إلهامي المليجي
إلهامي المليجي
مع سيطرة الجماعات المسلحة بقيادة جبهة “النصرة” والتنظيمات الأخرى المدعومة تركياً وأمريكياً على غالبية الجغرافيا السورية، باستثناء المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، تتجلى ملامح مشروع إقليمي ودولي جديد يهدف إلى تقسيم سوريا.
تصريحات وزير الخارجية الصهيوني، جدعون ساعر، التي وصف فيها “سوريا الموحدة بأنها لم تعد واقعية”، ودعوته إلى بناء كيانات مستقلة للأقليات السورية، تمثل إعلاناً واضحاً عن المخطط الصهيوني لتفتيت سوريا وفرض وقائع جديدة تخدم مصالح الكيان الصهيوني الاستراتيجية.
هذه التطورات تأتي بالتزامن مع إعلان “دولة” الكيان الصهيوني إنهاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، واحتلالها مناطق واسعة من جبل الشيخ، في خطوة تصعيدية تستهدف استغلال حالة الفوضى لتحقيق مكاسب جيوسياسية، وتعزيز هيمنتها على المنطقة.
تحالف المصالح: أميركا وتركيا والكيان الصهيوني في تنفيذ مشروع التقسيم
الهيمنة شبه الكاملة للجماعات المسلحة على سوريا لم تكن لتتحقق إلا من خلال دعم مكثف وممنهج من تركيا وأميركا، وهو دعم يتراوح بين التمويل، والتسليح، والتغطية الإعلامية، وصولاً إلى توفير منصات سياسية لهذه الجماعات.
تركيا استخدمت موقعها الجغرافي لدعم هذه الفصائل، وتحويل الشمال السوري إلى نقطة انطلاق لمشروعها التوسعي تحت ذريعة “حماية أمنها القومي”. أما الولايات المتحدة، فقد وفرت غطاء سياسياً ودبلوماسياً لهذه التحركات، مع التركيز على تقويض الدولة السورية كجزء من استراتيجيتها لإضعاف النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة.
في هذا السياق، تلعب “دولة” الكيان الصهيوني دوراً محورياً في استغلال هذه الفوضى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. الغارات الجوية الصهيونية المتكررة على مواقع سورية، بما فيها مواقع عسكرية ومراكز أبحاث يُزعم أنها تحتوي على أسلحة استراتيجية، تهدف إلى تدمير البنية الدفاعية السورية، وتعطيل أي جهود لإعادة توحيد البلاد.
احتلال مناطق واسعة من جبل الشيخ يأتي في إطار مساعي “دولة” الكيان الصهيوني لفرض واقع جديد يعزز نفوذها في الجولان السوري المحتل.
هذا الاحتلال لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يحمل أبعاداً سياسية تهدف إلى إلغاء أي احتمال لعودة هذه المناطق إلى السيادة السورية في المستقبل، وهو ما يُعدّ جزءاً من خطة الكيان الصهيوني طويلة الأمد لضم الجولان بشكل كامل.
التحالف بين أميركا وتركيا والكيان الصهيوني يتسم ببراغماتية عالية، إذ تستغل كل من هذه القوى الأخرى لتحقيق أهدافها الخاصة. الولايات المتحدة تستفيد من التمدد التركي والصهيوني لتقويض النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، بينما تسعى تركيا لتحقيق طموحاتها التوسعية في الشمال السوري عبر دعم الجماعات المسلحة. أما الكيان الصهيوني، فيستغل حالة الفوضى لتأمين حدوده الشمالية وإضعاف سوريا كقوة إقليمية قادرة على مقاومة مشاريعه.
هذا التحالف الثلاثي ليس مجرد تقاطع مصالح، بل هو جزء من مشروع متكامل يهدف إلى تقسيم سوريا إلى كيانات صغيرة ومتناحرة، بما يخدم المصالح الاستراتيجية لكل طرف. المشروع لا يستهدف فقط تفكيك الدولة السورية، بل يمتد إلى إعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يضمن تعزيز الهيمنة الأميركية والصهيونية، وتوسيع النفوذ التركي على حساب استقرار الدول العربية.
الغارات الإسرائيلية والاحتلال
الغارات الجوية الصهيونية، التي تدّعي استهداف مواقع استراتيجية، ليست إلا غطاءً لسياسة تهدف إلى تفكيك القدرات العسكرية السورية. هذه الغارات تُضعف الجيش السوري بشكل مستمر وتعيق أي محاولات لإعادة بناء قوة دفاعية متماسكة.
في الوقت نفسه، احتلال الكيان الصهيوني لمناطق من جبل الشيخ يهدف إلى إنشاء منطقة عازلة جديدة، تمنحه ميزة استراتيجية في مواجهة أي تهديدات محتملة، وتؤمن سيطرته على مصادر المياه والمرتفعات الاستراتيجية التي تُعدّ ذات أهمية كبيرة في أي صراع مستقبلي.
الكيان الصهيوني والنظام الفيدرالي: خطوة نحو التقسيم
دعم الكيان الصهيوني فكرة النظام الفيدرالي في سوريا ليس مجرد موقف عابر، بل هو جزء من استراتيجيته الإقليمية طويلة الأمد. هذه الاستراتيجية تقوم على تفكيك الدول المركزية الكبرى في المنطقة وتحويلها إلى كيانات أصغر تتصارع فيما بينها. تحت ذريعة “حماية حقوق الأقليات”، يحاول الكيان الصهيوني الترويج لفكرة الفيدرالية كحل مستدام، لكنها في الواقع تُسهم في تعميق الانقسامات العرقية والطائفية داخل سوريا.
النظام الفيدرالي الذي تدعمه “دولة” الكيان الصهيوني في سوريا يركز على بناء كيانات منفصلة للأقليات مثل الكرد والدروز، مع إبقاء هذه الكيانات في حالة اعتماد دائم على دعم خارجي، سواء كان سياسياً أو عسكرياً. هذا النموذج يهدف إلى تفكيك الدولة السورية بشكل كامل، ما يجعلها غير قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية أو استعادة سيادتها.
الكيان الصهيوني يرى في الفيدرالية وسيلة لتأمين حدوده الشمالية وإضعاف محور المقاومة الممتد من إيران مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان. كما أن تقسيم سوريا إلى كيانات منفصلة يُضعف الروابط التي تجمع مكوّنات هذا المحور، ويجعل التنسيق بين أعضائه أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، فإن دعم الكيان الصهيوني فكرة النظام الفيدرالي يتماشى مع مخطط “الشرق الأوسط الجديد”، الذي يهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى. هذا المخطط يضعف الدول العربية الكبرى ويحوّلها إلى فسيفساء من الكيانات الصغيرة المتصارعة، ما يُبقي الكيان الصهيوني القوة الأكثر استقراراً وقوة في المنطقة.
من الفوضى إلى التقسيم: سقوط النظام السياسي السوري
السقوط الفعلي للنظام السياسي السوري يُعدّ أحد أبرز تجليات المخطط الدولي لإعادة تشكيل المنطقة. مع فقدان النظام السيطرة على معظم الجغرافيا السورية لصالح الجماعات المسلحة المدعومة خارجياً، أصبحت سوريا ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية.
هذا السقوط ليس فقط نتيجة لتراكم الأزمات الداخلية والصراعات المسلحة، بل هو أيضاً نتاج استراتيجية ممنهجة قادتها القوى الكبرى لإضعاف سوريا وتفكيكها. الدعم الأميركي والتركي للجماعات المسلحة، إلى جانب التدخل الصهيوني المباشر من خلال الغارات الجوية واحتلال مناطق استراتيجية مثل جبل الشيخ، يعكس تصميم هذه القوى على تنفيذ مخطط التقسيم.
الاحتلال الصهيوني لأجزاء من الجولان يمثل ذروة هذا السقوط، إذ يسعى الكيان الصهيوني إلى استغلال الفوضى لتحقيق مكاسب جيوسياسية طويلة الأمد. هذه المكاسب تشمل تأمين الحدود الشمالية، والسيطرة على موارد المياه في الجولان، وفرض أمر واقع يجعل من استعادة هذه الأراضي أمراً مستبعداً في المستقبل.
في ظل هذه المعطيات، أصبح مخطط الشرق الأوسط الجديد، الذي يهدف إلى تقسيم الدول الكبرى وإعادة رسم حدودها، واقعاً على الأرض. تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة، ودعم القوى الخارجية لهذه الجماعات، إلى جانب الاحتلال الصهيوني، يُظهر أن الهدف النهائي ليس فقط إضعاف النظام السياسي، بل تدمير البنية الوطنية لسوريا كدولة مركزية.
إن السقوط السياسي السوري يترك البلاد عرضة لتدخلات مستمرة، ويُحكم عليها بالبقاء في حالة من الصراع الداخلي الدائم، وهو ما يخدم القوى الإقليمية والدولية التي تسعى لتحقيق مصالحها على حساب وحدة سوريا واستقرارها.
الأثر الإقليمي: تهديد استقرار المنطقة بأكملها
ما يحدث في سوريا ليس مجرد صراع داخلي، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تستهدف تفكيك الدول العربية الكبرى وإضعافها. التصريحات الصهيونية والتحركات الميدانية تُظهر بوضوح أن الهدف النهائي هو خلق بيئة منقسمة وغير مستقرة تخدم مصالح القوى الخارجية، وعلى رأسها الكيان الصهيوني.
وحدة سوريا كمعركة وجودية وإقليمية
إن ما تشهده سوريا اليوم ليس مجرد اختبار لإرادة شعبها، بل هو معركة وجودية تمسّ صلب القضية العربية، وتضع الشعوب العربية أمام تحدٍ تاريخي: إما مواجهة مشاريع التقسيم التي تستهدف تفتيت أوطانها وإضعافها، أو الاستسلام لواقع مفروض يُعيد تشكيل المنطقة وفق مصالح القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
سوريا اليوم ليست مجرد ساحة صراع، بل هي ميدان لمعركة مصيرية بين مشروع التفكيك والتقسيم الذي تتزعمه القوى الدولية والإقليمية، وبين إرادة الشعوب العربية في الحفاظ على هويتها ووحدتها. إن الحفاظ على سوريا موحدة ومستقرة لا يقتصر على كونه واجباً وطنياً، بل يتعدى ذلك ليصبح ضرورة استراتيجية لاستقرار المنطقة بأسرها. فدمشق ليست مجرد عاصمة، بل هي رمز من رموز العروبة وموقع استراتيجي يمثل قلب الشرق الأوسط.
إن التصدي لهذه التحديات يستوجب عملاً مشتركاً يعلو فوق الحسابات الضيقة والمصالح الآنية. إنه نداء لإحياء روح التضامن العربي، واستعادة المبادرة من خلال دعم محور المقاومة، وتقوية الصفوف لمواجهة الأجندات الخارجية التي تسعى لفرض واقع جديد يخدم مصالح الكيان الصهيوني وحلفائه.
الوحدة ليست خياراً تكتيكياً، بل هي ضرورة وجودية. فسوريا الموحدة هي صمام الأمان ضد مخططات التفتيت، وحجر الزاوية لاستعادة التوازن في المنطقة. الرد على هذه التحديات لن يكون إلا بإصرار الشعوب وقواها الحية على رفض الهيمنة، والعمل على كشف الحقائق وإبطال المخططات التي تهدد مستقبل الأجيال القادمة.
إن معركة سوريا ليست معركة شعبها وحده، بل هي معركة كل عربي يؤمن بأن الأوطان لا تُجزأ، وأن مصير الأمة لا يمكن أن يُرهن بمصالح القوى الخارجية. النصر في هذه المعركة يبدأ من وحدة الموقف، ويتحقق بالثبات والصمود في وجه الرياح العاتية التي تسعى لاقتلاع جذورنا وتقسيم أراضينا.
أخبار سورية الوطن١_الميادين