وسام كنعان
القاهرة | تبدو السينما بالنسبة إلى صنّاعها أكثر من مجرّد مهنة، أو حالة جمالية مشغولة بالتقاط الملفت، وصياغة المتعة، ومواكبة الأحداث بلغة الصورة. إنها إدمان مطلق! ما يبرر ذلك ما فعله المخرج جود سعيد مع مدير الإضاءة والتصوير وائل عز الدين ومجموعة من الشركاء الذين تقاسموا تجارة خاسرة حكماً في إنتاج فيلم سينمائي سوري مستقل، وهذه واحدة من التجارب النادرة في بلاد لا تنتج سينما إلا من خلال المؤسسة العامة الحكومية التي باتت قريبة من الإفلاس بسبب الظروف الاقتصادية الحالكة التي تعيشها البلاد.
أنتج سعيد مع رفاقه فيلم «سلمى» (سيناريو وحوار: جود سعيد وطارق علاق، وسومر إبراهيم، إخراج جود سعيد، بطولة: سلاف فواخرجي، باسم ياخور، عبد اللطيف عبد الحميد، حسين عباس، ورد عجيب، نسرين فندي، مغيث صقر وآخرين) وقد عرض مساء الأربعاء الماضي للمرة الأولى ضمن فعاليات مسابقة «آفاق السينما العربية» في «مهرجان القاهرة السينمائي» الذي اختُتم أخيراً.
يذهب «سلمى» إلى مطارح مختلفة عن تلك التي قدّمها جود سعيد في أفلامه السابقة، ولو كان ينقّب في البيئة ذاتها التي حضرت حكاياته فيها. هذه المرّة نحن أمام امرأة عادية لكن ستصبح قوام المقترح السينمائي بذريعة أنها واحدة من ملايين السوريين الذين يجرفهم النسيان، ويطوّقهم البؤس والتجاهل والحرمان من أبسط الحقوق، ولو كانوا يملكون كلّ مقومات البطولة والشجاعة. تخطف سلمى (سلاف فواخرجي) حصّتها الوافرة من الضوء في ساعة الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركّز على المناطق الساحلية والشمالية. استطاعت يومها أن تنقذ إلى جانب عائلتها طفلة فالتقطتها عدسات الكاميرات، وصارت تعرف باسم «بطلة الزلزال» رغم أنها مجرّد مُدرسة عادية تحاول جاهدة البقاء في محافظتها إلى جانب عائلتها، وتواصل رحلة البحث عن زوجها المفقود في الحرب. تضطر لأن يلتهمها الانتظار كلّما وصل خبر عن إفراج عدد من المعتقلين، تنزل إلى المكان المذكور وتنتظر من دون أن يعود زوجها، فتعود أدراجها إلى محافظتها، بدون قدرتها أن توفّيه في سجلاّت الدولة كونها لا تملك أي إثبات يؤكد وفاته!
هكذا تعود إلى يومياتها العادية إلى أن يأتيها خبر نقلها إلى مدرستها الأصلية التي كانت قد غادرتها بسبب تأزم الأوضاع فيها، فتجّرب التحايل على القرار إلى أن يجمعها مدير المدرسة برجل ثري (باسم ياخور) لتدرّس له ابنته التي تتحضر للشهادة الثانوية. بعد فترة وجيزة، تتبين بأنه من أثرياء الحرب، فتوضع في مأزق عندما يطلب منها بصفتها إحدى بطلات الزلزال أن تروّج لترشّح أخيه وأخته لمجلس الشعب. تجرب الرفض، فيصرّ عليها إلى أن توافق لكن أثناء التسجيل تعتذر وتطلب الانسحاب لتشتبك مع الرجل، الذي يضربها ويطردها من المكان. هنا يقترح عليها صديقهم الروائي والمعتقل السياسي السابق (حسين عباس) الذي يكتب روايته عن يوميات السجن، بأن تردّ على تاجر الحرب ذاك بالترشّح في مواجهته. تسخر من الفكرة لكنها سرعان ما تقتنع وتصوّر دعايتها فوق أنقاض بيتها الذي هدمه الزلزال، وتبدأ بالتواصل مع الناس بلغة تشبههم فيما تعاند تهديدات رجال المافيا الذين يسيطرون على كلّ شيء بعد الحرب والحصار! تنجح سلمى في الانتخابات بالتزامن مع اكتشاف مقبرة جماعية لا يكون زوجها ضمنها. ومع البلاغ الأخير عن إفراج جديد عن المعتقلين، تعتقد بأنها ستجده هذه المرة وتوهم الكاميرا الجمهور بذلك، لكنّه يظلّ مجرّد سراب كاذب. وينتهي الفيلم بتوجيه تحيّة للسينمائي السوري الكبير عبد اللطيف عبد الحميد الذي يلعب دور والد زوج سلمى!
الحكاية تتعاطف مع صوت الناس، وتخطب ودّ معتقلي الرأي الشرفاء الذين لم ينقلبوا على البلاد، عندما كانت اللحظة مواتية لأخذهم بالثأر! يقدّمهم كما يستحقون أبطالاً ووطنيين ومثقفين حقيقيين دفعوا أعمارهم ثمناً لقضاياهم النبيلة في مناهضتهم السلطة المستبدة، فيما يطرح مقاربة جديدة عموماً بين من يستعد لدفع روحه ثمناً لأهله وناسه، وكيف يعيش يومياته المجبولة بالقهر، ومَن استغل الظروف وبنى ثروة على دماء الناس، وصارت له صولة وجولة وكلمة عليا في بلاد متآكلة بفعل الحرب، ومنهكة بذريعة الفوضى وتكاثر اللصوص وتجار الحرب، ووصل إلى نتيجة أنه لو اختار الناس من يشبههم وفضلوه على النقود العابرة، سيظّل عاجزاً مثلهم حتى عن إيجاد حلول لقضاياه المصيرية، لأنه يعيش بطريقة واضحة كالماء، بينما يسرح ويمرح أثرياء الحرائق السورية كما يحلو لهم.
اللغة البصرية بطلة في الفيلم، إلى جانب السوية الادائية الملفتة لنجمة العمل سلاف فواخرجي، والانضباط الواعي عند باسم ياخور والكركتر المدروس الذي قدمه مغيث صقر، واللغة الرصينة التي اشتغل عليها حسين عباس، فيما كانت الصورة توازي البراعة التجسيدية بغوص صريح في بيئة بكر ومواقع تصوير جديدة عموماً لم يتم استهلاكها، لنكون أمام حلّ جمالي في غاية الرهافة والإحساس عندما تفتح أمام سلمى وهي في غرفة نومها شاشة تشبه السينما تعيد أمام شريط ذكرياتها أو تصوغ مخيلتها مع رفيق دربها! شاشة سينما هاربة من الزمن الجميل تبوح لنا بذاكرة البطلة وأحلامها وهي مسوّرة بالضوء ومتوجة بالأمل.
الفيلم خطوة ملهمة ومغامرة مستحقة في طريق جود سعيد السينمائية، وهي إذ تتلقّف مساحة من الدفء وتغوص في مكامن مترفة بالإنسانية، فإنها في نهاية المطاف تستطيع أن تضيف لنجاحاته نجاحاً جديداً، وتعزز مكانة أفلامه وقدرتها الصريحة على التماس المباشر مع روح الشارع، وهموم الناس البسيطة المحكومة في العيش في بلاد متهاوية!
أخبار سورية الوطن ١_الاخبار