شرحبيل الغريب
إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، بتهمة ارتكابهما جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة، يُعَدّ قراراً غير عاديّ، هو الأول من نوعه في تاريخ المحكمة.
وتنبع أهمية مثل هذا القرار من أنه صدر بإجماع قضاة المحكمة، وعددهم 18 قاضياً، ومن ناحيتين فنية وإجرائية فإن 125 دولة، أي مجموع الدول الموقعة على نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، ستلتزم وفق القانون قرار المحكمة، وسوف تطبق أوامر الاعتقال بعد إشعارها، فور صدور المذكرتين، وهذا هو مبعث القلق الإسرائيلي، بصرف النظر عن تطبيق القرار من عدمه.
مذكرتا الاعتقال، اللتان ستصدران عن المحكمة، ستشكلان صدمة كبيرة في “إسرائيل”، فقرار المحكمة يُعَد قراراً غير مسبوق في مواجهتها، وهي التي لطالما كانت تَعُدّ نفسها فوق القانون في زمن اختلال الموازين، لكنه في الوقت ذاته يستدعي حالاً من القلق الإسرائيلي الكبير إزاء مواقف رفض القرار وانتقاده في أوساط إسرائيلية رسمية أو دولية منحازة إلى “إسرائيل” نفسها.
كيف نفسر صدور قرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو وغالانت في هذا التوقيت؟ معنى القرار الأممي أن “إسرائيل” باتت مطلوبة جنائياً للعدالة الدولية، ويضعها هذا القرار في دائرة اتهام صريحة غير قابلة للتشكيك، ولهذا معانٍ ودلالات بالغة في الأهمية، وستكون له انعكاسات في المقبل من الأيام، إذ يشكل سابقة في ملاحقة مجرمي الحرب، ومنعهم من الإفلات من العقاب.
للمرة الأولى يحدث إقرار دولي صريح بنزع الشرعية والغطاء الدوليين الممنوحين لـ”إسرائيل”، في مواصلة الحرب المستمرة على غزة. وهذا معناه فتح الباب أمام كل الدول الأعضاء بملاحقة نتنياهو وغالانت أولاً، وربما يفتح المجال ليطال ملاحقة مسؤولين آخرين في “إسرائيل” في مراحل متعاقبة، وهذا ما يؤرق “إسرائيل” ويجعلها منزعجة من صدور هذا القرار.
تلقّت “إسرائيل”، عبر صدور القرار، ضربة وهزيمة قانونيتين تُعَدّان الأقسى منذ نشأتها، واستهداف القرار لرأسَي المؤسستين السياسية والعسكرية في “إسرائيل” هو، في حد ذاته، كسر الصورة النمطية التي رسمتها لنفسها وأزالت كل الحواجز التي كانت في السابق قائمة، وفتح الباب لملاحقات أخرى متوقَّعة يمكن أن تحدث.
من التداعيات المهمة لصدور قرار الجنائية الدولية الإيذان الصريح ببدء الحصار الدبلوماسي الفوري لتحركات نتنياهو وغالانت خارجياً في الدول الأعضاء، تجنباً للاعتقال في الدول الأوروبية التي أعلنت التزامها أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة، وهذا يشكل دخول “إسرائيل” مرحلة جديدة من الملاحقة والعزلة الدوليتين، في ظل إصرارها على استمرار الحرب على قطاع غزة.
تعيش “إسرائيل” حالاً من القلق إزاء انعكاس مثل هذا القرار على الصعيد العسكري، واحتمال اتخاذ الدول الأوروبية قرارات ذات صلة باستمرار الحرب، وفرضها قرارات تتعلق بحظر تصدير السلاح إلى “إسرائيل”، تجنباً من إدانتها بتوفير غطاء لجرائم الحرب التي دانتها الجنائية الدولية.
وإذا تحقّق ذلك فستكون ضربة إضافية تتلقاها “إسرائيل” التي باتت في عين العالم “دولة” تمارس جرائم حرب، وهو ما سيزيد في تعميق القطيعة والعزلة الدوليتين لها نحو قرار الملاحقة.
من التداعيات المهمة، التي يجب التوقف عندها بعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية، موقف الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع “إسرائيل” بضرورة مراجعة حساباتها مرة أخرى، والمسارعة فوراً في قطع العلاقات مع “دولة” ثبت قانونياً أنها تمارس الأبارتهايد وجرائم الحرب في غزة. فمن غير المعقول مواصلة العلاقات بـ”دولة” ستحاكَم بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بحسب نص قرار قضاة المحكمة، لأن التحقيق سيطال كل من قدم مساعدة إلى “إسرائيل” على ارتكاب هذه الجرائم، بما في ذلك دول التطبيع العربية والخليجية. والأمر لا يقتصر على المساعدة العسكرية، بل يمتد إلى كل من قدم الغاز والبترول والمواد الغذائية إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب، ويصل الأمر إلى كل من تعاون استخبارياً لدعم استمرار الحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة. وهذا يعني، بصورة صريحة، أن قفص الاتهام بات جاهزاً لكل هؤلاء.
السياق الأهم هنا هو التأثير السياسي لقرار الجنائية الدولية بحق “إسرائيل” ونتنياهو وغالانت، وهو ما سيكون مفعوله أكبر من التأثير العملي للقرار، بسبب حرمان نتنياهو وغالانت من دخول أكثر من 120 دولة. فالمهم في الزاوية الأخرى من الصورة، في الوقت الذي تمارس إدارة بايدن الخاسرة في الانتخابات الرئاسية، كنتيجة أساسية لدعمها الحرب على غزة ودعمها مواصلة الحرب وتمريرها الفيتو مؤخراً في مجلس الأمن الدولي ضد قرار وقف فوري لإطلاق النار بغزة، هو عدم قدرتها على إلغاء هذا القرار بحق “إسرائيل”، وإن كانت تستطيع التأثير في بعض الدول في مواقفها لرفض قرار الجنائية الدولية وعدم الانصياع له، إلا أنها بذلك تعزز صورتها السوداء في دعم “إسرائيل” والانحياز الصارخ إليها، على حساب الضحية حتى الرمق الاخير من إدارتها.
“إسرائيل” تمادت في سلوكها الإجرامي ومارست العربدة والقتل وارتكاب الجرائم لأنها أمِنَت العقاب، واستخفت بكل القوانين، وأدارت ظهرها للاتفاقيات وواصلت إرتكاب الجريمة المنظمة ضد الإنسانية من دون حساب، وتجرأت على مهاجمة كل من يعاديها ومن أعلى المنابر والمحافل الدولية ومنصات الأمم المتحدة.
وهذا سلوك يشير إلى أنها تتعامل كـ”دولة” فوق القانون، لكنها لم تدر أن العنجهية حولتها إلى “دولة” معزولة منبوذة، ثم إلى “دولة” ملاحَقة قضائياً على الصعيد الدولي، وأن خطاب المظلومية، الذي ساقته على مدار الأعوام الطويلة الماضية، بدأ يتبدد بالتدريج أمام فظاعة الجرائم التي وثقتها المؤسسات الحقوقية وقدمتها كدلائل في المحكمة الجنائية الدولية بعد عام من الحرب على غزة.
بداية إخضاع “إسرائيل” للقانون هي انتصار قانوني للفلسطينيين التي تمارس ضدهم جرائم حرب في قطاع غزة، ومنذ اللحظة لم تعد صورة “إسرائيل” التي سبقتها في الدعاية الدولية مقبولة، فماهية القرار أنه يؤسس مرحلة جديدة من حساب “إسرائيل” وادانتها وعزلتها عالمياً وهو مسار مهم بحد ذاته نحو إدانة العنصرية والجريمة اللتين تمارسهما “إسرائيل” وصولاً إلى المقاطعة التامة.
“إسرائيل”، التي تصطف حالياً خلف نتنياهو بزعمه أنه سيد الأمن وهو الذي سيعيد بناء “إسرائيل” الجديدة في خوضه حرب النهضة، ستدرك في لحظة ما أنه يقودها نحو الهاوية، في وقت باتت تحت طائلة القانون والمحاسبة والملاحقة الدولية، لكن الحقيقة، التي لا يعلمها نتنياهو، أنه مع صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بات في ورطة كبيرة، وأن حبل المشنقة بدأ يلتف حول رقبته.
ولحظةَ تستيقظ الأطراف السياسية الإسرائيلية الأخرى المعارضة، وتدرك أن سلاح القانون سيلاحقها أيضاً، ستنتفض وستتحرك كمحاولة لإنقاذ رأسها من المحاسبة والملاحقة، على قاعدة أن العدالة قد تتأخر لكنها لا تنسى، وهذا هو أكبر التحديات التي تنتظر “إسرائيل” في وقت تدرك أكثر من غيرها أنها باتت تعيش تحديات التنفيذ للقرار، ولن تفلت من العقاب.
أخبار سوريا الوطن ١_الميادين