عريب الرنتاوي
اثنتان من دول “المراكز الإقليمية” الثلاث، غير العربية، استقبلت نبأ فوز ترامب الكاسح في انتخابات 2024، بالترحيب والارتياح، وإن على نحو متفاوت: تركيا و”إسرائيل”، فيما لم يهبط النبأ ذاته، برداً وسلاماً على إيران، والمؤكد أن أطراف هذا المثلّث، تجري حساباتها، وتعيد توزين وتقويم مواقفها وسياساتها، للتعامل مع حقبة ممتدة لأربع سنوات مقبلة.
“إسرائيل”، لم تكتفِ بالمسارعة إلى تقديم آيات التهنئة والتبريك للرئيس المنتخب فحسب، بل كانت تنتظر بفارغ “الأمل” وصوله إلى البيت الأبيض، وعملت حكومتها الأكثر تطرّفاً، ما بوسعها، لتعبيد الطريق أمام وصوله والحزب الجمهوري إلى سدّة البيت الأبيض و”الأغلبية” في مجلسي النواب والشيوخ، أقلّه بامتناعها عن تقديم “الهدايا المجانية” لإدارة بايدن الديمقراطية، ورفضها إتمام صفقتي الحل والتهدئة على جبهتي الحرب في لبنان وغزة، علّها بذلك “تُظهّر” عجز الإدارة المرتحلة وفشلها في إدارة ملف الحرب والسلام في الشرق الأوسط، مصداقاً لمزاعم ترامب واتهاماته التي ميّزت حملته الانتخابية.
تراهن “تل أبيب” على أن إدارة ترامب الثانية، ستكون امتداداً لإدارته الأولى، فتواصل ما كانت بدأته، إن لجهة رفع وتيرة العداء لإيران، وصولاً لتمكينها من ضرب برنامجيها النووي والصاروخي، ومطاردة حلفائها في الإقليم بقسوة ووحشية، أو لجهة استئناف المسار الإبراهيمي، وصولاً إلى إلحاق السعودية بإحدى قاطرات التطبيع، وبعث مشروع “الحلف الشرق أوسطي” المُصّمم لمحاصرة إيران وخنقها، وليس انتهاءً بمساعدتها على إنجاز خطة “حسم الصراع” مع الفلسطينيين، بفرض الحل الإسرائيلي عليهم في الضفة كما في القطاع، وربما تحت عنوان: “صفقة قرن موسّعة” أو “صفقة قرن ثانية”.
على أنّ للاحتفالية الإسرائيلية بعودة ترامب، دوافع وأهدافاً إسرائيلية داخلية كذلك، يتحرّق اليمين الأكثر تطرّفاً لإنجازها، بحماسة لا تقلّ عن حماسته لإنجاز أهداف سياساته الإقليمية، والمتمثّلة في إعادة صياغة “الدولة” والنظام السياسي في “إسرائيل”، بصورة تنسجم مع التحوّلات التي طرأت خلال العقدين الفائتين على تركيبة المجتمع الإسرائيلي واتجاهاته السياسية والعقائدية، وتتواءم معها، حتى وإن تطلّب الأمر الانتقال إلى نمط “استبدادي” في الحكم والسلطة، يبدو من منظور اليمين الديني والقومي، أكثر ملاءمة لـ”يهودية الدولة” التي بات واضحاً أنها في تناقض صدامي مع “ديمقراطيتها”، حتى وإن أفضى الأمر إلى استحضار أبشع فصول الأبارتيد وممارسة أشد صنوف الإبادة والتطهير العرقي… ترامب نفسه، صاحب نزوع استبدادي حدّ التفكير في تعديل الدستور، لضمان ولاية ثالثة، يقولها الرجل في قالب من الهزل الذي يشفّ عن أعلى درجات الجدّ.
وعمّت البهجة أوساط “إسرائيل” السياسية والأمنية، بعد الكشف عن هويات طاقم الإدارة الجديدة، سيما أولئك المرشّحين لتولّي ملفات المنطقة، من وزيري الخارجية والدفاع، إلى مستشار الأمن القومي، وسفيري الولايات المتحدة في الأمم المتحدة و”إسرائيل”، والموفد الخاص للشرق الأوسط، إذ جاء القاسم المشترك الأعظم في سير هؤلاء الذاتية، جميعها، أنهم من الأشد عداوة لطهران، والأكثر كرهاً لفصائل المقاومة، والأشد التصاقاً برؤية اليمين الإسرائيلي وروايته، وبما يجعل بعض أعضاء الكنيست من اليهود، أكثر “حمائمية” من معظم أعضاء هذا الطاقم.
بيد أن الفرحة الظاهرة بمقدم ترامب، لا تخفي قدراً من القلق الغاطس تحت السطح، وخلف الأبواب المغلقة، والبهجة التي أعمت البصائر والعقول المدججة بالأيديولوجية القومية ـــــ الدينية السوداء، لم تمنع من تبقّى من “عقلاء إسرائيل”، وهم قلّة على أية حال، من التحذير من عواقب وخيمة، قد تكون بانتظار “إسرائيل”، إن لم يكن في المدى الفوري المباشر، فعلى المديّين المتوسط والأبعد.
من هذه المخاوف، ومسبّبات القلق والتحسّب، أنّ ترامب، لم يخفِ رغبته في إنهاء الحروب الممتدة من الشرق الأوسط إلى أوراسيا، وأنه يستعجل غلق ملفَي الحرب على لبنان وغزة، وأنه قد يتخذ مساراً دبلوماسياً مع طهران، ظهرت إرهاصاته الأولى في “تسليك” بعض القنوات الدبلوماسية الخلفيّة، المارّة ببغداد ومسقط والدوحة، وربما الرياض في مقبل الأيام.
الرجل الذي يُجمع المراقبون على وصفه، بأنه “عصيّ على التنبّؤ” بسلوكياته ومواقفه، قد يفاجئ “إسرائيل” بما لا ترغب فيه، وقد يذهب إلى “صفقة كبرى” مع إيران، إن ضمن عدم امتلاكها للسلاح النووي كما قال شخصياً في أثناء حملته، وقد نكون أمام فصل آخر، من “عدم التطابق” بين الأجندتين الإسرائيلية والأميركية في الإقليم، مع فارق كبير، يتمثّل بوجود رئيس قوي في البيت الأبيض، لن يسمح لنفسه أن يكون “ألعوبة” في يد نتنياهو، كما كان عليه بايدن طيلة الأشهر الأربعة عشر الفائتة.
ثم، إن الرجل سيستأنف مهامه الرئاسية في ولاية ثانية، فيما الشرق الأوسط والعالم، بات مختلفاً عمّا كان عليه في خواتيم ولايته الأولى… العلاقة النامية على ضفتَي الخليج باتت عقبة في وجه مشاريع الأحلاف وعسكرة العلاقات الإقليمية، واللاعبون الكبار يعزّزون حضورهم على مسرح السياسة والنظام العالميّين، و”انكفائية” ترامب ونزعته “الانعزالية”، قد لا تتلاءم مع خطط “إسرائيل” للتصعيد وإشعال الحروب… الأمر الذي يُبقي الباب مفتوحاً أمام عوائق وتحديات ستجابه اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرّفاً، وسياساته الخارجية والأمنية.
على أن نتنياهو والائتلاف الحاكم، لن يجدا عائقاً طيلة السنوات الأربع المقبلة، في سعيهما لتحقيق أهداف الانقلاب على المحكمة والقضاء، وضرب مبدأ فصل السلطات، وإطلاق يد الحريديم في “الدولة” والمجتمع، ونقل “إسرائيل” إلى “المملكة الثانية”، الشرق أوسطية في سماتها، بعد أن صدّعت العالم، بحديثها عن نفسها بوصفها قطعة أوروبية في صحراء المنطقة العربية القاحلة.
دروب اليمين لتحقيق مسلسل “انقلاباته” الداخلية والخارجية، ما زالت محفوفة بالتحديات والعوائق، التي قد لا يكفي معها، وجود ترامب في البيت الأبيض، وفي مقدّمها أن القوى المستهدفة بالبربرية والتوحّش الإسرائيليين، ما زالت صامدة وتقاوم، فيما إيران ما زالت قادرة على مقابلة التحدّي بالتحدّي، كما فعلت رداً على قرار الوكالة الدولية للطاقة النووية، بتسريع عمليات التخصيب، وإدخال أجهزة أكثر تطوّراً في الخدمة.
ارتياح…ولكن
تركيا من جانبها، كانت من بين المستبشرين خيراً بخروج بايدن ومجيء ترامب، وبصورة أوسع، خروج الديمقراطيين ومقدم الجمهوريين… إدارة بايدن، وقبلها أوباما، لم تكن ودودة مع تركيا في “ملف حقوق الإنسان”، ولدى أنقرة ما يشير إلى “تورّط أميركي” في المحاولة الانقلابية الفاشلة (15 تموز/يوليو 2016) في أواخر ولاية أوباما ـــــ بايدن الثانية، والتي استهدفت الإطاحة بإردوغان ونظامه، فضلاً عن احتضانها المتمادي لألدّ خصوم الرئيس التركي، الداعية الراحل مؤخّراً، فتح الله غولان.
على أن العامل الأكثر أهمية، الكامن وراء الارتياح التركي لمقدم ترامب، إنما يتعلّق بـ”المسألة الكردية”، فالانتخابات الأميركية وقعت في ذروة العدوان الإسرائيلية على فلسطين ولبنان، وما تلاه من تهديدات بإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وموازين القوى في دوله الأساسية، وتلويح “إسرائيل” بتوجيه ضربات استراتيجية تعيد ترسيم المشهد السوري، وكَشْف جدعون ساعر عن رغبة “تل أبيب”، في إنشاء “حلف الأقلّيات”، مشدّداً بشكل خاص على كرد المنطقة، المنتشرين في أربع من دولها، تصنّف جميعها في خانة العداء لـ “إسرائيل”، على اختلاف درجات العدائية وحدّتها.
عانت تركيا من تعاطف إدارة بايدن، ومن قبله إدارة أوباما، مع كرد المنطقة عموماً، واستثمارهما الكبير في الحركة الكردية السورية، التي لا يُخفي عمودها الفقري “قسد”، انتماءه لمدرسة عبد الله أوجلان، زعيم الحركة الكردية التركية وأبيها الروحي، وما زالت أنقرة، تسترجع تصريحات ترامب المعبّرة عن رغبته، في سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، وهي الرغبة التي اصطدمت بمواقف متصلّبة من “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة، إلى أن جاءت إدارة بايدن، وعزّزت هذا الوجود بدل تقليصه، وفتحت مخازن السلاح والعتاد لقوات سوريا الديمقراطية، ووفّرت لها الغطاء السياسي والعسكري، الذي مكّنها من مجابهة مختلف أطراف المثلّث السوري- التركي – الإيراني، دع عنك مناهضة العشائر العربية لما أسمته بمشاريع الهيمنة الكردية على الأغلبية الغربية، في معظم مناطق الشمال الشرقي للبلاد.
تركيا تخشى تنامي النزعات “الانفصالية” لكرد المنطقة، في سوريا والعراق بخاصة، بالنظر لما يمكن لمبدأ “الدومينو” أن يستحدثه، وهي العارفة بأن “المدرسة الأوغلانية” عابرة للحدود بين كرد المنطقة، بخلاف الزعامة المحلية لكلّ من “المدرسة الطالبانية” و”البرزانية” اللتين تحظيان بنفوذ محدود خارج مناطق سيطرتهما في السليمانية وأربيل وجوارهما… وهي تعلم علم اليقين، أنّ اللعب بورقة “حلف الأقلّيات” من شأنه أن يمسّ بوحدتها الترابية ونسيجها الاجتماعي، والرئيس إردوغان، لطالما حذّر من مخططات تستهدف سلامة الأرض والشعب التركيين، ومن وجود قوى إقليمية ودولية، راغبة في تفتيت تركيا وإخضاعها.
تعرف أنقرة، أن لا “روابط خاصة” تجمع ترامب بكرد المنطقة، ولا تَحفّظَ لديه على أنماط الحكم غير الديمقراطية في العالم، بل هو لا يتردّد في إظهار الإعجاب بأنظمة حكم مطلقة وديكتاتورية، وهو نفسه، ربما كان يفضّل نظاماً كهذا، يبقيه على رأس السلطة، حتى اليوم الأخير في حياته… لكن من دون ريب، تعرف تركيا طبيعة النظام السياسي الأميركي، والمؤكد أنها تحسب ألف حساب، لمؤسسات “الدولة العميقة”، وجماعات الضغط ولوبيّاتها المؤثّرة.
بين خيارين
ما إن تكشّفت النتائج الأولية للانتخابات الأميركية، حتى اتجهت الأنظار صوب طهران، وكيف ستتعامل مع هذا التطوّر النوعي “Game Changer”، سيما وأن فوز ترامب الكاسح، جاء في لحظة إيرانية مكثّفة، من عنوانيها: الدخول في صدام مباشر مع “إسرائيل”، بعد سلسلة الضربات الجوية والصاروخية المتبادلة بين البلدين، وترقّب الردّ الإيراني على عدوان “إسرائيل” الأخير (26 تشرين الأول/أكتوبر 2024)، وفي غمرة مراجعة طهران لعقيدتها النووية، كما صرّح بذلك غير مسؤول إيراني، وبعد أشهر قلائل فقط، من انتخابات رئاسية في إيران (5 تموز/يوليو 2024)، أفضت إلى فوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان، في إثر حادثة تحطّم المروحية (19 أيار/مايو 2024) التي أودت بحياة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان.
في النقاش حول طبيعة الاستعداد الإيراني لاستقبال إدارة يمينية لا تخفي عداءها لها، وسبق لها أن انسحبت من “اتفاق فيينا النووي”، تباينت تقديرات المراقبين، منهم من ذهب للقول إن طهران ستعلن انضمامها إلى “نادي الدول المسلّحة نووياً”، لفرض أمر واقع جديد على المجتمع الدولي، يوفّر لها حصانة حيال العدوانات الخارجية، كما هو حال مختلف الدول الأعضاء في هذا النادي… وفريق رجّح أن تعتمد طهران، سياسة “اليد الممدودة” حيال واشنطن وإدارة ترامب، وأنها ستفضّل شنّ هجوم سلام، بدل الهجمات العسكرية، علّها بذلك تتفادى انجرار واشنطن خلف “تل أبيب” في نزعاتها الحربية، وتتمكّن من الاندماج مجدّداً في منظومة “سويفت” والاقتصاد العالمي، وترفع عن كاهلها عبء العقوبات القاسية، القديم منها والجديد.
الفريق الأول من المراقبين، ومنهم كاتب هذه السطور، استند في ترجيحاته، إلى ما قيل في طهران، عن “مراجعة للعقيدة النووية”، فقد قُدّر لنا الاستماع مباشرة، أثناء مشاركتنا في النسخة الثالثة من الحوار العربي ـــــ الإيراني، لوزيري خارجية إيران، الراحل والحالي، عن إخفاق هذه العقيدة في تحقيق مراميها الثلاثة: (1) التسليم بحق إيران في برنامج نووي سلمي، ودورة تخصيب كاملة تحت السيادة الإيرانية… (2) رفع العقوبات وتطبيع علاقات طهران مع مراكز المال والأعمال… (3) شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي.
وكان واضحاً لنا، أن تهديدات “إسرائيل” باستخدام “القنبلة” ضد غزة، ودعم بعض أعضاء الكونغرس الأميركي لهذا الخيار المجنون (ليندسي غراهام مثالاً)، كان حافزاً قوياً دفع طهران لإجراء المراجعة… وكنت أحسب أن التوقيت الأنسب لإعلان طهران عن امتلاك “القنبلة” وخلق ميزان رعب وردع متبادل مع “إسرائيل”، ربما يكون عشية الانتخابات الأميركية، أو في الفترة الفاصلة بينها وبين تولّي الرئيس الأميركي الجديد، مقاليد البيت الأبيض.
لكن الفريق الثاني، الذي رجّح سياسة “اليد الممدودة”، إنما اعتمد على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وفوز التيار الإصلاحي، الذي وضع على رأس سلّم أولوياته، إحياء محادثات “النووي”، والتخلّص من العقوبات، ومعالجة نقاط الضعف العديدة، التي أصابت اقتصاديات البلاد و”ماليتها” من جراء عقود من الحصار والعقوبات… وأحسب أن وجهة النظر هذه، هي التي حظيت بالغلبة، وإيران تبحث اليوم، من خلال قنوات الاتصال المعتادة مع الولايات المتحدة، عن إمكانية الوصول إلى تسوية (صفقة) من شأنها رفع العقوبات، وإعادة ترتيب علاقاتها بدول الغرب.
ولأنها تدرك أن المهمة ليست من النوع اليسير، سيما بوجود اليمين المتطرف على رأس السلطة في واشنطن و”تل أبيب”، فإن طهران تعمل على تفعيل أوراق أخرى، إن لم يكن لتحقيق أهداف سياسة “اليد الممدودة”، فأقلّه من باب “التحوّط” والسعي لإحباط أهداف المشاريع المعادية لها… وفي هذا السياق، يندرج “هجوم السلام” الذي شنّته على دول المنطقة، بالذات المملكة العربية السعودية، وفي السياق ذاته، تبحث إيران في تقوية وتعزيز أواصر تحالفاتها مع الأقطاب الدولية الناشئة، بالذات في الصين وروسيا.
لسنا ندري كيف ستستجيب واشنطن، والغرب من ورائها، مع هذه السياسة، وما إن كانت مراميها ستجد طريقها إلى حيّز الترجمة، كما أننا لا ندري كذلك، هل ستصيب حسابات المراكز الإقليمية الأخرى (أنقرة وتل أبيب) أم ستخيب، وبأيّ قدر وإلى أيّ مدى… وحدها الأسابيع والأشهر المقبلة، ستثبت ما إذا كنّا أمام “ترامب 2” أم أنّ جديد ترامب كقديمه… الإقليم، كما النظام الدولي، في مرحلة انتقال ومخاض، لن تتضح معالمها إلا بعد مرور ردح من الوقت.
أخبار سوريا الوطن ١_الميادين