د. نهى خلف
مع دخول ادارة بايدن في شهرها الثالث، و بعد نشر إدارته للوثيقة الأخيرة بعنوان ‘الارشاد المؤقت للأمن القومي الاستراتيجي الامريكي’ و التي جاء فيها ‘إن مصير أمريكا اليوم أصبح أكثر ارتباطا بالأحداث خارج شواطئنا أكثر من أي وقت مضى’، مضيفة إن هناك قضايا ‘تشكل تهديدا’ للولايات المتحدة مثل التغيرات التكنولوجية، وصعود القوى المنافسة مثل الصين وروسيا ، بالاضافة الى ‘الحدود والجدران’ و ‘الحصار’ المفروض على النظام الديمقراطي في العالم ’، و التي تستنتج ان هناك ‘مهمة ملحة’ تقع على عاتق الولايات المتحدة وهي ضرورة إعادة تشكيل مستقبل النظام الدولي، يبدوواضحا ان هذه الوثيقة لا تختلف في إرشاداتها الاستراتيجية العامة عن مبادىء الهيمنة و الاستعلاء التي تسير السياسة الخارجية الامريكية منذ عقود، و الممزوجة باستمرارية ‘التباكي’ على مصير الولايات المتحدة ، والإدعاء الكاذب بان هناك قيود من ‘حدود و جدران’ تفرض حصارا على النظام الديمقراطي الامريكي في العالم ، وطبعا ان هذا التباكي مبنيا على اساس القناعة الامريكية بانها يجب ان تمتلك العالم وان عليها التحكم بمصائر كل عناصره.كما أن كون هذه الوثيقة ‘مؤقتة’ ،فذلك يوضح النيات المبطنة للادارة الجديدة بحقها في التخلي بأية وعود خاصة بالمعركة الانتخابية أو بأية مبادىء مذكورة بهذه الوثيقة .
كما أن سياسة بايدن بدأـت تظهر وجهها الحقيقي على الصعيد العملي، عبر الغارة التي نفذت في سوريا من جهة و عبر معارضتها بالسماح‘ للمحكمة الدولية للجنايات’ بمحاسبة الصهاينة على جرائمهم في فلسطين.و بما ان هذه الادارة الجديدة قدجاءت في المرحلة الدقيقة، أي على انقاض حكم دونالد ترامب و المعاناة التي تسببت بها سياساته ، أكان على صعيد السياسة الخارجية، (والتي تمثلت على صعيد منطقة الشرق الوسط والدعم المتزايد للكيان الصهيوني وخاصة بالشراكة المميزة مع صديقه نتنياهو، وعبر صفقة القرن و ما تلاها من تطبيع بين مجموعة من دول الخليج و الحركة الصهيونية)، وعبر الهلع الذي اصاب جزء كبير من المجتمع الامريكي على الصعيد الداخلي ، بسبب السياسات الترامبية المتهورة و التي ادت إلى تصويره كحالة شاذة في مجرى السياسة الامريكية، كل ذلك قد اعطى ادارة بايدن الفرصة الذهبية بالادعاء بالتفوق الاخلاقي و البراءة، مما أوهم البعض ان السياسة الخارجية الامريكية ستعود إلى نوع من العقلانية،بينما ان شعارها بان ‘ امريكا ستعود‘ و كأن ذلك خبر سار بينما يعني في الحقيقة العودة إلى سياساتها المقنعة القديمة و التي تسمح لها بخوض سياسة اكثر نفاقا و متعددة الأوجه.
و نرى من الضرورة الاشارة هنا إلى دراسة هامة للباحث ‘باتريك بورتر’ من جامعة بيرميجهام ، نشرت في العام الثاني من ادارة ترامب، وتحاول الاجابة على السؤال المطروح في عنوان البحث أي:‘ لماذا لا تتغير الاستراتيجية الاميريكية الكبرى : القوة و التقليد و مؤسسة السياسة الخارجية’ ، وهو سؤال مختلف بالجوهر عن التكهنات الأكثر انتشارا المبنية على التسؤلات الشائعة: ‘هل و كيف و متى ستتغير السياسة الامريكية’؟
ان التحليل المطول لدراسة باتريك بورتر توضح ان السياسة الخارجية الامريكية غير قابلة للتغيير لانها تعتمد منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على مبدأ حتمية ‘الاسبقية’ و لعب الدور ‘القيادي’ في العالم و الذي يتفرع عنه اربعة مباديء اخرى وهى: أولا مبدأ ‘التفوق‘ في كل المجالات وخاصة في مجالي القوة العسكرية و الاقتصادية، و ثانيا بالتمتع بالقدرة على طمأنة و استيعاب الحلفاء، وثالثا على إدماج الدول الاخرى في اطار الاسواق و المؤسسات الامريكية ‘المفتوحة’، ورابعا العمل على الحد من انتشار التسلح النووي في العالم.
و يعتبر الباحث ان هذه المباديء الامنية الاربعة و المنبثقة من المبدأ الاساسي الأول المبني على ضرورة الاسبقية و القيادة، يجعل التغييرفي السياسة الاستراتيجة الأمريكية عملية شبه مستحيلة ، حتى عندما تواجه هذه الاستراتيجية صدمات وأحوال سياسية متقلبة. و يشرح الباحث ان استمرارية و ثبات الاستراتيجية الامريكية الكبرى، ناتج عن التفاعل بين منطق ‘القوة‘ من جهة و‘ العادة السائدة و التقليد‘ التي تضع حدا أمام اية خيارات اخرى مقترحة. و يعرف الباحث مفهوم ‘القوة‘ بالقدرة الاقتصادية و الامكانيات العسكرية، بينما يعرف ‘العادة و التقليد ‘ بالافكار الجماعية’ و الاجماع السائد حول التفوق الذي يبدو طبيعيا ، وخاصة عند طبقة منسجمة من النخب الأمنية التي تتحكم في مؤسسة السياسة الخارجية والتي تعمل في اطار بيروقراطية أمنية أوسع .
وقد عرف احد معاوني الرئيس اوباما ‘بان رودس‘ الذي كان يعمل مستشارا له، هذه المجموعة المتنفذةو المؤثرة في استمرارية السياسة الخارجية ، بمصطلح غريب اي ‘بلوب‘ (و هو اسم مختصر قد يعني بقعة غير واضحة المعالم) و يشير عبر هذه التسمية إلى مجموعة من السياسيين و من بينهم هيلاري كلينتون و بيل غيتس و آخرون من الذين كانوا يدعمون الحرب على العراق وتشمل هذه المجموعة افراد من الحزبين حيث ينتمي البعض منهم إلى الجمهوريين، و هي مجموعة من الذين يتباكون بشكل دائم بسبب انهيار النظام الامني الامريكى في اوروبا و الشرق الاوسط. و يقول الباحث ان ‘البلوب‘ يجد جزوره منذ الحرب العالمية الثانية وبعد بروز حجم القوة الامريكية مما أدى إلى ضرورة وجود خبراء مختصين بالأمن القومي وقد تطابق ذلك مع بروز مجموعة من الامريكيين الامميين الذين اصبحوا يعملون على بقاء امريكا كقوة مهيمنة و مسيطرة على بالعالم.
وقد ادت مظاهر القوة الامريكية ومن بينها التوسع الصناعي الضخم و السيطرة على المخزون العالمي للذهب و ظهوركلدولار كالعملة السائدة الاحتكار للقنبلة النووية إلى حلمها بسبب قوتها الصاعدة في شتى المجالات باعادة صياغة النظام الدولي. وبالرغم من الفوضى التي عمت العالم في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي، قد أدى البحث عن استراتيجيات جديدة و بروز خبراء امنيين جدد لمطالبة الولايات المتحدة بترجمة نجاحها و انتصارها عبر الهيمنة و قيادة للنظام العالمي عبر انشاء‘ خطة القيادة الموحدة‘ في عام 1946 و التي حولت اجزاء كبيرة من العالم تحت القيادة العسكرية الامريكية، ثم عبر تطوير ‘قانون الامن القومي‘ الذي أدى إلى تأسيس مجلس الامن القومي و وكالة المخابرات المركزية الامريكية في عام 1947 ثم بتطويرو تطبيق مشروع مارشال عام 1948 و انشاء الحلف الاطلسي في عام 1949.
و رغم بعض الانتكاسات التي واجهت النخبة الامريكية المتنفذة بسبب الحرب الفيتناميىة و المشاكل الاقتصادية الأخرى التي واجهت الولايات المتحدة في الستينيات و السبعينيات ، إلا انها تمكنت من إعادة بناء نفسها و خاصة خلال فترة إدارة ريغان اليمينية، حيث استمرت بتبني الايديولوجية المبنية على منطق التفوق و الاسبقية، حتى اصبح الوفاء لهذا المعتقد شرطا للانتماء إلى المجموعة المتنفذة، و معتقدا غير قابل للنقاش بالنسبة للدبلوماسية الامريكية، التي رفضت دائما القيام بأي عملية تقييم نقدية حول هذه المعتقدات وحتى بالتفكير بتبني اي اقتراحات استراتيجية بديلة و اكثر تواضعا, مما قد وضع حدا لخيارات واشنطن السياسية، و ذلك رغم مطالبة بعض المحللين السياسيين في السنوات الماضية بضرورة القيام بتغييرات في الاستراتيجية السياسية الامريكية الكبرى، و تحولها إلى سياسة ‘الأمتناع عن استخدام القوة العسكرية’ و الانكماش والتخفيف من التزاماتها‘ العالمية و القبول بمبدأ ‘التعددية‘، الا ان النخبة المتنفذة استمرت بتحذير و تخويف صناع القرارو دفعهم لعدم التخلي عن دورهم القيادي التقليدي.
ويوضح الباحث الذي نشر دراسته في عام 2018، ان معظم الرؤساء المتتاليين بعد الحرب العالمية الثانية استمروا بالالتزام باستراتيجية ‘الوضع الراهن’ مع رفض اية محاولات وحتى الحديث عن احتمال التقليل من الالتزامات الامريكية و القبول على حقيقة وجود اقطاب متعددة. و بينما أكد الباحث ان كل الادارات السابقة لم تقوم بالتخلي عن مبدا الاسبقية والقيادة و المباديء المنبثقة عنه، الا أنه اختار حالتان لادارتان امريكيتان مختلفتان ليبرهن فرضيته، و هي حالتان يعتبر انهما بالرغم عن الاختلاف الجوهري بينهما كانتا مهيأتان في أول الامر للابتعاد و التغيير في المبادىء الاساسية للاستراتيجية الامريكية كما وعدا خلال معركتهما الانتخابية ،الا انهما اضطررا فيما بعد التخلي عن وعودهما و العودة بالالتزام بالمباديء التي تعودت عليها السياسة الخارجية الامريكية، و ذلك بسبب ضغوطات النخبة السياسية الامريكية المتنفذة أو ما يسميها بعض المحللين ‘الدولة العميقة’، ومن الغريب انه اختار فترة حكم بيل كلينتون من جهة و فترة حكم دونالد ترامب من جهة اخرى.
والمدهش انه رغم الاختلاف الجوهري بين حكم الرئيسين و انتمائاتهما المختلفان الا ان الباجث رأى انه كان بامكانية كلا من الرئيسين القيام بتغييرات استراتيجية خلال فترة رئاستهماأي فترة حكم كلينتون ما بين عام 1993 و 2001 لانه اعتبر انه كان لامريكا اينذاك القدرة لاختيار استراتيجية بديلة بسبب امكانية استثمارما يسميه‘ ارباح السلام في ’ أما بالنسبة لإدارة ترامب فكانت كل الوعود التي كان يرددها خلال حملته الانتخابية حول ضرورة التغيير عبر شعار ‘ بامريكا أولا’ه لم يتمكن من تنفيذ ها واقعا أيضا بفخ الاستمرارية المفروضة على الاستراتيجية الامريكية بسبب منطق القوة و التعود على منطق التفوق و الاسبقية و بسبب الضغط الممارس علية من قبل ما يسميهم الباحث ‘حراس الباب’ الذين يراقبون و يتدخلون بكل القرارات.
ورغم ضرورة التعمق بفرضيات هذا الباحث، يمكننا التساؤل اليوم ان كانت فترة حكم ترامب التي بدت كفترة شواذ في الاستراتيجية الكبرى للولايات حيث بدى فيها ترامب كأحد ‘رعاة البقر’ الم تؤدي إلى اية تغيرات جذرية، فكيف ستكون التطورات خلال ادارة بايدن التي جاءت مدعية انها ستعود إلى السياسة الامريكية التقليدية عبر شعار ‘امريكا ستعود‘؟
وبالنسبة للوضع في الشرق الأوسط فقد جاء في مقال حديث لمجلة ‘افريك أزي’ الفرنسية بعنوان ‘ بايدن و ترامب وجهان لنفس العملة‘ ليبرهن على استمرارية السياسة الخارجية الامريكية. و يمكننا القول للذين يتوهمون ان ادارة بايدن افضل من ترامب بالنسبة للشرق الاسط ، ان الاختلاف بينهما يبدو مثل الاختلاف بين حزب الليكود و حزب العمال العمال ، فالاثنان ملتزمان بضرورة التوسع و التفوق الاسرائيلي على شعوب المنطقة، مثلما يلتزم الحزبان الامريكيان بأمن الكيان الصهيوني و بتفوق الولايات المتحدة على العالم.
كما ان شعاربايدن ‘بعودة امريكا’ يبدو وهما و سرابا مبنيا على رؤية بالية و فائتة لا تأخذ بعين الاعتبار التغيرات السياسية على الصعيد العالمي و بروز اقطاب أخرى ، مما يعني ان اصتدام تلك الرؤية الفوقية بالواقع قد تؤدي بالإدارة الجديدة الدخول في مغامرات انتحارية غير واقعية في مواجهة ايران و روسيا و الصين ، مما سيفشل محاولته بالظهور كالمنقذ الجديد للبشرية عبر الادعاء بالدفاع عن حقوق الانسان و نشر الديمقراطية وهي افكار بالية و نفس الافكار التي كانت تتحدث عنها ادارة اوباما وحتى قبلها ادارة كارتر و واللتان لم تنفذا أي من وعودها، بل على عكس ذلك عملت على مزيد من التدخلات و من إثارة الفوضى في الشرق الاوسط وعبر العالم .
كاتبة فلسطينية
(سيرياهوم نيوز-راي اليوم ٧-٣-٢٠٢١)