نبيه البرجي
نتوقع أن يقول لنا ايمانويل ماكرون اليوم “كفاكم لعباً بالنار”. وكان آلان بيرفيت، وزير العدل في عهد شارل ديغول، قد قال “ان السياسة في نهايات الجمهورية الرابعة، باتت من يقطع رأس مَن”. أليست هذه حالنا حين نرى الى أين تذهب بنا الثقافة الطوائفية؟ ما من مرة زارنا جان ـ ايف لودريان الا وحذرنا من زوال لبنان…
على بعض شاشاتنا دعوات صارخة الى قطع رؤوس الذين خسروا الحرب، باعتبار أن على تخومنا الجنوبية ثمة دولة ملائكية، ولم تفعل بنا ما لا يمكن أن يفعله الشيطان. هذا يثير حتى استغراب بعض المعلقين الفرنسيين، الذي يعرفون لبنان عن كثب، وييستغربون استشراء ايديولوجيا الكراهية بين الطوائف، الارث الذي انتهى الينا من قاع القرن التاسع عشر.
ذات يوم استعدت أمام نائبة في الجمعية الوطنية الفرنسية وصف الملك لويس التاسع (القديس) للموارنة بأنهم “فرنسيو الشرق”. لتعلق ضاحكة “… والآن باتوا أميركيي الشرق”، ثم تستدرك “كلنا أصبحنا أميركيين، حتى لنكاد نسأل اذا كان ماكرون يتعامل مع فرنسا، كما لو أنها ولاية أميركية”!
اليوم يجمع الرئيس الفرنسي الرؤساء الثلاثة، ليقفل عند هذا الحد ملف الاثنين الفائت. كلنا سوف نتابع ملامح الرئيس نبيه بري. في لقاء مع الرئيس الراحل كميل شمعون، قال لي أنه فوجئ بتوقد ووسامة ذلك الشاب الشيعي، أي نبيه بري، حين كانت تعقد الاجتماعات بين ممثلي الأحزاب في ميدان سباق الخيل ابان الحرب الأهلية.
مساء الاثنين طرحنا الكثير من الأسئلة، مع تخوفنا من العودة الى مرحلة الأبواب المقفلة والوجوه المقفلة. قيل لنا ان الرجل الذي يحمل على كتفيه هموم الجبال، والذي خاض معارك ديبلوماسية هائلة، توصلاً الى وقف النار، لا يمكن أن يتوقف عند ذلك النوع من الضربات المسرحية. البلاد الآن، كما المنطقة، أمام مفترقات تاريخية، ولا بد من لملمة الوضع اللبناني بعيداً عن اللعبة الجيوسياسية، التي بدأت تأخذ شكلاً آخر وأبعاداً أخرى.
ولكن ليت ماكرون الذي يسدي الينا النصح يتكلم باسم فرنسا الفرنسية، لا فرنسا الأميركية. تصوروا أن يصف ايران التي لا بد أنها في حالة انكفاء، بعد سنوات من التمدد من جبال مران في اليمن الى ضفاف المتوسط في لبنان، بأنها تهدد الأمن الاستراتيجي للمنطقة، وهي المنهمكة حالياً في الاعداد لمواجهة خطة فريق دونالد ترامب برفع مستوى العقوبات، للوصول بالاحتقان الاقتصادي والاجتماعي الى حدود الانفجار.
كوارث كثيرة أنتجتها الحرب، حقائق كثيرة أيضاً. ربما كانت الحقيقة الأولى في الجنون الايديولوجي والجنون الاستراتيجي لليمين “الاسرائيلي”. اختلال مروع في موازين القوى، وحتى على المستوى السياسي والاعلامي. غالبية وسائل الاعلام الأميركية والأوروبية ايدت “اسرائيل” في الدفاع عن النفس. هل بالغارات الهمجية على المدن والقرى تدافع “اسرائيل” عن أمنها وعن وجودها؟ وحيث الآلاف يقضون تحت الأنقاض، دون أي مبرر اخلاقي أو انساني على الاطلاق.
عقب الخروج الأميركي من فيتنام، قال الجنرال الكسندر هيغ، قائد قوات حلف الأطلسي، “يفترض اعادة هيكلة الوعي في رؤوسنا، كخطوة ضرورية لاعادة ترتيب الأولويات، وعدم السقوط العشوائي ثانية حيث ينبغي ألاّ نكون”. أشياء كثيرة تغيرت ليتداخل الزلزال السوري مع الزلزال اللبناني. المنطقة كلها كما لو أنها انزلقت الى المتاهة، مع انه لا يوجد هناك سوى العصا الأميركية.
لودريان ألمح في زيارته الأخيرة الى عقد مؤتمر يضم القوى اللبنانية كافة، لبلورة المسار السياسي والاستراتيجي للدولة اللبنانية في المرحلة المقبلة. ولكن هل لبنان بيد أهله لكي يفعل ذلك؟ ما ينطبق على لبنان ينطبق على المنطقة باسرها. لا ندري الى أين يمضي بنا الأميركيون؟
جمال حمدان، الباحث المصري الشهير، قال لنا على وقع بابور الكاز الذي وضع عليه ابريق الشاي، وهو الذي ابتعد بزهده وأفكاره الفذة عن الضوء وعن السلطة، اننا نحتاج الى مئة عام من الجهد العلمي لردم الهوة العسكرية بيننا وبين “اسرائيل”، واصفاً الفارق بيننا وبينها على أنه الفارق بين سكين المطبخ والقنبلة النووية. حتى ذلك الحين لا مجال الا لانتظار الضربات تنهال على رؤوسنا.
الآن، نحن أمام رئيس جديد للجمهورية، وعدنا بأن نبني دولة قابلة للتفاعل مع ديناميات القرن، بعدما استهلكنا طويلاً صراع الديكة. أيضاً رئيس جديد للحكومة لا نعتقد أنه من النوع الذي يوغل في لعبة الوحول وفي لعبة النيران، كما غالبية ساستنا الذين أظهروا قصوراً مروعاً في فهم أو في احتواء الأخطار الداخلية أو الخارجية التي تهددنا.
صحيفة “يديعوت أحرونوت” قالت أمس، تعقيباً على وقف النار في غزة “نتنياهو فشل، كذلك فشل الجيش ورئيس الأركان بعد 15 شهراً من الحرب”. متى كان للمجانين ألّا يسقطوا أرضاً في نهاية المطاف؟
“اسرائيل” في الطريق الى التحول؟ هذه فرصة ليس فقط للملمة أشلائنا، وانما لنقول للزائر الفرنسي، ان لبنان الذي ولد في قصر فرساي قد فارق الحياة. الآن لبنان الآخر الذي يفترض أن يولد في قصر بعبدا. هذا لا يتم قطعاً بقطع الرؤوس…
(اخبار سوريا الوطن 1-الديار)