آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » سوريا و”تحرير الشام” وحكاية “ما بعد الجهاديّة”

سوريا و”تحرير الشام” وحكاية “ما بعد الجهاديّة”

فرص انتقال هيئة تحرير الشام إلى “سلفية وطنية”، لا يُدخلها في مرحلة “ما بعد الجهادية”، ما حصل بالضبط، هو تقليص ساحات وميادين الجهاد، ونقله من فضاءات “العالمية/الأممية” إلى الحيّز الجغرافي الوطني السوري.

 

 

استقبل بعض المحلّلين من “خبراء الإسلام السياسي” تحوّلات هيئة تحرير الشام، وانقلابات زعيمها أحمد الشامي (التي ما زالت في الإطار اللفظي حتى الآن كما يبدو)، بكثير من الخفّة، وقفزوا إلى استنتاجات سابقة لأوانها، وأخذوا يبشّرون بـ”سلفّية جديدة، ما بعد جهادية”، تطلّ برأسها من قصر الشعب في العاصمة السورية، في استعادة مع فارق الظرف والسياق، لسيناريو التحوّلات والانتقالات التي لحقت بحركة طالبان، السلفية الجهادية، وحاضنة القاعدة وإسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري، بما يعني بصورة أو بأخرى، “طلبنة” هيئة تحرير الشام، بجعل “جهادها” محصوراً في الجغرافيا السورية، مثلما قبلت طالبان تقييد جهادها بأجندة أفغانية محضة.

سنقبل بهذه الفرضية مع التحفّظ، وسنضيف إليها من باب السجال معها، أنّ فرص انتقال الهيئة إلى “سلفية وطنية”، لا يُدخلها في مرحلة “ما بعد الجهادية”، ما حصل بالضبط، هو تقليص ساحات وميادين الجهاد، ونقله من فضاءات “العالمية/الأممية” إلى الحيّز الجغرافي الوطني السوري… تلك العملية، بدأتها الهيئة عندما كانت “نصرة”، وهي سابقة للفتح العظيم لعاصمة الأمويين، وسبق لمنظّمات “شقيقة” أن خاضت غمارها، بدرجات كبيرة من التعثّر، بعد  أن قبل “العالم المنافق” بالمعادلة الجديدة: نترككم في سلام آمنين، واتركوا لنا فعل ما نشاء ضمن حدود جغرافيتنا، حتى وإن انتهت المقايضة، إلى الضرب بمنظومة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي ما انفك الغرب الاستعماري، يضرب بها، يسرة ويمنة، ويطيح بها على نحو يطيح بكلّ أدواته الناعمة وعناصر “تفوّقه” القيمي والأخلاقي.

في الحالتين، الأفغانية والسورية، وربما تلحق بها حالة ثالثة: الشباب في الصومال والقرن الأفريقي، يغفل المُبَشّرون بـ “ما بعد الجهادية”، أثر السلطة، والشبق بالوصول إليها، والاستماتة في البقاء على قمّة هرمها، في استحداث التحوّلات والتنقّلات… ما يعني، أنّ أيّ اهتزاز في “مركزية” هذا الهدف، ستفقد القوم، مبرّرات جنوحهم نحو شكل من أشكال “السلفية الوطنية”… والاهتزاز هنا، لا يعني شيئاً أكثر، من الضغوط الرامية، لفتح نوافذ المشاركة وقبول الآخر، والاعتراف بالتعدّدية الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية، والانخراط في عملية سياسية شاملة وجمعية… طالبان لم تواجه قدراً كافياً من الضغوط لفعل ذلك، لأنّ قوات الاحتلال الأميركية كانت في وضعيّة هزيمة، وتجلّت فصولها على صورة “فضيحة” للدولة الأعظم والجيش الأقوى في العالم، في مطار كابول.

سوريا مختلفة، أولاً؛ لاختلاف بنية وتركيبة المجتمع السوري، وفسيفسائه الطوائفية والأقوامية المتعدّدة، وثانياً؛ لأنّ المهزوم في سوريا، لم يكن يكترث بشعارات الديمقراطية والتعدّدية وحقوق الإنسان، فيما الأطراف الرابحة من جرّاء سقوط النظام، من دون أن تبذل جهداً ذا شأن، أو تريق قطرة دم واحدة من جنودها وضبّاطها، وأعني قوى التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة، باتت تجد في هذه الشعارات، وسيلة مفيدة للاستخدام كأداة ضغط وابتزاز على الحكم الجديد في سوريا، لدفعه إلى تقديم تنازلات في ملفات أخرى، ضدّ إيران وحلفائها من جهة، وتقرّباً من الغرب وربيبته “إسرائيل” من جهة ثانية.

وثمّة سبب آخر، يجعل من سوريا حالة مختلفة، تتجاهله بعض تحليلات “الـ Take away”، وأعني به أثر العامل الخارجي في استحداث هذه التحوّلات، التي يتضح لنا كما لغيرنا، أنها لم تكن بفعل تطوّر طبيعي – داخلي في فكر الجماعة ومنهجها، أو كنتيجة لمراجعات فكرية وسياسية، بقدر ما كانت ثمرة “إعداد” منهجي منظّم، قامت به حواضر عربية وإقليمية، ودائماً بهدف استحداث التغيير، وتأهيل “القادمين الجدد” للتعامل مع السلطة وصورتها ومندرجاتها… لكأنّنا أمام عملية هندسية لإعداد خشبة مسرح، تغيب عنها وجوه وتعتليها وجوه جديدة.

إذاً السلطة، وأولوية الاحتفاظ بها، والاستحواذ عليها، هي المحرّك الأول، في ضبط الإيقاعات الجهادية، لهذه الحركات… أما الطريق إلى نهايات وخواتيم هذه التحوّلات، فلم يكن يوماً ذا اتجاه واحد، كما تدلّل على ذلك، تجارب حكم الحركات الإسلامية من مختلف المدارس الفقهية والعقائدية، بل هو طريق ذو اتجاهين، سيما في حال لم تستكمل هذه الحركات أجندة “التمكين”… ذلكم، الدرس المستفاد من عشرية “الربيع العربي”، وتحوّلات الحركات الإسلامية وهي في السلطة والمعارضة… ولكي نتوخّى الإنصاف، فالتمكين، ليس نظرية حصرية للحركات الإسلامية وحدها، فهي طالما في قلب مناهج الحكم عند المدارس القومية واليسارية، دع عنك أنظمة السلالات والجنرالات في العالم العربي.

ولسنا نقرأ في نظرية “التجانس والانسجام” الانتقالية، التي ابتدعها أحمد الشرع، وأقصى بموجبها الأصدقاء قبل الخصوم، سوى توطئة للشروع في إنفاذ أجندة “التمكين”، سيما إن قُرئت بالترابط مع مرحلة انتقال ممتدة لأربع سنوات على أقلّ تقدير، كما اقترح هو نفسه… الأمر الذي أثار حفيظة معارضين للنظام البائد، دفعوا من أعمارهم في سجون الأسد، أكثر من نصف عمر الجولاني، وهم يجدون أنفسهم اليوم، خارج المعادلة الجديدة لحكم سوريا… الأمر الذي يشرح ويفسّر كذلك، كثيراً من “التجاوزات” و”التعديات” ظاهرها “حوادث فردية ومتفرّقة”، وباطنها يعكس جوهرها الإلغائي، بوصفه واحدة من مرتكزات “التمكين”.

 

“السلفية الوطنية” بحكم طبيعتها، ليست متجذّرة ولا عميقة في بلداننا، ولا في أيّ مكان في العالم الإسلامي على اتساعه، لكنّ تجارب البلدان المختلفة، قدّمت مستويات ونماذج مختلفة من “السلفيات الوطنية”، لعل أبرزها مما يستحقّ الدراسة، ما تطوّر في المغرب، من مدرسة وطنية في السلفية، لها حضورها وإسهامها في الحياة العامة، ولكن بقدر محدود، لا يحتمل المبالغة ولا التقزيم… وربما تعود “ريادة” المغرب في إنتاج طبعته السلفية الوطنية، إلى استقرار الدولة وامتدادها في التاريخ لقرون عديدة، وهيمنة مؤسسة العرش، وانفتاح البلاد، المبكر والعميق، على الموروث الثقافي والحداثي الغربي، بخلاف دول المشرق، حيث الحدود مصطنعة، والهويات هشّة، والمجتمعات فسيفسائية، والدولة الوطنية الحديثة “مفبركة” في الغالب الأهمّ، والانقطاع بدل الاستمرارية، هو سمة ملازمة، لمعظم دوله، والأهم من كلّ ما سبق، حيث زرعت “إسرائيل” في هذه البقعة من المشرق العربي، لتكون “محراك الشر”، وأداة تأبيد الهيمنة الاستعمارية.

في سعيها للوصول إلى السلطة، واستتباعاً البقاء على قمّتها، وجدت هيئة تحرير الشام نفسها في لحظة استثنائية… فمن جهة، لم يكن وصولها إلى “قصر الشعب” ممكناً، لولا الضربات الموجعة التي مُني بها حلفاء النظام بعد طوفان الأقصى بفعل الحرب البربرية المنفلتة من كلّ عقال وضابط، التي شنّتها “إسرائيل”، بشراكة تامّة مع الولايات المتحدة وعدّة دول غربية… توقيت “ردع العدوان” وتداعياته الزلزالية المتسارعة، ارتبط بنتائج العدوان على غزة ولبنان، وتجرّؤ “إسرائيل” على ضرب العمق الإيراني، والتحوّلات التي تستبطن عودة ترامب وفريقه الأكثر تطرّفاً، للبيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه.

هذا يعني، من ضمن ما يعني، أنّ فلسطين، ليست بضاعة مناسبة للترويج، حتى بغرض اكتساب ودّ رأي عامّ منهك ومجوّع ومفقّر ومفتّت هوياتياً وسياسياً، بل على العكس من ذلك، يبدو حديث طرد الاحتلال والتصدّي لغطرسته، والتلويح – مجرد تلويح – بمقاومته ذات يوم، أمر لا يخدم هدف البقاء في السلطة، وربما لم يكن يخدم هدف الوصول إليها… هنا، ولأغراض تتصل بالمحرّك الأول لتحوّلات “السلفية الجهادية”: السلطة، نجد القوم، يعطون أذناً من طين وأخرى من عجين، لهدير الطائرات الحربية والانفجارات التي تصمّ الآذان، في قلب العاصمة ومختلف محافظات البلاد… ليس الوقت مناسباً لـ”جهادية” في مواجهة “إسرائيل”، وهو لم يكن مناسباً من قبل، لمعظم مدارس السلفية، “الجهادية وما بعدها”.

وطالما ظلّ “التمكين” حاجةً وأولوية، وهدفاً لم يدرك، فإنّ من المتوقّع، أن تُطوى صفحة “الجهاد” ضدّ “إسرائيل”، حتى وهي تحتل أراضي سورية وتتوسّع في احتلالها، بل ويمكن التنبّؤ بأنّ القوم سيتدثّرون بثياب “المهاتما غاندي” أو برداء الأم تيريزا الأبيض، في كلّ مرّة تحدّثوا أو سيتحدّثون فيها عن التهديد الإسرائيلي لأمن سوريا ووحدتها وسلامة ترابها الوطني وسيادتها القومية… بوصلة الجهاد ستتجه داخلياً، على تصفية الخصوم، وإبعاد المنافسين، والمضي حتى أبعد شوط في “أسلمة الدولة والمجتمع”.

في مواجهة صمت النظام الجديد، و”الجهادية القديمة”، عن مسلسل الاستباحة السورية، يخرج علينا من يتهمنا بأنّنا “متطيّرون”، نطلب من نظام لم يكمل شهره الأول في السلطة، ما لم نطلبه من نظام بائد، قضى فيها أزيد من نصف قرن… حسناً، نحن لم نكن سعداء بما كان يفعله النظام القديم، لا داخلياً ولا على جبهة الصراع مع العدو القومي، ولقد دفعنا ثمن ذلك – فخورين – سنين طويلة من الاندراج على قوائم الممنوعين من دخول سوريا العزيزة على قلوبنا… كما أننا لسنا من السذاجة لأن نطلب من النظام الجديد توريط سوريا، فيما لا قبل لها فيه أو عليه… هذا مفهوم، ومبرّر بصورة كافية، ولكنّ الصمت المطبق في المقابل، ليس خياراً، أقلّه يتعيّن مواكبة هذه العدوان بالمواقف السياسية والتحرّكات الدبلوماسية، وإطلاق التعهّدات والالتزامات بالعمل على استكمال تحرير سوريا وتوحيدها وبسط سيادتها على أراضيها، كلّ أراضيها، من دون استثناء.

ومن باب أضعف الإيمان، يتعيّن “الصمت” عن الإدلاء بالمواقف “الحمائمية” التي تسعى في تصوير سوريا، “لوكسمبورغ” الشرق الأوسط… حكاية أننا نريد علاقات سلام وحسن جوار وتعاون مع الجميع، وأننا لن نشكّل خطراً أو تهديداً لأحد، تنفع مع لبنان والأردن وتركيا والعراق، وحتى مع الدائرة العربية والإسلامية والعالمية الأوسع والأبعد، ولكنها لا تنفع في الحالة الإسرائيلية أبداً، وتبعث برسائل مقلقة للغاية، وتشجّع العدو، على الإمعان في شروره، وطلب المزيد.

والمقارنة، مع النظام القديم، ساقطة حكماً كذلك، سيما إن أريد بها، تسويق وتسويغ مواقف الحكم الجديد، من مسلسل العدوانات الإسرائيلية الفاجرة… فهو – نظام الأسد – جعل من جبهة الجولان الأكثر هدوءاً من بين كلّ جبهات الطوق، وهو “نأى بنفسه” عن كلّ حروب المقاومات العربية ضدّ “إسرائيل” منذ عام 1973، وسوريا كانت في عهده، مستباحة في سماواتها وأرضها، وأكثر من ثلث مساحتها، كان خارج سيطرته، وسنحتاج إلى مزيد من الوقت لتفكيك عناصر “المعادلة” التي اختارها لنفسه، بين مقتضيات التحالف مع المحور وضرورات إدامة سلطته وحكمه… تلكم قضية بحاجة لبحث لا تحتمله هذه المقالة.

لم نذهب بعيداً عن جوهر سؤال “ما بعد الجهادية”، فالعامل الإسرائيلي، ظلّ على الدوام، في خلفيّة حسابات قوى عديدة، ومن مرجعيات ومشارب شتى، سعت للسلطة، وأنظمة قديمة وجديدة، من مختلف المدارس، حاولت البقاء على رأسها… تسكين الغرب بطمأنة “إسرائيل”، تقع في جوهر المقاربات السلطوية العربية، والتسكين يفتح الباب رحباً، ودائماً، للاستكانة أمام “تل أبيب” ومشروعها الاستعماري التوسّعي، وفي أحايين كثيرة، يبدو التملّق لـ “إسرائيل”، بدءاً بالسكوت على احتلالاتها وجرائمها، طريق بعضهم للغرب وجناته الموعودة، لكأنه كتب على هذه المنطقة المفاضلة بين خيارين: الخضوع للهيمنة الاحتلالية الإسرائيلية نظير حياة طبيعية أو شبه طبيعية (إذا استطعنا إليها سبيلا-درويش)، أو مقاومة هذه الغدة السرطانية، على طريق عزلها واستئصالها، وتحمّل التبعات الضاغطة لذاك الخيار، فأيّ الخيارين ستختار سوريا في ظلّ عهدها الجديد، عهد “ما بعد السلفية الجهادية”؟

 

 

 

 

اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترامب يهدد مجددًا “حماس” بالجحيم إذا لم تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ومبعوثه يتوجه إلى قطر لمتابعة صفقة التبادل

قال الرئيس المنتخب دونالد ترامب يوم الاثنين إنه “أفضل صديق” لإسرائيل على الإطلاق وكرر التهديد بأنه سيكون هناك “جحيم يدفع ثمنه” إذا لم تطلق حماس ...