفذ المحكمة الجنائية الدولية تفويضها بطريقة حكيمة». وبخصوص موقف واشنطن من القرار، أقرّ الدبلوماسي الأميركي، توماس نايدز، الذي سبق أن شغل منصب سفير واشنطن لدى إسرائيل خلال عهد إدارة جو بايدن، بأن لدى بلاده «بعض النقاط الإشكالية (مع تل أبيب) حول كيفية إدارة هذه الحرب (في غزة)؟»، مبدياً في الوقت نفسه قناعته بأن قرار «المحكمة الجنائية الدولية» بحق مسؤولين إسرائيليين «مشين بشكل صارخ».
قرار «الجنائية الدولية»: جدل السياسة والقانون
ومع ذلك، زعمت «نيويورك تايمز» أنّ القرار يشي بوجود «فجوات كبيرة سواء على صعيد اختصاص المحكمة، أو لناحية التنفيذ غير المتوازن» لمذكّرات التوقيف الصادرة عنها، لافتة إلى أنّ الدول الـ124 الموقّعة على «نظام روما الأساسي»، والملزمة رسمياً بتنفيذ مذكّرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، حتى في حال هبوط طائرة أحدهما اضطرارياً في إحدى تلك الدول (التي لا تشمل إسرائيل، ودولاً كبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا)، «لا تمتثل بالضرورة لأوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بزعماء دوليين بارزين، وهو ما فعلته منغوليا التي استقبلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أيلول الفائت». وعلى المنوال نفسه، يمكن دولاً «حليفة لنتنياهو»، أن لا تمتثل بدورها لقرارات «الجنائية الدولية»، على غرار الأرجنتين بقيادة خافيير ميلي الذي دان المحكمة، متهماً إياها بـ»تجاهل حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها في مواجهة الهجمات المستمرة من قبل المنظمات الإرهابية مثل حماس وحزب الله»، رغم كونه لم يوضح موقفه من فرضية احتمال توقيف نتنياهو في حال زار بيونيس آيرس.
يبدو الموقف العام لحلفاء إسرائيل بخاصة الأوروبيين منهم: أقرب إلى الإجماع على احترام ما يصدر عن المحكمة
وفي شأن تفاوت الآراء في أوساط الأكاديميين القانونيين، لفتت الصحيفة إلى أنّ «كثراً في إسرائيل وفي الكونغرس الأميركي سيقيّمون أوامر الاعتقال (بحق القادة الإسرائيليين) على اعتبار أنها تنطلق من دوافع سياسية، وليست قانونية»، مضيفة أنّ «العالم سيضيق أكثر فأكثر على كل من نتنياهو وغالانت، رغم دعم الولايات المتحدة لهما، خصوصاً أنهما سيضطران إلى التخطيط لرحلاتهما (إلى الخارج) بحذر شديد» من الآن فصاعداً. وفي هذا الإطار، رفض الرئيس السابق لفرع القانون الدولي في الدائرة القانونية التابعة للجيش الإسرائيلي، دانييل رايزنر، ما سمّاه «مزاعم» المحكمة في شأن تورط نتنياهو وغالانت في ارتكاب جرائم حرب، معتبراً أن قرار «الجنائية الدولية» يُعد «مؤشراً إلى أن القانون الدولي يستحيل مهزلة في الحالات المتعلقة بنزاعات مسلّحة على قدرٍ عالٍ من التسييس». وفي المقابل، يوضح الخبير في القانون الدولي، والدبلوماسي السابق خلال عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، هارولد كوه، أنّ قرار «الجنائية الدولية» ينطوي على دلالات رمزية. ويتابع المحاضر في كلية الحقوق في «جامعة ييل» أنّه «من المتوقع أن تعمل الديمقراطيات الدستورية الحديثة على كبح جماح السلوك المخالف للقانون، والذي يصدر عن قادتها، وخاصة جرائم الحرب».
وعن تبعات القرار على النظام الدولي، لفتت الصحيفة إلى أنّ صدور مذكّرات الاعتقال سوف يسهم في «تعزيز سمعة المؤسسات الدولية في بلدان الجنوب العالمي، حيث تتعرض للنقد بين حين وآخر، على خلفية اعتبار تلك المؤسسات أدوات في يد الغرب». ولمزيد من التوضيح، تشدّد المحلّلة وخبيرة استطلاعات الرأي الإسرائيلية، داليا شيندلين، على أنّ «أوامر الاعتقال المشار إليها تعزز شرعية المؤسسات الدولية التي تعرّضت للضرر بفعل العديد من الإخفاقات السابقة»، مبيّنة أنّ ما جرى «سيفضي إلى إحياء الشعور بإمكانية تطبيق القانون بشكل متّسق حتّى على البلدان الغربية، أو تلك التي تدعمها الولايات المتحدة»، وهو ما سيدفع الأخيرة إلى «الشروع في تقويض المحكمة بشكل كبير».
نتنياهو: المعادلة الإسرائيلية العجيبة
هذا، وتوقّف محللون عند مفارقة عجيبة في السياسة الإسرائيلية، تشي بأنه «كلما تعزّزت صورة نتنياهو بوصفه شخصية منبوذة على الساحة الدولية، تعزّزت صورة احتضانه في الداخل الإسرائيلي، بعدما تزعزعت وضعيته السياسية المحلية خلال الأشهر الأخيرة» بسبب رفضه إبرام صفقة تبادل أسرى مع حركة «حماس»، لا سيما أن صدور مذكّرة دولية باعتقاله قوبل بـ»موجة من الشجب والتنديد من كل ألوان الطيف السياسي» في تل أبيب. وبحسب هؤلاء، فإنّ «ردود الفعل على مذكرتَي الاعتقال أظهرت الفجوة بين التصورات الإسرائيلية للحرب في غزة، والطريقة التي يُنظر بها إلى مجريات تلك الحرب من الخارج». فمن جهتها، أشارت سيما كادمون، وهي كاتبة معارضة لنتنياهو في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، إلى أنّ «رؤية نتنياهو وغالانت في نفس الخانة مع قادة آخرين مثل معمر القذافي وسلوبودان ميلوسيفيتش وراتكو ملاديتش والعديد من الزعماء الأفارقة المستبدّين، أمر محرج». أما ميتشل باراك، وهو خبير استطلاعات رأي إسرائيلي، سبق له أن عمل مساعداً لنتنياهو في عقد التسعينيات، فقد رجّح أن يلعب القرار بتوقيف نتنياهو «دوراً مساعداً» له في الظهور بصورة الضحية التي يحب أن يكون عليها، وبوصفه «الرجل الوحيد الذي يقاتل من أجل حقوق إسرائيل، ضد كل صنوف الشر في العالم». ومع ذلك، يلمّح باراك إلى أنّ تعاطف الجمهور الإسرائيلي مع نتنياهو قد يتضاءل في الأمد البعيد، مشدّداً على أن ترسّخ صورة نتنياهو مع مرور الوقت كـ»شخصية دبلوماسية غير مرغوب فيها دولياً» لا يخدم دوره كرئيس للوزراء، في نظر الجمهور المحلي، وخصوصاً أن علاقاته الدولية كانت ذات يوم إحدى بطاقاته الانتخابية لنيل استحسان ذلك الجمهور.
أخبار سوريا الوطن ١_الأخبار