جعفر الحسيني
قد يكتب التاريخ بأن بشار الأسد صاحب أكثر فرص ضيّعها رئيس بالعالم! ولو أنه استثمر تلك الفرص ربما ما كانت نهاية حكمه بهذه السرعة أو بهذه الطريقة.
فبعد تولي ترامب الرئاسة (20 كانون الثاني 2017) مباشرة اتصل مايكل بومبيو ـــ الذي شغل رئاسة المخابرات الأميركية للتو ـــ باللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني بسوريا وأبلغه: نريد أن نتعاون سوية.
وبُعيد ذلك، في شباط، كتب بومبيو رسالة إلى بشار الأسد، وتم تسليمها إلى مملوك، وقد انطوت على مجاملة شديدة، وطلب فيها التعاون في ملفين اثنين: مكافحة الإرهاب، والمساعدة في البحث عن اثنين من الأميركيين المختطَفين في سوريا. كان أحدهما أوستن تايس الصحافي الذي كانت الحكومة الأميركية تعتقد أنه محتجز لدى الحكومة السورية.
لقد بدا أن ترامب وبومبيو جاهزان للانفتاح على الأسد. ولم يردّ الأخير أو مملوك على الرسالة. وفجر يوم 7 نيسان 2017 استهدف الأميركيون مطار الشعيرات العسكري باستخدام 59 صاروخ كروز من طراز توماهوك. كان الهجوم تحت عنوان الرد على الهجوم الكيميائي على خان شيخون، ولكنه لم يكن بعيداً عن تداعيات عدم استجابة الأسد للعرض الأميركي.
وقبيل نهاية ولايته الأولى، وعشية الانتخابات الأميركية 2020، أرسل ترامب إلى الأسد مبعوثاً خاصاً يرافقه مسؤول في وزارة الخارجية مختص بشؤون الرهائن.
كان المبعوث الخاص هو كاش باتيل، المرشح الذي اختاره ترامب بعد الانتخابات الأخيرة هذا العام لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI). قابل الاثنان مملوك، الذي صار معاوناً للرئيس للشؤون الأمنية، وطلبا منه التعاون في البحث عن المختطَفين، وكان ترامب بأمسّ الحاجة إلى هذه الورقة في معركته الانتخابية آنذاك.
وهذه المرة أيضاً لم يستجب الأسد.
وفي عام 2016، وحين كان الرئيس التركي إردوغان على وشك أن يغيّر سياسته من النظام السوري ويتخلى عن مشروع إسقاطه، عُقد اجتماع في فيينا بين مسؤول كبير في المخابرات التركية وخالد الأحمد مستشار الأسد. كان اجتماعاً ناجحاً، تناول التعاون في مجال عودة اللاجئين واستقرار الحدود ومكافحة حزب العمال الكردستاني (PKK)، لكن الأسد رفض نتائج الاجتماع وأصرّ على عدم الانفتاح على تركيا.
وظل الأتراك بعدها وحتى قبل أسابيع قليلة من سقوطه يحاولون مع الأسد، ويوسّطون هذا البلد أو ذاك لعقد اجتماع بين رئيسي البلدين أو بين وزيري الخارجية أو حتى بين مسؤولين أقل درجة.
المثير للانتباه أن الأسد ابتعد شيئاً فشيئاً عن أصدقائه الإيرانيين وقلّص الكثير من نفوذهم
الروس بدورهم توسطوا منذ البداية بين البلدين، وألحوا على اللقاء بين إردوغان والأسد، ولكن الأخير رفض التجاوب، الأمر الذي أزعجهم وعكّر علاقتهم به. المثير للسخرية أن الأسد، الذي لم يرد سلباً أو إيجاباً على وساطات متعددة بينه وبين تركيا، ردّ بالإيجاب مساء الجمعة 6 كانون الأول، أي قبل حوالى 24 ساعة من سقوط حكمه!
وعندما عُوتب بسام الصباغ، آخر وزير خارجية لسوريا، على عدم الرد على الوساطة حتى بالرفض، أجاب: الرئيس لم يرد. وكانت الآلية المتّبعة أن الوزير يبلّغ رئيس الوزراء الذي يقوم بدوره بتبليغ الأسد. والأخير غالباً لا يرد.
يبدو أن الأسد، منذ البداية، كانت عينه على السعودية والإمارات، المختلفتين وقتها مع تركيا، والمتوجستين من خطر «الإخوان». في عام 2018، التقى خالد الأحمد، الذي مرّ ذكره قبل قليل، بالشيخ طحنون، وعادت العلاقات بين البلدين ثم مع السعودية. ولكن العلاقات مع الإمارات انتابها فيما بعد الفتور، لأن الأسد رفض الاستجابة لمسعاها إلى التفاوض مع إسرائيل سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة.
كما أن خالد الأحمد – عراب العلاقة – تم استبعاده وغادر سوريا بعد أن أحس بذلك، لأن ماهر الأسد، ومعه أخته بشرى الأسد المقيمة في الإمارات، تضايقا من دوره المتميز في هذه العلاقة.
ومن الفرص المهدورة الجديرة بالذكر، فرصة جيدة سنحت على الأقل لمرتين خلال السنوات الأخيرة، للحوار مع «الإخوان المسلمين»، وكالعادة تجاهلها الرجل. الأسوأ من هذا أن سياسياً كبيراً لعب دوراً خطيراً في إسناد نظام الأسد، بعث له رسالة تهنئة – عام 2021 – بمناسبة بداية ولايته الرابعة، فلم يردّ عليه، فاستاء الرجل كثيراً وقطع علاقته به وألغى زيارة كان يزمع القيام بها لسوريا.
المثير للانتباه أن الأسد ابتعد شيئاً فشيئاً عن أصدقائه الإيرانيين، وقلّص الكثير من نفوذهم. ولم يكن ذلك بتأثير الإمارات أو السعودية، ولا بصفقة مع الأميركيين، إنما كان ذلك في جانب منه تمظهراً لنزعة علوية عامة لا ترتاح لإيران الأصولية، وتخشى توجهاتها الدينية. وفي جانب آخر منه – وهو الجانب الأهم – أن الرجل تلبّسه الغرور ونسي دور الإيرانيين الكبير في النصر الذي حققه، مع الإشارة إلى أنه ظل محافظاً على حلفه الإستراتيجي العام معهم، خاصة أن إيران ظلت هي المصدر الأساسي لموارده النفطية، بينما كان الروس لا يقدمون له نفطاً ما لم يدفع لهم مقدماً.
عموماً إن الأسد بعد عام 2018 أدار ظهره لمساعديه، ولم يعد يسمع رأياً أو يصغي لنصيحة، ولا يلتقي بوزرائه أو كبار موظفي الدولة أو قادة الجيش أو كوادر الحزب أو الشخصيات البارزة في المجتمع أو رجال الأعمال أو السفراء الأجانب. لقد انفصل تماماً عن الواقع، وصار كسولاً خاملاً لا يرى إلا عدداً قليلاً من موظفي مكتبه وهم مجموعة من الشباب الانتهازيين القليلي الخبرة والمحدودي الثقافة.
* كاتب عراقي
أخبار سورية الوطن١_الأخبار