الرئيسية » كتاب وآراء » رحلة نتنياهو نحو النهاية

رحلة نتنياهو نحو النهاية

لينا الطبال

 

 

 

تروي الأسطورة أن نمرود كان ملكاً متغطرساً أمر ببناء برج بابل ليتحدى الله ويصل إلى السماء، فعاقبه الله بتدمير البرج وتشتيت شعبه، وتنوع لغاته وتفريقه بين الأمم. نمرود، رمز الغرور البشري، يمثل تجسيداً للطمع وتحدي العدالة والذات الإلهية. فبمن يذكرنا هذا النمرود، إن لم يكن ببنيامين نتنياهو؟ الذي يفرض منطق القوة على شعوبنا، متجاهلاً كل القوانين الدينية والوضعية؟

إلى جانب كونه مجرم حرب، يتمتع بنيامين نتنياهو بميزة أخرى وهي براعته في مجال التسويق. لقد نجح في تسويق نفسه على أنه المخلص المنتظر لبني إسرائيل، وبات يُلقب بـ«بيبي ملك إسرائيل». تتحدث الصحافة العالمية عنه بأهمية تحدثها عن بايدن، الجميع يصفق له، الجميع يوافقه الرأي… أيضاً. تمكّن من التسويق لفكرة أنه الرجل الذي سينقذ العالم من إيران، سيحارب على الجبهات كافة. رجل كهذا في إمكانه جر العالم إلى حرب عالمية ثالثة. يملك نتنياهو قاعدة شعبية واسعة، رغم الانتقادات الموجهة إليه. مع ذلك، يظل نتنياهو بالنسبة إلى كثيرين رمزاً للاستقرار السياسي والأمني في إسرائيل. فهو لا يُعتبر مجرد رئيس حكومة، بل تجسيد لنهج أمني متكامل يقوم على فكرة ضمان استقرار إسرائيل. وكلما ابتعدت فرص السلام، كلما زادت شعبيته… رجل كهذا من يستطيع مخاصمته؟

جعل من إيران حجر الزاوية في إستراتيجيته الحربية، واعتبرها تهديداً وجودياً لإسرائيل، وسعى إلى تشكيل تحالفات دولية ضدها، لم يكن إقناع هذه الدول صعباً على الإطلاق. ادعى نتنياهو أنه يحارب إيران نيابة عنهم، لذلك عليهم أن يصمتوا وألا يزعجوه بذكر الاتفاقيات والقوانين الدولية.

لقد تعززت عظمة نتنياهو بشعار روجته الولايات المتحدة الأميركية: «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها». وعليه، يظهر نتنياهو كحامي أمن إسرائيل، متقناً فنّ التلاعب بالأحداث لمصلحته. يحرّك الدول كقطع شطرنج، يسيطر على النقاشات الدولية، ويعيد توجيه الرأي العام بما يخدم أجندته. حقاً؟ نعم، فحين يصبح الدفاع عن النفس ذريعة لفرض الهيمنة، يترك العدل على هامش الطاولة… هذا ما يسمى بالمقترح الخطير.

يماثل هذا المقترح خطورة «النظام الدولي القائم على القواعد» Rule-Based Order الذي يأتي في مرتبة أسمى من القوانين كافة. هكذا قررت الولايات المتحدة الأميركية حكم العالم من جانب واحد، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تولّت زمام الأمور، وأصبح العالم رهينة لسياساتها. فقوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وجميع آليات الأمم المتحدة وكل المنظمات الدولية مرهونة بأمرها ولمصلحتها فقط. فلا تطبيق للقانون الدولي إذا كانت مصلحة الولايات المتحدة مهددة. وفي إمكان الدول الأوروبية الاستفادة من هذا الامتياز، شرط أن تكون مصالحها تتلاقى مع مصالح الولايات المتحدة، وإلا ستجد نفسها خارج اللعبة.

في 10 نوفمبر 1975، صدر القرار الرقم 3379 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد نص على أن «الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، إلا أنه تم إلغاؤه في عام 1991 فور سقوط الاتحاد السوفياتي.

على مدى 76 عاماً، أتيح لإسرائيل الاستفادة من هذا «النظام الدولي» الذي يتسم بالتناقضات والازدواجية، وسط سياسة الكيل بمكيالين التي شجبناها في بلادنا حتى بُحت أصواتنا. لقد سخرت إسرائيل على مدى عقود من قرارات الأمم المتحدة، ومزق ديبلوماسيوها ميثاقها، واستخفت بخطابات أمنائها العامين. يمكن العودة فقط إلى تعامل إسرائيل مع آخر ثلاثة منهم: كوفي أنان، الذي اتهمته مراراً وتكراراً بالانحياز، وأنه لم يعطِ الأمن الإسرائيلي الاهتمام الكافي. أمّا بان كي مون، فقد كان هدفاً لانتقادات إسرائيلية حادة، بسبب عدم مراعاته – وفقاً لتعبيرها – «التهديدات الأمنية التي تواجهها». ومع تعاقب الأحداث، جاء أنطونيو غوتيريش، الأمين العام الحالي، ليحمل بدوره نصيبه من اللوم والاتهامات، حيث أبلغته إسرائيل صراحة بأنه غير مرحب به على أرضها.

كل شيء مباح لإسرائيل. مقتل خمسين ألف شخص في غزة والآلاف في لبنان، تسوية المدن بالأرض، قصف المستشفيات، واستهداف المدنيين، والتنكيل بالأسرى، كل ذلك يمر دون محاسبة. تفرض إسرائيل الحصارات وتقطع الإمدادات، وتستخدم الأسلحة المحرمة دولياً دون رادع. أمّا القانون الدولي، فلا يُطبق… تنتهك حقوق الإنسان باسم «الدفاع عن النفس»، وتبقى إسرائيل بمنأى عن العقاب… لقد رأى العالم ولم يقل شيئاً. كانت ردود الفعل الدولية على الإبادة في غزة وفي لبنان أقل من الحد الأدنى للنفاق العالمي الذي اعتدنا سماعه.

هذا «النظام الدولي» هو الذي أتاح لإسرائيل التهرب من العدالة الجزائية، لم تكن المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، بمنأى عن الضغوط والتهديدات التي مارستها الحكومة الإسرائيلية عليها خلال مدة ولايتها. ومع تولي كريم خان منصبه كمدع عام جديد للمحكمة، واجه هو الآخر تحديات جسيمة، إذ سارعت إسرائيل إلى اتهامه بالتحيز ضدها وهددته شخصياً.

في مشهد يتحدى كل منطق، أدان نتنياهو، وهو المتهم بارتكاب جريمة الإبادة، كريم خان، لتجرّئه على فتح تحقيق وتحديد مسؤوليته عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة.

أوروبا أيضاً أوجدت لنفسها «نظاماً دولياً» تتقدّم فيه المصالح على القوانين. إنه الامتياز الذي منحته القوى الاستعمارية لنفسها بعد تسليم مستعمراتها في القرن التاسع عشر لتستمر مصالح الدول الكبرى في الهيمنة على حساب العدالة والمساواة.

نعم، أوروبا الديموقراطية، تقدّم نفسها أنها حامية حقوق الإنسان، إلى أن جاءت فوقية نتنياهو وكشفت عورات هذا النظام الذي يدعي العدالة. وبالطبع وجدت أوروبا ذاتها في موقف غير مريح، فهي، ورغم انحيازها الأعمى لإسرائيل، قد تعارض مسار الحرب الدموية هذه، لسبب يتعلق بمصلحتها طبعاً. أوروبا تعي أن مصالحها في الشرق الأوسط ستزول إذا ما خرجت إسرائيل منتصرة في هذه الحرب، وهي تسعى جاهدة إلى التملص من هذا الوضع المعقد، لكنها تواجه ضغوطاً أميركية هائلة… فما العمل؟

 

في مشهد يتحدى كل منطق، أدان نتنياهو، وهو المتهم بارتكاب جريمة الإبادة، كريم خان، لتجرؤه على فتح تحقيق وتحديد مسؤوليته عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة

 

سأقدّم مثالاً واضحاً عن التحديات التي يواجهها الرؤساء الأوروبيون في مواجهة العنف الإسرائيلي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو داعم من الصف الأول لإسرائيل، لكنه يتحرك بخجل، لقد أدان القصف الإسرائيلي «الذي يستهدف عمداً» قوات حفظ السلام (القبعات الزرق) في لبنان، واصفاً إياه بأنه «غير مقبول إطلاقاً». ومنذ أسبوع، كان قد صرّح بأن تسليح إسرائيل ليس الحل الأمثل للأزمة. ها هو اليوم يصفّق لشريك نتنياهو في الإبادة، ذاك الذي يدعوه لقص شريط حفل تبرعات لدعم مجهود الجيش في غزة. نعم، ماكرون قد يجلس سموتريتش بجواره في مباراة كرة القدم بين فرنسا وإسرائيل، يكرّمه باسم السلام، بينما تهدر حقوق الأبرياء هناك بلا ضمير.

لم يتردد نتنياهو في توجيه انتقادات لاذعة إلى ماكرون بأسلوب حاد، وصل إلى حد التهجم الشخصي عليه… كيف لرئيس وزراء مُتهم بارتكاب جريمة إبادة أن يهين رئيس دولة عظمى؟ هذا هو المشهد في أوروبا، وهو يعكس الغباء الذي يواجهه الزعماء الأوروبيون، خاصة عندما يحاولون الموازنة بين مبادئهم الأخلاقية من جهة، والمصالح الإستراتيجية وضغوط التحالفات الدولية من جهة أخرى.

تمارس إسرائيل، تحت قيادة نتنياهو، سياسات فاشية تُعقّد من مهمة الدول الأوروبية في الحفاظ على توازن ديبلوماسي بين مصالحها وحقوق الشعوب الأخرى، كالفلسطينيين واللبنانيين. في واقع الأمر، تجد هذه الدول نفسها في موقف حرج، حيث يتعين عليها مواجهة التحدي المتمثل في حماية مصالحها الدولية، بينما تسعى في الوقت ذاته إلى احترام حقوق الشعوب الصديقة المتضررة من السياسات الإسرائيلية.

قد لا تصدق هذا التحليل، وقد تتساءل: أليس من المستغرب أن تخضع أوروبا لـ«النظام الدولي الأميركي»؟ فهذا يتعارض مع مصالحها الخاصة…

إليك إجابتي: أولاً، يعتمد عدد من الدول الأوروبية على التحالفات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، التي تعد حليفاً رئيسياً لإسرائيل. هذا الاعتماد يجعل من الصعب على الحكومات الأوروبية اتخاذ مواقف مستقلة، إذ تُعتبر هذه التحالفات عنصراً أساسياً في الأمن القومي الأوروبي.

تعود وتسأل: أليس هذا النظام فعلاً مُؤذياً لمصالح أوروبا؟

دعني أكمل إذاً: ثانياً، بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت الولايات المتحدة دوراً حاسماً في تأسيس نظام يستند إلى التعاون الدولي والقواعد المشتركة. كان هذا النظام يهدف بالأساس إلى منع وقوع حرب أخرى في أوروبا، التي شهدت دماراً هائلاً خلال هذه المدة. وعلى مر السنين، تطور هذا النظام ليصبح إطاراً متكاملاً يروج للسلام والاستقرار. ويشعر الأوروبيون، بشكل خاص، بامتنان كبير تجاه الولايات المتحدة، إذ يعتقدون أن هذا النظام قد حمى قارتهم من أهوال حرب عالمية جديدة. جميعكم يعرف أن هذا النظام أسهم في إعادة بناء أوروبا وترسيخ أسس التنمية.

حتى اليوم، لا يزال الأوروبيون يعانون من آثار الحربين العالميتين، حيث تؤثر هذه الذكريات على نفوسهم. وهي لم تقتصر على الأجيال التي عاشتها فقط، بل تم نقلها إلى الأجيال اللاحقة عبر القصص والروايات العائلية. لذلك، أصبح الخوف من الحرب جزءاً من الوعي الأوروبي الجماعي. ومن هنا، يأتي تقديرهم الكبير للدور الأميركي في ضمان الاستقرار والأمن، إذ يرون في الولايات المتحدة القوة التي وفرت لهم الحماية ومنعت تكرار تلك الكوارث.

مع إيضاح موقف أوروبا الملتصق بأميركا، يتبين أن الرهان على أي حل من الجانب الأوروبي لغوٌ لا يعتمد عليه. وتظل أوروبا أسيرة خياراتها، مفضلة السير على خطى واشنطن.

لنعد الآن إلى مقالنا حول إسرائيل وبنيامين نتنياهو: فما الذي ينتظره في ظل هذا المشهد؟ هل يمكنه، فعلاً، أن يواصل ممارسة القتل والذبح دون أن يتعرض للمحاسبة؟ إن هذا الرجل، لو لم يكن يشغل منصب رئيس وزراء، لكان اليوم بلا شك خلف القضبان في إسرائيل.

تنتهي أسطورة نمرود، الذي كان من أقوى الحكام في زمانه متسلحاً بجيش لا يُهزم ويملك السلطة المطلقة، بأنه، ورغم كل قوته، يُقتل بواسطة بعوضة، وهي من أصغر مخلوقات الله. إذاً، يمكن أن تكون الهزيمة في الحروب لأسباب تبدو بسيطة أو غير متوقعة. لقد تجاهل نتنياهو القدرة الإلهية، وتجاوز المنظمات الدولية وخرق الأعراف والقوانين الإنسانية. فالطغاة غالباً ما ينسون أن الغطرسة لا تدوم، وأن التاريخ مليء بالأشخاص الذين بطشوا واحتلوا دولاً وقارات وخسروا في النهاية.

ربما تحاول إسرائيل فرض سيطرتها بالدم والنار ويسعى نتنياهو إلى استخدام أقصى قوته العسكرية لتحقيق أهدافه التوسعية. لكن القوة لا تُقاس فقط بعدد الجنود أو كمية العتاد ونوعيته، هذا ما قاله صون تزو، بل هي في الأساس تتعلق بالعزيمة والإرادة، وتنبع من تلك الروح التي تعكس إيمان الشعوب بحقها في الحرية والكرامة. والمقاومة هي السلاح الأكثر فتكاً في مواجهة الظلم… والنصر، مهما تأخر، هو حق مقدس سيتحقق.

* أستاذة جامعية،

باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس

 

 

 

 

 

أخبار سورية الوطن ١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نتنياهو بين قرار محكمة الجنايات الدولية وإدارتي بايدن وترامب

  م. ميشال كلاغاصي أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكابهما جرائم ضد ...