آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » فيلم “الموريتاني” يدين معاملة حقبة بوش للمعتقلين ويكشف الجانب الوحشي لأميركا

فيلم “الموريتاني” يدين معاملة حقبة بوش للمعتقلين ويكشف الجانب الوحشي لأميركا

علي المسعود

 في التاسع عشر من فبرايرعُرض فيلم “الموريتاني” و الذي يمثل أحدث الأعمال السينمائية التي تصور التجارب الصعبة التي يمر بها نزلاء المعتقل الموجود في القاعدة البحرية الأمريكية الواقعة في خليج غوانتانامو بكوبا، الفيلم يركز على الرحلة المروعة لـمهندس الاتصالات “محمدّو ولد صلاحي” من وطنه موريتانيا التي اعتُقِلَ فيها بعد شهرين من هجمات سبتمبر/أيلول 2001 واتُهِمَ في أراضيها بالعمل لحساب تنظيم القاعدة قبل أن ينقل إلى معتقل غوانتانامو،  وكذلك عن المدة التي قضاها في معتقل غوانتانامو بدون أي حكم لفترة وصلت لـ 14 سنة، للدرجة التي سيفقد فيها الأمل أنه سيرى الحرية مرة أخرى، إلى أن تأتي المحامية نانسي التي ستحاول تبرأته بمساعدة العقيد العسكري ستيوارت كوتش .

فيلم الموريتاني من إخراج كيفن ماكدونالد ولعب بطولته الممثل الفرنسي ذو الأصول الجزائرية “طاهر رحيم”، وأدت الممثلة “جودي فوستر” دور المحامية نانسي هولاندر، والممثل “بينيديكت كومبرباتش” في دور العقيد العسكري ستيوارت كوتش . فيلم “الموريتاني”يستندا إلى “مذكرات غوانتانامو” التي كتبها صلاحي وراء القضبان وساعدته فيه محاميته التي دافعت عنه  ونشر صلاحي مذكراته من خلف القضبان عام 2015، وتصدرت قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعا، وقد ركّز فيها على ما مرّ به من تعذيب قاس، وسنوات سجنه دون محاكمة، ليكشف الجانب الوحشي لأميركا التي تدعي الديمقراطية. بعد أن ظل يكتبها الموريتاني محمد ولد صلاحي من سجنه في غوانتانامو خلال عام 2005 في 466 صفحة، واصفًا فيها كل ما رآه وعاشه في السجن. أما السبب في تأخرتلك المذكرات 10 أعوام ، لأن كل ما  دونه محمدو صلاحي  وبموجب الرقابة الصارمة في سجن غوانتانامو، يتم التحفّظ عليه باعتباره وثائق سرية، وإرساله إلى الحكومة الأمريكية للمراجعة ليخُتَم بكلمة “سري”،  أي أنه لا يمكن إفشاء محتواه للعامة ولا حتى للحكومات والاستخبارات الأجنبية.

ولسنوات طويلة  خاض محامو صلاحي معارك مضنية للوصول إلى مذكراته، وهو ما نجحوا فيه بالفعل عام 2012، لتُنشر قبل دار النشر البريطانية “كانون جيت” بعد أن قام بتحريرها لاري سيمز، مدير برنامج حرية الكتابة لدى مركز “بِن” الأمريكي، ومؤلف كتاب “تقرير التعذيب”. وُلِد “محمدوصلاحي” عام 1970 لإحدى عشر أخٍ وأخت، ولأب كان يرعى الجمال والبقر في مدينة روصو الواقعة على الحدود مع السنغال، توفي والده حين بلغ محمدو 13 عامًا، لتتجه الأسرة بكاملها إلى العاصمة نواكشوط .

في عام 1988، حصل محمدو صلاحي على منحة للدراسة في ألمانيا، وتخرّج من قسم الهندسة بجامعة دوسبورج، ثم عاد ليتزوج ويستقر في نواكشوط  ، لم يكن اتهامه بالارهاب جزافا ولم يأتي من الفراغ ، بل إنه بايع التنظيم في التسعينيات وشارك في افغانستان مع القاعدة بمحارية حكومة نجيب الله الشيوعية حين كانت القاعدة مدعومة من حكومة الولايات المتحدة ووكالة إستخباراتها ، ولكنه على حد قوله شعر بالخديعة مع الوقت، وأكتشف دموية وعنف هذه التنظيم الارهابي، وعاد محبطاً من تلك التجربة التي لم تستمر أكثر من أربعين يوماً بسبب انتقادهِ لاسلوب القاعدة في التركيز على العنف واستخدام وسائل دموية في تصفية الآخرين.

رجع محمدو لألمانيا وعمل كمهندس كهرباء لسبع سنوات، ثم انتقل الى مونتريال في كندا ، وطوال تلك الفترة، احتفظ محمدو بتواصله مع مجموعة من أعضاء القاعدة، أحدهم كان قريبًا له وادعى العمل بالقرب من بن لادن، واثنين منهما التقاهما عام 1999 في ألمانيا، وشاركا لاحقًا في حادثة 11 سبتمبر. يقول محمدو أنه تخلى عن ولائه للقاعدة عام 1992، وقد نفى الاتهامات الموجهة له بأنه ساعد على جلب أعضاء جدد للتنظيم أثناء إقامته بألمانيا وكندا. في نهاية عام 2001 خرج محمدو من منزله في نواكشوط بسيارته متجهًا إلى مقر الشرطة الموريتانية للإجابة على بعض الأسئلة، وبعد بضعه أشهر يجد نفسه في غوانتانامو.

جرت محاولات عدة لمحاكمة محمدو صلاحي عسكريًا منذ وصوله للسجن بتهمة دعم الإرهاب ماديًا، ولكنها محاولات باءت بالفشل نظرًا لرفض الكولونيل الأمريكي ستوارت كاوتش الضلوع في أي من هذه الإجراءات المشينة، والتي رآها بأم عينه في غوانتانامو، وفي اعترافات الكثير من المسجونين التي أيقن أنهم تعرضوا للتعذيب ليتفوهوا بها. بالإضافة إلى ذلك، رفضت محكمة أمريكية الاتهامات الموهجة لمحمدو، وقالت بأن “الدلائل على تزويد محمدو للإرهابيين بالدعم المادي ضعيفة، ومشوبه بالإكراه وسوء المعاملة، ولا يمكن بناء حكم جنائي استنادًا بها”، وهو أمر تأكد بالفعل في إحدى التحقيقات التي قامت بها لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي والتي أخذت على عاتقها تعقب مساوئ منظومة التحقيق مع المساجين في غوانتانامو، لتكشف أن المعتقل” محمدو صلاحي” مُنِع من النوم، وتعرّض للأضواء الشديدة، وتم وضع رأسه تحت الماء، وإجراء تحقيقات معه وصلت لعشرين ساعة متواصلة، وتهديده بالكلاب ، واتخاذ أوضاع تقوم بها الكلاب.

بالنظر لغياب أي سند قانوني لاستمرار سجنه في معتقل غوانتانامو، طلبت محكمة أمريكية الإفراج عنه ، ولكن وزارة العدل الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما استأنفت القرار، لتجبر المحكمة على إعادة النظر في القضية . إنتشر الكتاب واشتهر في وقت قياسي، بعكس مراحل كتابته واكتشافهِ وخروجهِ للناس بهذا الشكل أخيراً. وبعدما حقق الكتاب هذا النجاح الملحوظ وترجم إلى لغات عالمية وما زال يُترجم، دخلَ أخيراً في القائمة الطويلة لجائزة “صمويل جونسون”الجائزة البريطانية الشهيرة للمؤلفات غير الروائية ، لم يقع الاختيار على لاري سيمز ليكون محرر الكتاب بشكل اعتباطي بل جاء اختيارهُ بسبب توجه لاري ونشاطهِ في مجال الحريات وتأليفهِ الكتاب المهم( تقرير التعذيب )، لم يلتق لاري سيمز “محمدو ولد صلاحي” شخصياً، كان (صلاحي) مُحباً لقراءة الكتب الأدبية ، خاصة الشعر ونظم الشعر العامي الموريتاني، وكانت له محاولاته البسيطة في كتابة الخواطر اليومية .

وربما لهذا السبب جاء طلبه بعض الأوراق وقلم ليبدأ في كتابة المذكرات كمحاولة للتخلص من الموت اليومي في سجنهِ، لم يكن الموريتاني يجيد الإنكليزية ، كان يتحدث العربية والألمانية بحكم دراستهِ في ألمانيا، لكنهُ حاول أن يطور لغتهُ بعد القبض عليه وذلك بالتواصل مع الحراس وإقامة علاقات ودية مع بعضهم داخل سجن غوانتانامو. لهذا جاءت مخطوطتهُ بلغة انكليزية تحتاج الكثير من التحرير لتستقيم لغتها في ما بعد وتكون مناسبة لنشرها في كتاب . وهذا ما فعلهُ سيمز على مدار ثمانية عشر شهراً، الوقت الذي استغرقهُ في تنقيح الكتاب والبحث عن معلومات تدعم صدق وواقعية قصة “محمدو ولد صلاحي”. وخلال هذه الفترة حاول كثيراً اللقاء شخصياً بالسجين إلا أن محاولاته كلها باءت بالفشل، وشعر ببعض الحزن والمسؤولية تجاه المؤلف نفسهُ لأن الاطلاع على مسودة التحرير ومناقشتها هي أبسط حقوقه . فيلم ” الموريتاني ” المقتبس من قبل كتّاب “يوميات غوانتانامو”، الذي نُشر في عام 2015 ، كتب السيناريو له ” إم بي ترافن “و “روري هينز ” و”سوهراب نوشيرفاني “. بينما كان صلاحي لا يزال في داخل المعتقل بالصفحات المخربشة التي تُسلم بانتظام إلى محاميته “نانسي هولاندر”. النجم الفرنسي الجزائري طاهر رحيم يلعب دور صلاحي . وتلعب جودي فوستر دور “هولاندر وشايلين وودلي شريكتها “تيري دنكان” . في حين يلعب “بنديكت كومبرباتش” دور المدعي العسكري كولونيل ستيوارت كوش ، الذي كان شديد التحمل بشأن إصدار عقوبة الإعدام ل(محمد صلاحي) حتى أدرك أن ذلك يعني الاعتماد على التعذيب وتجاهل الدستور وسيادة القانون .

يروي الفيلم تلك القصة ، والجهود التي يبذلها كل من الفريق القانوني الذي يتطلع إلى إطلاق سراحه – بقيادة محامية جودي فوستر نانسي هولاندر والمساعد القانوني تيري دنكان (شايلين وودلي) . يفتتح الفيلم في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2001 ، بعد شهرين فقط من أحداث 11 سبتمبر ، كان محمدو ولد صلاحي في حفل زفاف بهيج في خيمة على الشاطئ في موطنه موريتانيا في شرق إفريقيا . إنه موجود هناك لحضور حفل زفاف أحد أفراد أسرته ، بعد أن انتقل إلى الخارج إلى ألمانيا قبل سنوات من دراسة الهندسة في الجامعة ، لكن فرحة رؤية والدته وأبناء عمومته لم تدم طويلاً ، عندما اقتربت منه مجموعة من الرجال الذين أرسلوا لاعتقاله . عندما وصلت الشرطة المحلية وتطلب من (محمدو صلاحي) أن يأتي معهم ليتم بعدها استجوابه من قبل السلطات الأمريكية. صلاحي كان متعاون وودود ، ويظهر بعض الشجاعة وهويطمئن والدته بأنه ليس هناك ما هو خطأ ، “هل يسمحوا لي بقيادة سيارتي إذا لم أعود؟” يطمئن والدته (بالعربية). إن اللقطة المستمرة لمحمدو وهو يشاهد والدته وهي تكبر في مرآة الرؤية الخلفية لسيارته  كما لو كان يشعر بأنه لن يراها ، هي فعلاً مؤثرة وعاطفية تمامًا ، بعد اعتقاله في موريتانيا نُقل محمدو إلى خليج غوانتانامو بحجة أنه مجند بارز في تنظيم القاعدة و مسؤول عن جلب الرجال الذين اختطفوا الطائرات في 11 سبتمبر –  وهو برئ من هذه التهمة ، مما يعني كانت الولايات المتحدة تحتجزه بدون دليل ولا تهم .

بعد ثلاث سنوات ، في عام 2004 ، تم تعيين المحامية نانسي هولاندر (جودي فوستر) وشريكتها تيري دنكان (شايلين وودلي) في قضية محمدو صلاحي . في البداية يبلغها حارس السجن بأنه “من الأفضل ارتداء الحجاب أثناء الزيارة، ويعلمها “لدينا حوادث بصق سجناء على المحاميات”، ومن بعدها تظهر حارسة السجن الأخرى وهي تحذرهم، قائلة “في حالة اندفاع المعتقل نحوك، عليك دفعه بعيدا عن الطاولة، وسنصل إليكم بأسرع ما يمكن “، وبدت أجواء التوتر والترقب والخوف قبل الدخول لمقابلة صلاحي، ولكن ما إن دخلتا إليه وقدمتا نفسيهما له ورغبتهما في مساعدته ، حتى ظهر وجه صلاحي الحقيقي حين قدم يدية لمصافحتهما، إنه مجرد شاب وليس مجرما، كتب لهما رقم هاتف على ورقة وأعطاها لهما ، وقال “اتصلوا بهذا الرقم وتحدثوا إلى والدتي، وأخبروها أي شيء لطيف عني”، وتظهر بعدها ابتسامة نانسي بعد أن اطمأنت وزال خوفها منه .

ويظهر تطور علاقة نانسي ومساعدتها مع صلاحي لكن في نفس الوقت مهمتهم كانت صعبة بعد أم وجدوا أعتراف صريح ل( محمدو صلاحي ) رغم انه كان تحت التعذيب و التهديد بأعتقال والدته وأغتصابها أمامه ، وتزداد مهمتهما صعوبة كلما تعمقت في القضية وتظهر في طريقها عقبات لا حصر له ، وقد أبلغت صلاحي بهذه الحقيقة قائلة إن “الادعاء لا يظهر لنا الأدلة التي ضدك، تم حذفها كلها”، الهدف هو إثبات أن الحكومة الأمريكية ليس لديها أدلة كافية ضده لإبقائه في السجن ، ولكنه يستمر في تكرار كلماته “طوال وقتي هنا، يتم إبلاغي أنني متهم ، ليس لشيء فعلته، ولكن بناء على شبهات، أنا بريء. في هذه الأثناء ، يكافح المدعي العام المقدم ستيوارت كوتش (بنديكت كومبرباتش) لتوجيه اتهامات ضد محمدو لكنه يفتقر إلى المعلومات التي يحتاجها. بعد أن فقد صلاحي الأمل في أن يجد العدالة، تبنت قضيته المحامية الأميركية نانسي هولاندر ومساعدتها تيري دنكان، وما كانت العدالة لتتحقق لولا تعاون المدعي العسكري ستيوارت كوتش معهما، رغم سعيه في بداية الأمر لتنفيذ عقوبة الإعدام بصلاحي .

تفاني نانسي ومساعدتها تيري في إثبات براءة صلاحي، أمكنت من إيصاله إلى قاعة المحكمة لتلقي محاكمة عادلة، ومع ما قدمه لهم المقدم ستيوارت من أدلة ضخمة، ساعدت في النهاية على الكشف عن مؤامرة مروعة وبعيدة عن التصديق، وهي السبب وراء سجنه طوال هذه السنوات حتى أطلق سراحه . في 22 مارس عام 2010 وصل رسالة الى المعتقل محمدو صلاحي باعلامه بأنه  كسب القضية  ويفرح ، ولكن الفرحة تغتالها السلطات الامريكية، على الرغم من فوزه بالقضية ، ويظهر إعلان كئيب على الشاشة أن صلاح بقي في غوانتنامو لمدة ست سنوات بعد انهيار المحاكمة في عام 2010 – بأمر من حكومة أوباما.  وقضى محمدو صلاحي سبع سنوات إخرى في السجن ، لم ير والدته قط ، توفيت في عام  2013، واصلت المحامية (هولاندر) ومساعدتها (تيري) زيارته وقاتلا من أجل اطلاق سراحة مع الاتحاد الامريكي للحريات المدنية ، ونشر محمدو رسائله في كتاب وبعنوان (يوميات غوانتانامو) . يخبرنا الفيلم أنه من بين 779 سجينًا محتجزين في خليج غوانتانامو ، تمت إدانة ثمانية فقط ؛ تم إلغاء القضايا المرفوعة ضد ثلاثة في الاستئناف.

تم الافراج عن محمدو صلاحي في 17 أكتوبر  عام 2016 بعد أن قضى 14 عاما و شهرين خلف القضبان ، وفي نهاية الفيلم يعود محمدو صلاحي الى بلده ( موريتانيا ) ويظهر المخرج صلاحي بشخصيته الحقيقية ( كعادة أفلام السيرة الذاتية ) ، ويستقبل المحامية نانسي هولاندر وشريكتها تيري دنكان بشخصيتهما  ويمنحهما هدية وهي عبارة عن سلسلة محفور عليها أسماءهما باللغة العربية ، يختتم الفيلم بالموريتاني محمدو صلاحى وهو مزهوا وفرحا ويدندن باغنية المطرب الامريكي (بوب ديلان) . الفيلم الذي يستند إلى تجارب الحياة الواقعية لصلاحي والمذكرات التي كتبها أثناء وجوده في السجن لا يخجل من انتقاد المعاملة المقيتة لمحمدو (بما في ذلك أساليب التعذيب المزعجة للغاية المستخدمة لانتزاع الاعتراف) وسياسات الحكومة التي تدعم النظام الفاسد الذي يفضل إبقاء محمدو خلف القضبان لمجرد الاشتباه في ارتكاب مخالفة دون سبب عادل . بينما تتكشف قضية صلاحي بشكل أساسي من خلال عدسة محاميه وكشوفاتهم ، فإنه لم يتم تنحيته جانباً أبدًا باعتباره الشخصية الرئيسية في الفيلم، حيث كان ماكدونالد يشحذ بعضًا من الخلفية الدرامية لصلاحي وتجاربه المروعة خلال سنواته في غوانتانامو .

يضع فيلم “الموريتاني”، نظام العدالة الأميركي موضع تساؤل  بتسليط الضوء على قصة سجين من بين مئات السجناء داخل معتقل غوانتانامو، وكيف قضى سنوات في السجن دون توجيه تهمة واضحة له أو حتى محاكمته . وقد نجح المخرج في  تصوير مشاهد تعذيب صلاحي  بشكل ( حلم ضبابي) أو كوابيس معتمة، وكان فريق التصوير حريصا على ألا يسقط في فخ تصوير ولد صلاحي بأي شكل ينتقص من إنسانيته. فرغم أن فيلم “الموريتاني” يُصوّر جانبا من المعاملة القاسية، التي تعرض لها بطله خلال وجوده في غوانتانامو، فقد كانت الكاميرا بمجرد بدء مشاهد تعذيبه في الظهور على الشاشة ، تنتقل لاسترجاع ذكريات حياته في فترة ما قبل الاعتقال ، ويوضح  المخرج كيفن سبب ذلك بالقول: “بمجرد تعذيبك لشخصية ما ، يصبح (المشاهدون) غير متعاطفين معها، وهو أمر غريب. لم نشأ أن نجعل مشاهد التعذيب فاحشة”، ولذا أبعد كيفين  (شخصية ولد صلاحي) عن هذه المشاهد وأعادوه (على الشاشة) إلى ماضيه بطريقة(الفلاش باك)، ما يساعد المشاهد على التواصل في رؤيته كإنسان . ويقوم بدور ولد صلاحي الممثل الجزائري- الفرنسي (طاهر رحيم)، الذي رشح لجائزة أوسكار أفضل ممثل عام  2009، وتوقع بعض النقاد ترشيحه مجددا عن أدائه في “الموريتاني”.

وتشاركه البطولة النجمة الشهيرة “جودي فوستر”الفائزة بالأوسكار مرتين. فيلم الموريتاني مدعوم بأداء مذهل ودقيق للممثل “طاهررحيم”، عندما طُلب من الممثل الفرنسي – الجزائري الاصل ” طاهر رحيم” القيام ببطولة فيلم “الموريتاني” للمخرج الأسكتلندي كيفين ماكدونالد؛ لم تكن معلوماته عن هذا المعتقل تزيد عن تلك التي يعرفها المشاهد العادي، لقد كان الممثل رحيم على علم بالأخبار المتداولة والتقارير التي تشير إلى إساءة الحراس في هذه القاعدة البحرية الأمريكية الواقعة في كوبا معاملة السجناء، لكن لم يكن بوسع هذا الممثل الجزائري الفرنسي – للأمانة – تخيل أن “دولة مثل الولايات المتحدة يمكن أن تسمح لجنودها بمعاملة البشر على هذه الشاكلة ” .غير أنه شرع بعد توقيعه عقد بطولة الفيلم في البحث عن مزيد من المعلومات في هذا الشأن، وعندها كل شيء تغير.

وفي تصريحات لبي بي سي، قال  الممثل رحيم: ” قرأت السيناريو، وطالعت المذكرات، وشاهدت أفلاما وثائقية ، وتحدثت مع محمدو (ولد صلاحي) نفسه ، وهكذا بِتُ راضيا عن المشاركة في الفيلم . لكنني كنت حزينا وغاضبا، لأنني علمت أن هذه هي قصة حقيقية” . وأضاف الممثلة رحيم “كنت مثل كيس شاي في كوب ماء، بحاجة إلى وقت” . ولأن محمدو ولد صلاحي، تعرّض للتعذيب، كان لابد لرحيم أن يعرف التعذيب أيضا. وعن ذلك يقول “كنت بحاجة إلى وضع نفسي في ظروف واقعية، طلبت من فريق الدعم الذي أعطاني قيودا زائفة أن يحضر لي قيودا حقيقية، لأشعر بها، واستعملتها يوما واحدا، فأصبت بكدمات، وعندما ألقوني في زنزانة طلبت منهم أن يبرّدوها قَدْر الإمكان، ويرشوني بالماء، أما في التدريب على الإيهام بالغرق، فقد ضربت ساق شريكي ثلاث مرات حتى يتوقّف، وكذلك كانت تجربة التغذية القسرية، وأداء مشهد الهلوسة، فأنا لم أتعاط المخدرات، ولم أصب بالهلوسة من قبل . وضعت نفسي في حالة عاطفية خاصة، كي أعيش التجربة في خيالي، تخيلت رؤية محمدو لوالدته معه في الزنزانة ، لم أستطع التحمل، كدت أنهار، فما بالكم بمحمدو الذي قضى 15 عاما في هذا المعتقل سيء السمعة”. وقضى رحيم بعض الوقت مع ولد صلاحي، لكي يفهم منه طبيعة التجارب التي مر بها، ولفهم تفاصيل شخصيته وسلوكياته حتى تتسنى لي معرفة شخصيته، الطريقة التي يتحرك ويتحدث بها ويجيب عن الأسئلة، والأسلوب الذي يُلقي به الدعابات.

وقد ساعده ذلك على أن يتشرب شخصية الموريتاني في داخله . سبق أن حظي رحيم بإشادة النقاد عن دوره في الفيلم الفرنسي “نبي” (2009) ، وفاز فيه بجائزة أحسن ممثل أوروبي ، وفي المسلسل الأمريكي القصير “الأبراج الشاهقة”، الذي تناول هجمات سبتمبر/أيلول، وجسّد فيه شخصية عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) علي صوفان، كما شارك في الفيلم الأميركي البريطاني الأسترالي ” مريم المجدلية” عام (2018) الذي مثل فيه أيضا الممثل الشهير”خواكين فينيكس”. بذل الممثل(طاهر رحيم ) قصارى جهده في تجسّده شخصية بطل “الموريتاني”، وعندما قرأ السيناريو، اكتشف أنه بصدد إحدى المرات القليلة التي يتم فيها تقديم “شخصية مسلم بأسلوب يتسم بالتعاطف معه ، في قلب فيلم أمريكي”، ما أدى بالتبعية إلى أن يشعر بالرغبة والقدرة على المشاركة في هذا العمل ، ويضيف رحيم بالقول: ” كسب محمدو (ولد صلاحي) قضيته . وهذه الأفلام تشكل شهادات للجيل المقبل.

لا أعبأ بما إذا كان المخرج أبيض اللون أو ذا بشرة سوداء أو آسيويا . فهذه الأفلام تتضمن قصصا لا بد أن تُروى، ويجب عرض هذا التاريخ للجماهير، وإلا كان محكوما علينا تكراره”. وقد أبدى ولد صلاحي ثقته في المخرج ماكدونالد لتقديم فيلم عن تجربته بسبب التجارب السابقة التي خاضها هذا الرجل في تقديم أعمال وثائقية مثل “لمس الفراغ” (2003) و”مارلي” (2012) ولكن أيضا لتجربته في أفريقيا،عندما قدم فيلم “أخر ملوك اسكتلندا” وينتمي هذا الفيلم إلى أعمال السيرة الذاتية أيضاً ورُشِحَ لجائزة الأوسكار، وقدم فيه ماكدونالد الممثل فورست ويتيكَر، في دور الرئيس الأوغندي الراحل عيدي أمين . أما مخرج الفيلم” كيفن ماكدونالد” فقد تحدث عن فيلمه قائلاً: ” أردنا أن نحكي قصة صلاحي، إنه إنسان ممتاز. تحدث الممثلون إليه وتأثروا بروحه المرحة ودفئه الإنساني وسماحته”.إنه شخصية مذهلة ومرنة وطاهر رحيم كان الممثل الوحيد الذي يستطيع أن يلعب هذا الدور المعقد المحاط بالغموض والشك، وقد نجح بصورة مذهلة “. وناقش ماكدونالد ورحيم الدور لمدة عامين لبناء شخصية.

في حين صرحت بطلة (صمت الحملان) و(سائق التاكسي) وغيرهما من الافلام التي لا تنسى، النجمة الفائزة  “جودي فوستر” في لقاء مع مجلة الموعد النهائي” أنه مثال نادر لفيلم يقدم شخصية مسلمة بطريقة إنسانية حقا  وبالنسبة لي هذا سبب كافٍ لصنع الفيلم وإنه لمن دواعي الشعور بالرضا أن نشعر بأننا نجعل العالم أفضل، وليس أسوأ” . وأشارت إلى أن” تأليفه خمسة كتب أثناء وجوده في المعتقل، منها مذكراته التي يستند إليها الفيلم، شهادة على حقيقة محمدو وعلى إيمانه . عندما تكون في موقف كهذا، فإن الإيمان هو ما يمنعك من التحوّل إلى أسوأ ما في نفسك. لقد أصبح محمدو أفضل ما في نفسه، إذا قابلته فستجده من أكثر الرجال مرحا، على الرغم من المأساة التي واجهها” .

الفيلم من إخراج الأسكتلندي كيفن ماكدونالد الذي عبّر عن سعادته وامتنانه لإخراج فيلم “الموريتاني” خلال حوار له مع مجلة “فانيتي فير “، وعن عمله مع صلاحي، قال “كان الدافع لنفسي ولجميع الممثلين هو صلاحي نفسه، إنه حقا شخص غير عادي، مليء بالدفء واللطف،ويمتاز بحس دعابة رائع “، وأكد أن الفيلم يركز أكثر على شخصية صلاحي وما مرّ به، وليس فيلما سياسيا كما يتوقع الناس، وقال “أعتقد أن الناس يتوقعون فيلما عن مدى فظاعة غوانتانامو، لا حاجة لذلك، نحن نعرف ذلك بالفعل “. حصل ماكدونالد على جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2000 عن فيلمه “يوم واحد في سبتمبر/أيلول ، وفاز فيلمه “آخر ملوك أسكتلندا” بجائزة الاوسكار أيضاّ عام 2006 وجائزة بافتا ، وبحسب موقع “فاريتي ” فإن أداء طاهر رحيم في فيلم “الموريتاني” يمكن أن يضعه في قائمة المرشحين لجائزة الأوسكار،  وأما عن دور المدعي العسكري ستيوارت، فلا أفضل لهذا الدور من البريطاني بنديكت كومبرباتش، بعد أدائه المميز لدور المحقق شارلوك هولمز، والذي حصل به على جائزة إيمي، كما رشح لجائزة الأوسكار عن دوره في فيلم “لعبـة التزييف . وكان مخرج فيلم “الموريتاني” الاسكتلندي” كيفن ماكدونالد” قد اكد ان فريق العمل واجه تحديات صعبة خلال أحداث الفيلم المرتبطة بموريتانيا نتيجة لغياب البنية التحتية الأساسية وصعوبة لإنجاز العمل في موريتانيا ، وشدد مخرج الفيلم في مقابلة (على أن فريق العمل حرص على إبراز خصوصية البلد و محاولة الاستفادة من جغرافيا الأراضي الموريتانية ليترجم حضورها في الأحداث المصورة من الفيلم بموريتانيا ).

يتسلح  المخرج” كيفن ماكدونالد “بسيناريو فيلم صلب لمايكل برونر وروري هينز وسوهراب نوشيرفاني ، وبقدر اعتماد الفيلم على مذكرات ولد صلاحي، فيما يتعلق بكتابة السيناريو، فقد إعتمد القائمون على العمل على المعتقل السابق نفسه، لتقديم التفاصيل اللازمة لتصوير المشاهد، بأقصى قدر ممكن من الدقة. فقد كان بوسع ولد صلاحي أن يصف بالتفصيل، طبيعة العزلة التي عانى منها في غوانتانامو . إذ استخدم جسده لإعطاء قياسات دقيقة لماكدونالد ، للأقفاص والزنازين الصغيرة للغاية، التي احتُجِز فيها هناك. ومكَّن ذلك صُنّاع الفيلم من بناء نموذج للمعتقل في مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا . في الختام : على الرغم من ان الفيلم يسلط الضوء على عدم قدرته السردية على استيعاب رحلة مدتها سنوات. لكن  فيلم “الموريتاني”  يعتبر إجراءً فعالاً يدين معاملة حقبة بوش للمعتقلين بشكل أكثر فاعلية من أي فيلم روائي حديث آخر . إنها قصة مؤثرة و لكنها مأساوية..

(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم ٤-٣-٢٠٢١)
x

‎قد يُعجبك أيضاً

الثقافة واقع ومآلات

    | إسماعيل مروة   كتب باحثون عن تقزّم دور الثقافة، وصدرت كتب عن الآليات التي سعت فيها القوى الفاعلة في العالم إلى ضرب ...