الرئيسية » ثقافة وفن » الخيمة الكبيرة: عن الليبرالية وخصومها

الخيمة الكبيرة: عن الليبرالية وخصومها

 

عامر محسن

 

 

كانت فكرةٌ تدور في رأسي وأنا استمع إلى خطبٍ يُلقيها ممثلون من حول العالم في مؤتمرٍ في الصّين، وهي ذكرتني بحالٍ شبيهةٍ في بلادنا. حسنٌ، سأشرح: لقد ذهبت إلى الصّين. هذا مع أنّني في العادة لا أقبل دعوات، ولا أمارس سياحة الوفود، وقد طلّقت فكرة المؤتمرات (وعلى رأسها تلك الأكاديمية) منذ سنوات. ولكنّني ذهبت هذه المرّة، من جهةٍ لأنّها الصّين، ومن جهةٍ لأنّهم أخذوني إلى أماكن كان من المستحيل أن أزورها في ألف سنة لو تُرك الأمر لمبادرتي الفرديّة. مناطق مثل كشغار وتاتشنغ (ابحثوا عنها على الخريطة). فكان – باختصار – أن جُلت الصّين من أقصى غربها إلى أقصى الشرق، ولبثت في خيم الكازاخ، وشاركت في نشاطات أممية، وشاهدت الباندا. ومن المفترض أن أكتب لكم عن ذلك حين تحين الفرصة، ولكن موضوعنا اليوم مختلف.

المسألة هي أنّ الغربيّين، حين يلتقون في مؤتمراتٍ وأحلاف، فهم يتكلّمون تحت سقف عقيدة أيديولوجية واحدة، هي الليبرالية، ديموقراطية وسوق و«عالم حرّ»، وما الى ذلك. ليبراليتهم قد تكون نفاقيّة، انتقائية، خطاب قوّةٍ بقناع، حجّة للهيمنة الغربيّة، سمّها ما شئت. الفكرة ليست هنا بل في أنّ الليبرالية تقدّم مرجعيّةً موحدة وخطاباً متّسقاً، مهيمناً، كونيّاً، له تراثُ وتاريخ وقد انتصر وراج وتشرّبه الكثيرون، حتّى لم يعودوا يرون الليبرالية أصلاً على أنّها «أيديولوجيا» (هي إمّا «حقيقة» أو، عند المثقّفين، الأيديولوجيا «الأخيرة» و«الحتميّة»، تمثّل منتهى الفكر السياسي الإنساني وخاتمته). والخيمة الليبرالية «كبيرة» بمعنى أنّها تضمّ تحتها تيّاراتٍ واتجاهات مختلفة، تناسب كلّ فئةٍ تنضوي في لوائها: يسار ويمين ووسط، وتقليديون وبعد حداثيون وماركسيون، إلخ. حتّى إنّ الحركات السياسية التي لا علاقة لها بالليبرالية عقيدةً وسلوكاً، حين تتحالف مع قوى غربيّة، تبدأ بالتماهي مع الليبرالية الدولية كأنها هويّة (على طريقة بعض أنظمة الخليج وحركات اليمين التي تعمل تحت مظلّة «الناتو» في شرق أوروبا. حتّى إن قوى 14 آذار اللبنانية وتيار «المستقبل» كانوا، إلى سنواتٍ قليلة على حدّ علمي، يشاركون في المؤتمرات الدولية للأحزاب الليبرالية – باعتبار أنّهم ورثة لوك ومونتسكيو في بلادنا).

كما يقول صديقنا فولوديمير ايششنكو، إنّ هناك في العالم اليوم تيّارات كثيرة – ومتزايدة – تعادي الليبراليّة، ولكن لا يوجد لها بدائل متكاملة و«متطوّرة»، كما كان الحال في القرن العشرين مع الفاشية والشيوعية. في المؤتمرات «البديلة» التي تسعى إلى «التعددية القطبية» لا يسعك أن لا تلاحظ الفارق: سوف تستمع إلى أناسٍ من دولٍ مختلفة، آسيا وأميركا الجنوبية وأفريقيا، وما تحصل عليه هو خليطٌ ملوّن من العقائد و الأيديولوجيا والأفكار. هذا يتكلّم بلسان عالم ثالثيّ، ذاك خطابه مطعّمٌ بالماركسية، وهناك في الزاوية اليوغوسلافي الغريب الأفكار، إلخ. هنا خيمةٌ كبيرة من نوعٍ آخر، تضمّ تحتها سفينة نوح، ومن الطبيعي حين تشاهدهم أن تسأل: ما الذي يجمع بين كلّ هؤلاء النّاس باستثناء عدائهم للهيمنة الليبرالية في العالم؟ على الهامش، هناك بالطبع مختلف الوجوه الطريفة التي تتوقعها في مثل هذه النشاطات: الذين أتوا من أجل السفرة، الذين أتوا من أجل التسوّق (وغالبيتنا، بصراحة، كانت من العالم الثالث)، إلخ. في استراحة بين الجلسات، جاء مشاركٌ «محترف» إلى صديقٍ صحافي ليُخبره، بوجهٍ جادٍ ومتفكّر، أنّه من الواضح أن الصّين قد «تراجعت» ولم تعد بهيبتها السابقة. سأله الزميل عن السبب فأجاب: في الماضي، مؤتمرٌ بهذا الحجم ما كان ليمرّ من دون pocket money (طلب الزميل الذي نقل لي الحوار أن لا أفصح عن اسمه، وأنا أؤكد لكم أنّه ليس الصديق حسين جرادي، نائب رئيس تحرير صحيفة «النهار»).

 

 

حليف الضرورة

المثير في الموضوع أنّ الصينيين أنفسهم لديهم تقليدٌ قديم في التحذير من الخلاسية الأيديولوجية. في كتابه عن عمل الدولة والإدارة في الصين، يقول شياوهوان لان، إنّ البيروقراطية الصينية، منذ ألفَي سنة، قد حافظت دوماً على ثلاث قواعد جوهريّة، بغض النظر عن العصر والحقبة. أوّل هذه القوانين هو أن يكون موظّفو الإدارة والجهاز التنفيذي كلّهم مدرّبين في مدرسة أيديولوجية واحدة. لا يهمّ أن تكون كونفوشيوسية أو مادية – جدليّة، المهمّ هو أن لا تتجاور في مركز القرار والتنفيذ رؤىً متنافرة بشكلٍ جذري في النظرة إلى العالم والأهداف والأولويات (القانونان الآخران، لمن له فضول، هي أن لا يتمّ تعيين موظّف إلا من قبل رئيسه المباشر، وأن لا تترك حاكماً إقليمياً في موقعه لمدةٍ طويلة). بالمناسبة، أوحى ناشرو كتاب لان، «كيف تعمل الصّين»، أنّه يشرح مفاهيم معقّدة في الإدارة والاقتصاد في الصين بشكلٍ سهلٍ نسبياً، وأنه نال رواجاً وصيتاً هائلين في الصين، ومن هنا تُرجم إلى الإنكليزية. كان هذا ما شجعني حتى أشتريه، وحين كنت في الصين وسألتهم عن الكتاب تبيّن أن لا أحد هناك قد سمع به (حسنٌ لم اشتره، استحصلت عليه، ولكن المسألة هي في المبدأ).

حين تبني خيمةً كبيرة بلا شروط انتساب، فالمشكلة لا تقتصر على أنّك لا تعرف إلى أيّ مدىً سيظلّ هؤلاء إلى جانبك وفي تفاهمٍ معك، بل أنت أيضاً سوف تستدخل إلى معسكرك مختلف أشكال التأثيرات والأفكار والأجندات، وبعضها قد يكون من النوع الذي لا تريد استيراده إن كنت تعرف مصلحتك. هذه، بالطبع، يمكن تفسيرها كعوارض لطبيعة الأحلاف التي تتشكل ضدّ أميركا: أنت ستكون حليف «الملجأ الأخير»، لا ينضمّ إليك إلا من نبذته الإمبراطورية أو حاربته، وأنت لا تملك تقديم مغرياتٍ (وعقوبات) تشبه ما في يد الأميركيين، وأنت بالتالي لا تملك القدرة على فرض الكثير على حلفائك، سواء من ناحية السلوك أو الفكر. من هنا، وأنا أجول بين الوفود والألوان في تشنغدو، وجدت نفسي أفكّر بعناصر الشبه مع الحلف الواسع الذي تشكّل في العقود الماضية في إقليمنا تحت شعار المقاومة.

 

يشتكي منظّرون اليوم من أنّ الليبرالية في طورها الأخير أصبحت تستخدم أدواتها ذاتها (مثل الانتخابات ومفاهيم السيادة الشعبية) كسلاحٍ في حروبها حول العالم، وهو ما قد يفرّغ هذه المفاهيم من معناها، إذ تصبح مجرّد أدواتٍ يستخدمها المهيمن، بكلبيّة، في مناوراته، ويعيد تعريفها بحسب المصلحة

 

 

في الحالة الصينيّة، فإنّ أيديولوجيا البلد ليست تبشيريّة ولا تقدّم نفسها كأطروحةٍ كونيّة، تدعو الآخرين إلى اعتناقها. نحن لم نعد في أيّام ماو تسي تونغ. الاشتراكية بوجهٍ صينيّ، الماركسية الصينية، بغض النظر عن التسمية، يقدّمها المسؤولون هناك باعتبارها حلّاً خاصّاً بالحالة الصينيّة، وأنّ كل حالة تختلف، وهم يقبلون بهذا المعنى أيّ إطارٍ أيديولوجي يختاره الحليف لنفسه. هذه من المفارقات في عالم اليوم، إذ تبدو الليبرالية الدولية «تأديبية»، تبشيريّة باندفاعٍ وعدائيّة، وتطلب انضباطاً وامتثالاً من أعضائها، فيما الحلف «الآخر»، «المعادي لليبرالية»، هو على طريقة «دع ألف زهرةٍ تتفتّح».

بالمقابل، فإنّ لدى الصينيين نظريّة في التعاون ونظريّة ديبلوماسيّة. هم، بدلاً من الأيديولوجيا، يقترحون تصدير خبرتهم باعتبارهم بلداً نامياً أصبح بمثابة نموذجٍ في النجاح الاقتصادي ورفع مستوى حياة الناس، والتقنيات، وأساليب الإدارة، والمشاريع والمساعدات. أمّا على الجبهة الديبلوماسيّة، فهم يحملون خطاباً «ويستفالياً» عن سيادة الدول وحريتها في اتخاذ قرارها وعدم التدخّل والتعاون الطوعي، واحترام القانون الدولي والأمم المتّحدة. هذا شرحته في مقالٍ سابق، عن أن دولاً مثل روسيا والصين من مصلحتها الدفاع عن النظام التقليدي، الويستفالي، في العلاقات الدولية (الذي ساد في القرن العشرين)، بينما أميركا تحاول منذ بداية التسعينيات تقويضه (ما معنى أن تكون إمبراطورية إن لم تتمكّن من غزو بلدٍ متى تشاء؟). المسألة هي أن هذه الأمور كلّها مهمّة ومفيدة، ولكن لا علاقة لها بالأيديولوجيا.

 

 

ما بعد الهيمنة

الواضح، أنّ الليبرالية بشكلها التاريخي الحالي، حتّى وهي منتصرة وسائدة، تواجه تحدياتٍ من أكثر من جبهة. لديك بالطبع تلك الحركات «اللاليبرالية» التي تنبت هنا وهناك، حتى لم تعد مجرّد استثناءٍ أو استثنائَين، بل حالات متزايدة تمتدّ من هنغاريا إلى رومانيا إلى مركز الهيمنة الليبرالية نفسها، أميركا. انفراط «التوافق الوسطي» في الكثير من دول الغرب سوف يعزّز من هذه الاحتمالات. هي، كما أسلفنا، حركاتٍ متنافرة ومختلفة الطابع، بعضها ديني محلّوي تقليدي، بعضها شعبوي قومي، بعضها اثني «أصولي» معادٍ للأجانب، ولكن يجمعها العداء للثقافة السائدة ضمن المؤسسة الليبرالية الحاكمة في المركز.

ولكنّ الخطر الأكبر على الليبرالية، كما حذّر الكثير من المنظّرين، قد يكون من داخلها ومن ظهرانيها. لا نعني فقط ارتباط الفكرة الليبرالية في خطاب خصومها بثقافة الـ«ووك» و«انحلال» الأخلاق والدّول، وردّ الفعل الشعبوي على كلّ ذلك. يشتكي منظّرون اليوم من أنّ الليبرالية في طورها الأخير أصبحت تستخدم أدواتها ذاتها (مثل الانتخابات ومفاهيم السيادة الشعبية) كسلاحٍ في حروبها حول العالم، وهو ما قد يفرّغ هذه المفاهيم من معناها، إذ تصبح مجرّد أدواتٍ يستخدمها المهيمن، بكلبيّة، في مناوراته، ويعيد تعريفها بحسب المصلحة. الأمثلة تتكاثر حيث يقوم الغرب بدعم الانتخابات «فقط حين تناسبه»، ويغضّ الطرف عن الانقلاب إن كان مناسباً، ويشكّك في انتخاباتٍ صحيحة ويُصادق على انتخاباتٍ حولها شكوك. يعارضون الحكومة المنتخبة في جورجيا ولكنهم يشرّعون انقلاب «ميدان» في أوكرانيا، يشكّكون في نتائج انتخابات رومانيا ولكنهم يتبنّونها – رغم كل الاعتراضات والشبهات – في مولدوفا.

الطّريف هو أنّنا في بلادنا لا نحتاج إلى مَن يخبرنا مثل هذه الأمور، فنحن «حقل الاختبارات» الأكبر للهيمنة الدوليّة، وقد رأينا كلّ شيء، وشاهدنا وجوهاً للمنظومة «الليبرالية» تُراوح بين أبراج دبي والميليشيات السلفيّة. المشكلة في الغرب تبدأ حين يواجه الغربيّ الأبيض مثل هذه التقنيات في أرضه، ويجدها تمارس عليه، والصليب المعقوف يعود إلى شرق أوروبا بحمايةٍ «ديموقراطية». والخطاب الأكثر حربيّة وشراسةً وصفريّة في الغرب تسمعه على لسان مسؤولي دولٍ مثل فنلندا وألمانيا، وليس أميركا.

 

عن معنى الأيديولوجيا

في الحرب الماضية، وبعد أسابيع من القصف المكثّف حيث يصبح من الصّعب أن تقرأ بجديّة و تفكّر بأمور أخرى غير الحرب. لذلك قرّرت، في محاولة للترويح عن النفس وخفض التوتّر، أن ألجأ إلى روايةٍ خفيفة، قصّة فانتازية تافهة ولكنها مسليّة، تأخذك لساعاتٍ بعيداً من المعركة والمجزرة. المسألة هي أنّني، حين فتحت الكتاب حيث كنت قد تركته، وجدت أن القصّة قد وصلت إلى ذروتها، والشخصيات كلّها قد اجتمعت في مدينةٍ محاصرة، والعدوّ يقتحم الأسوار، والنيران تشتعل من حولهم، ولا أحد يعرف ما العمل. لم يؤدّ التمرين الغرض المرجو منه، ولكنني حصلت منه على اقتباسات مثل ذلك الذي في أعلى المقال.

الحرب كانت تجري في مكانٍ آخر، وكان من المستحيل أن أتخيّل ما كان يحصل على الجبهات في تلك الأثناء. إن أردت أن تعرف معنى «الأيديولوجيا»، فانظر إلى ما تحقّقه في لحظة الضرورة. الموضوع أصبح معروفاً ولا ضير من الكلام عنه: «الضربة الأولى» التي تعرضت لها المقاومة في لبنان لم تكن عاديّة. لا يبالغون حين يقولون إنها من النوع الذي تنهار له الجيوش. هي حالةٌ تتوقّع أن ينسحب فيها الجنود، أو يسلّمون، في غالبية الجيوش. الجنود تقليدياً لا يحبّون الموت بسبب أخطاء الجنرالات. «كانت لديّ خطّة فلم تعد فاعلة، كانت لدي مراكز فتمّ ضربها، وعليك الآن أن ترتجل في اللحظة وتقاتل وأنت مكشوف». من يصمد في ظلّ مثل هذه الظروف المستحيلة؟ هذا تحديداً هو ما حصل في الجنوب، وحين يوصف الحدث بأنّه صمودٌ «أسطوري»، فهو أسطوريّ لأنّه كان صموداً عبر التضحية، صموداً بكلفةٍ هائلة، من النوع الذي لا يقدر عليه الناس العاديّون.

كما وصف صديقٌ المشهد، فإنّ كلّ من قاتل على الخطوط الأمامية كان استشهادياً. كلّ من صمد في قرية، كلّ من حضّر راجمة، كلّ من أطلق «كورنيت»، وكلّ من جاء لاستبدالهم حين استشهدوا. إن كان لهذه الحرب من عنوانٍ فهو يجب أن يكون هؤلاء الشهداء، لا لأنّهم شهداء واستشهاديون فقط، بل لأنّنا ندين لهم بما تبقّى: هم كانوا من منع الانهيار والهزيمة، هم من أنقذ ماء الوجه، وقد تركوا الدنيا عن وعيٍ ليتركوا لنا إمكانيّةً في مستقبل. هذا كلّه غير ممكنٍ من دون «أيديولوجيا»، والضّعيف هو أكثر من يحتاجها. و«خصومتنا» مع الليبرالية هي من نوعٍ خاصّ، من الأكثر عنفاً وبشاعة، وسوف تمتدّ لليالٍ قادمةٍ طويلة.

 

 

 

 

 

أخبار سورية الوطن١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

اكتشاف كنز من التسجيلات غير المنشورة لمايكل جاكسون

عثر ضابط سابق في شرطة كاليفورنيا على كنز من التسجيلات غير المطروحة في الأسواق لمايكل جاكسون، في وحدة تخزين في وادي سان فرناندو. ومن بين ...