-1-
الحرية (أو الإباحة في اللغة الدينية) هي الأصل. ثم جاءت القَوْنَنَة (أو التحليل والتحريم في اللغة إياها). ولئن درسنا مدار التحريم ثقافياً، أي المدار الأكثر تعطيلاً لفاعلية التطور والتقدم، فسوف نرى أنه يُعنى في المجتمع الإسلامي – العربي بمنع أو تعطيل الاندفاعات والصبوات الكيانية – أي بكل ما يتصل بالوجد، والولع، والشغف، والشهوة، والرغبة، وكل ما يُحرّك، ويكشف، ويستبصر، ويستقصي، ويستشرف، وبكل ما يفتن، ويُهيم.
القمع (التحريم) لا يقتل أو لا يشلُّ العقل وحده، إنّه يقتل كذلك النفس، ويشلّها. من جهة، يُجمد الحياة في قوالب. ومن جهة أخرى، يحول دون العمل على تحطيم هذه القوالب، لكي يُمكن تجاوز المستقر الثابت، إلى الحركية وافتتاح آفاق جديدة للعمل والفكر وللحياة نفسها. وهو في ذلك، يُقيّدُ الاندفاع الإنساني الكياني. وتبعاً لذلك، يُهيمن التقليد والتكرار والاجترار، ويغيب العمل الخلّاق المغيّر، والفكر الخلّاق المُغيّر، والفن الخلاقُ المُغير. و«تموت» الحياة.
وفي هذا كله ما يُولّد انهياراً داخلياً في الكينونة ذاتها. وهو ما يُتيح القول خلافاً لنيتشه: ليس الله هو «الميت» في المجتمع الإسلامي – العربي، وإنّما الإنسان نفسه هو الميت، أو هو نفسه الذي يحيا في حالة متواصلة من الموت. وهذا يذكّرنا بحال الفرد في مجتمع ما بعد الحضارة الأوديبية: يرى مصطفى صفوان أنّ عقدة أوديب تُشكّل العمود الفقري لتنشئة الإنسان في المجتمعات الغربية. وقد أدّى الخروج من الأوديب إلى زعزعة صلات القرابة، وخلخلة سلّم القيم والمثل العليا، إذ تحول ربّ العائلة إلى متبرّع بالمني، وطفل الأنابيب إلى ماهية مستقلة في المجتمع الليبرالي تخضع لمبدأ السوق الذي حوّل الاقتصاد من اقتصاد الادخار إلى اقتصاد الاستهلاك، وبالتالي حوّل الأفراد إلى مستهلكين.
ولا جواب في الإسلام، فيما إذا حاول الإنسان أن يطرح أسئلة حول هذه القضايا، إلّا في الوحي، فهو المعرفة كلها ما كان وما يكون. والوحي الإسلامي يجبُّ ما قبله. وهو، تبعاً لذلك، يجبّ ما بعده. الكون خلق «في أحسن تقويم» ومعرفته بالوحي، كاملة، شاملة، ونهائية.
تصبح المسألة نوعاً من استئصال إنسانية الإنسان عندما يُصاغ هذا التحريم في قانون، يختلف، كما يوضح صفوان عن القانون الأخلاقي القائم عند «كانط» على العقل الخالص، وعن القانون الذي يُشكل الوجه الآخر للمتعة عند «جاك لاكان» الذي لا يرى أي تناقض بينهما ما دام يضمن متعة كل فرد بربطها بمتعة الآخر وبشرطها ذاته: لا يُشبَعُ أحد دون إشباع الآخر.
-2-
خضوع الإنسان لهذا القانون، قانون التحريم، إنما هو خضوع لثقافة «التجريم»، ثقافة السلطة وسياساتها، أي لما يُعرقل تفتُّح الإنسان باستمرار، وتقدم المجتمع على نَحْو مُتواصل. إنه خضوع، عيش في نوع من «العبودية المختارة»، وفقاً للعبارة الفرنسية المشهورة التي ابتكرها دو لا بويسي. وهو خضوعٌ يُجرّد الإنسان من الخاصية التي تميزه بين سائر الكائنات، ويُساوي بينه وبين أشياء الطبيعة. وهذا ما نرى له ترجمة حيّةً في الواقع العملي والثقافي.
إذا قرأنا، في هذا الضوء، الكلام العربي الراهن، فسوف نرى أنّ من حق كلّ عربي أن يتساءل: أليس هذا الكلام السائد رقابة أخرى، ونوعاً آخر من الامتناع عن الكلام، أو نوعاً آخر من الصمت؟ وسوف نرى أن العرب يتكلمون اليوم، لكيلا يقولوا شيئاً. أو كان كلامهم هو نفسه الرقيب الذي «يُحرّم» عليهم الكلام. سوف نتذكّر، على نحو خاص ما يقوله فرويد: «لا يولد الإنسان ولادةً كاملة». وهذا يعني أن الإنسان ولادة دائمة.
اللحظة التاريخية التي يعيشها البشر بعامّة، والمسلمون العرب، بخاصّة، جديرة بأن تغرينا جميعاً لكي نتخذ من هذه العبارة الفرويدية مرآة لا نرى فيها وجوهنا، وحدها، وإنما نرى كذلك، أعمالنا وأفكارنا وما كنا، وماذا نريد أن نكون. هكذا يستجيب كل منّا في ميدانه، وبطريقته الخاصة، للعبارة القديمة المشهورة: «اعرف نفسك». وهي عبارة يتهرّب منها الجميع بطريقة أو بأخرى. يتهرب على الأخصّ المسلم العربي لأنه يؤمن، على نحو قاطع، أن الله هو وحده، الذي يعلَم – ويُعلّم – استجابة وتعميماً لما تقوله الآية: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» (سورة الإسراء،85). استناداً إلى ذلك، يُمكن القول إن كُلّاً من المسلمين العرب يعتقد أنه وُلد كاملاً بالإسلام، وأن الزمن ليس إلّا فرصة له لتحقيق هذا الكمال، عملياً، في مجالات الحياة اليومية، والحياة الثقافية والحياة السياسية، بشكل خاص.
-3-
أصِلُ إلى أن أعيد التوكيد على ما كنت أكدته مراراً بطرق أخرى – التوكيد على أن الأزمة الثقافية – الإنسانية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية – العربية، هي في جذورها، دينية – رغم مظاهر الراحة واليقين: تكاثر المساجد وتزايد أعداد المصلين، وتزاحم المجاهدين، إضافة إلى تضخم أعداد الذين يؤدون فريضة الحج والصوم، وبقية الفرائض.
فهذه المظاهر هي مُجرّد آلات وأدوات أيديولوجية. وتتمثل هذه الأزمة، جوهرياً، في دولنة الدين، في تسييسه، وفي تحويله إلى مؤسسات ووظائف. هكذا فقد حيويته، وانكمشت رؤيته وتحجر في قوالب الأمر ولم يعد بحثاً وتساؤلاً. لم يعد محبة وانفتاحاً وتسامحاً وعدالة ومساواة، وإنما أصبح مسرحاً لكل ما يُناقض هذا كله. صارت السلطة هي التي توجّهه. صار سلاحها الأول، تقوّله ما شاءت وتفعل بقوته وباسمه ما شاءت. إنه اليوم رأسمالها الأول في ترسيخ هيمنتها وطغيانها. هكذا لم يعد الدين أفقاً، وإنما أصبح نفقاً. والكارثة أنّ الظلمات تزداد، والنفق يطول. بلى، يبدو الدين، وهذا ما توضحه على نحو خاص، السنوات العشر الأخيرة التي عاشتها المجتمعات الإسلامية العربية، ولا تزال قائمة بشكل أو آخر، أقول يبدو الدّين كأنّه «جَذْرٌ عليل» لا يقاوم المَوْتَ أو لا يواصل البقاء إلا فيما يلتهم الجذور الباقية في حديقة الثقافة العربية. وهي علّة لا تجيء من الدين في ذاته، بل تجيء من البشر أنفسهم، أولئك الذين يؤولونه ويربطون عضوياً بين ثابته الإلهي ومتحوله الإنساني، بين النظر المُطلق والعمل النسبي بين الآخرة والدُّنيا، وبين الغيب والحضور، إذ تصبح الطبيعة في الممارسة تابعةً أو ظلاً لما وراء الطبيعة. هكذا يختلط الأبدي بالزائل، وتتمازج الأشياء والأزمنة، المعتقدات والأحداث، بحيث تصبح الأرض مُجرَّد كرسي للسماء، والسماء مجرد كرسي للأرض وفقاً لأهواء السياسة والسلطة. وتتعقّد المشكلة حين تدرك أنّ ما يُمأسس لا يجيء من الحقيقة، وإنما يجيء من السياسة. لا يجيء من العقل والحُريّة، وإنّما يجيء من المصالح والأهواء التي لا يُمكن إشباعها كما يُظهر التحليل النفسي. شخصياً، يغلب المَيْلُ عندي إلى القول إنّ الإنسان في المجتمعات الإسلامية العربية لا يعي ذاته، وذاته لا تعي حقيقتها. وقدرته على قول الحقيقة، أو حقيقته هو، ضحلة جداً. وهو لذلك شبه عاجز عن تحمّل مسؤولية هذا الوعي. وهذا ما يُفسّر تسليمه العِلْمَ والعمل لخالقه: كل شيء من الله. فكل علم هو علم الله وحده. وهو لا يسأل حتّى كيف وصل إليه هذا العلم؟ ولا يسأل بالأحرى عن قيمته، وعن الفرق بينه وهذا ما قلته وأكرره. وبين عِلْمٍ آخر يُنسب إلى الله أيضاً وفي الوقت نفسه مناقض له. كان الإنسان المسلم – العربي لا ذاتية له، وهذا ما قلته وأكرره.
مَن يكون إذاً؟
-4-
اللغة في الإسلام هي مكان الحقيقة. والإسلام نفسه لغة – كلام إلهي ونشير هنا إلى أن علم اللغة والتحليل النفسي، يريان أن اللغة وسيلة اتصال، وأنها قبل أن تنقل قضايا إيجابية وقضايا سلبية، تنقل طلباً وطلباً مقابلاً، كما أنها تفتح الباب على مسألة الكينونة. وإذاً الإسلام – المجتمع (السلطة) هو نفسه مكان الحقيقة.
ودلالة ذلك، نظرياً وعملياً أنّ المُسلِم كينونة لغوية، بوصفه يستمد إيمانه وحقيقته من كلام الله الذي يقول للعالم «كُن فيكون»، الكلام الذي هو مصدر الخلق، ومصدر الحقائق الأوحد. ولا وضع للمسلم المؤمن في هذا الإطار إلا أن يحيا ويعمل ويُفكّر في تبعية كاملة. والسياسة السلطة هي التي ترسم مدار الحقائق.
وهكذا نرى أن الإسلام في الممارسة ليس سؤالاً، وإنما هو جوابٌ مُطلق: الطَّاعَةُ والتَّبعية.
هكذا تنحلّ الأسطورة، ويُصبح المُحرَّمُ حَلالاً. ويُصبح أي شيء كأي شيء. ما سُمِّيَ بـ «الربيع العربي» أثر من هذا كلّه، دامغ، بليغ.
-5-
الأسطورة؟
التفتَ أورفيوس، صاعداً من الجحيم، لا لكي يتأكد من أنّ يوريديس آتية وراءه، بل لكي يتأكد، على العكس، أنّها لا تصعد وراءه. أنّها لا تتبعه: هكذا تأكد أنّها ضاعت منه إلى الأبد.
أين يصعد المسلمون، الآن؟ في أي اتّجاه، يلتفتون؟ في اتجاه ما هو أمامهم، أم في اتجاه ما هو وراءهم؟
هل يهبطون في الدنيا لكي يروا دين الآخرة، أم لكي يواصلوا حياتهم بعيداً عنه وعنها؟ هل يلتفتون وراءهم لكي يروا إسلامهم، أم يلتفتون على العكس، لكي يتأكدوا أنهم لا يرونه، وأنه ضاع منهم إلى الأبد؟
في الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب والمحلل النفسي المصري مصطفى صفوان (1921-2020)