آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » أيّ صورة ومكانة للموت في أدب تشيخوف؟

أيّ صورة ومكانة للموت في أدب تشيخوف؟

 

أحمد الفخراني

 

 

يحتل الموت مكانة محورية في أدب الروسي أنطون تشيخوف (1860 – 1904)، ليس كخاتمة مأساوية للحياة، بل كجزء من التجربة الوجودية.

 

بالنسبة لتشيخوف، يمثل الموت مرآة تعكس هشاشة الإنسان وقوة حياته، وحافزاً للعيش بعمق. هذا الفهم لم يأتِ من فراغ؛ فقد تشكّل عبر مواجهته اليومية للموت كطبيب، ووعيه بمرضه الشخصي (السّل) الذي كان يهدد حياته باستمرار، وانعكس ذلك في قصصه ورسائله التي لا تزال تُلهم القراء والكتّاب حتى يومنا هذا.

 

في هذا المقال، سنستعرض فلسفة تشيخوف عن الموت من خلال أعماله الأدبية ورسائله، مع تحليل لعلاقته بالفناء مقارنة بأدباء آخرين، وكيف أثرت رؤيته على الأدب الحديث.

 

الموت كتجربة وجودية يومية

بوصفه طبيباً، واجه تشيخوف الموت يومياً. حيث اعتاد التعامل مع المرضى الذين يعيشون على هامش المجتمع. هذا الاحتكاك المباشر جعله يرى الموت كحقيقة بسيطة وغير قابلة للتجنب. في إحدى رسائله، كتب: “رؤية الموت ليست مأساة، بل تذكير دائم بضرورة العيش بصدق”.

هذه الرؤية تظهر في قصص مثل “الأسقف”، حيث يصور اللحظات الأخيرة لأسقف يحتضر، محاطاً بذكرياته وعلاقاته الإنسانية، مما يعكس فهم تشيخوف للموت كفرصة للتأمل ومراجعة الذات.

 

ويلاحظ أيضاً أن تشيخوف لم يحاول تحويل الموت إلى حدث درامي أو عاطفي مفرط. على العكس، كان الموت في أدبه جزءاً من التدفق الطبيعي للحياة اليومية. في قصة “السهوب”، الطبيعة نفسها تشارك في التعبير عن رحلة الإنسان نحو الفناء، حيث تصبح المشاهد الطبيعية انعكاساً لحالة البطل النفسية أثناء مواجهته للمجهول. هنا يتضح كيف أن الموت ليس فقط نهاية، بل نقطة عبور نحو فهم أعمق للحياة.

 

السخرية والطبيعة والموت كعناصر متشابكة

برع أنطون تشيخوف في استخدام السخرية للتخفيف من وطأة العبثية التي تصاحب فكرة الموت. في قصة “موت موظف”، تتحول حادثة عطس تافهة إلى مأساة كوميدية عندما يموت الموظف تشيرفياكوف بسبب شعوره بالعار المفرط.

 

هذه القصة تعكس فلسفة تشيخوف في تناول الموت بشكل غير مباشر، حيث يُظهر كيف يمكن لضغوط المجتمع والتقاليد أن تستهلك الإنسان حتى النهاية. السخرية هنا ليست فقط وسيلة للترفيه، بل أداة فلسفية لتسليط الضوء على هشاشة الإنسان في مواجهة الفناء.

 

هذا النهج الساخر يتقاطع مع فلسفة كتّاب آخرين مثل تولستوي ودوستويفسكي، لكن بينما كان الأول ينظر إلى الموت كجزء من معركة روحية، كان الأخير يصوره كجزء من صراع داخلي وجودي. أما تشيخوف، فقد قدم رؤية أكثر بساطة وأقرب إلى الحياة اليومية، مما جعل الموت يبدو مألوفاً وغير مرعب.

 

ونظر تشيخوف إلى الطبيعة كمكوّن أساسي لفهم الموت. في قصصه، عكست الطبيعة التحولات الداخلية لشخصياته، حيث تصبح دورة الحياة الطبيعية (الولادة، النمو، الموت) جزءاً من سرد أوسع عن الفناء. ويقول في رسالة كتبها إن: “الطبيعة صامتة، لكنها تُظهر الحقيقة التي غالباً ما نتجنبها”.

 

هذا الارتباط يظهر بوضوح في قصة “الراهب الأسود”، حيث تتداخل أوهام البطل مع مناظر الطبيعة المحيطة به، ما يعكس حالة نفسية معقدة ومشحونة بفكرة الفناء.

 

كما أن الطبيعة في أعمال تشيخوف ليست مكاناً للأحداث فحسب، بل عنصراً حياً يشارك في توجيه القصة. مقارنة بتولستوي، الذي صور الطبيعة كرمز للتجدد الروحي، نجد أن تشيخوف يركز على الطبيعة كواقع بسيط وجزء من دورة الحياة التي لا تنفصل عن الموت.

 

وعلى الرغم من وعيه العميق بالموت، لم يكن تشيخوف يراه نهاية بقدر ما كان فرصة للعيش بصدق. في رسالة كتبها خلال إحدى رحلاته للتعافي من مرض السل، يقول: “مع الموت، ستكون أنت الرابح الأكبر، فلا حاجة للقلق ولا للركض خلف الأشياء التي تبدو ضرورية”. هذه الفكرة تظهر بوضوح في نهايات قصصه التي غالباً ما تترك القارئ أمام أسئلة وجودية مفتوحة. على سبيل المثال، في قصة “Kashtanka”، التي تحكي عن كلب ضائع يجد نفسه في بيئة جديدة، يستخدم تشيخوف الفقد كرمز للحياة المستمرة والتجدد.

 

نجح هذا النهج في التأثير في العديد من الأعمال في الأدب الحديث، حيث أصبح الموت يُستخدم كعنصر يدعو للتأمل في الحياة بدلاً من كونه نهاية مأساوية، وهذا ما نعثر عليه لدى العديد من الكتّاب في القرن العشرين، مثل ألبير كامو.

 

المرض والموت في حياة تشيخوف الشخصية

شكلت تجربة المرض الشخصي لتشيخوف تحول في رؤيته للموت. إصابته بمرض السّلّ وهو في الــ 24 من عمره، جعلته يدرك هشاشة جسده وزوال حياته المحتمل في أي لحظة. هذا الوعي انعكس في قصص مثل “المبارزة”، حيث تتصارع الشخصيات مع فكرة الهلاك الشخصي والعلاقات التي تربطهم بالآخرين.

 

ويقول تشيخوف في إحدى رسائله إن:”الموت ليس عدواً يجب أن نخشاه، بل رفيق يدعونا للتفكير في ما حققناه”. ورغم ذلك، لم يدع تشيخوف المرض يعيقه عن الإنتاج الأدبي أو ممارسة مهنته كطبيب. هذا التحدي الدائم للفناء جعله يطور فهماً أكثر شمولية للحياة، حيث لا قيمة للموت إلا بقدر ما يجعلنا نقدّر اللحظات التي نعيشها.

 

هكذا تركز قصص تشيخوف على تصوير الموت كجزء من التجربة اليومية، من دون تهويل أو مبالغة. في قصص مثل “حبوبة”، تتعامل الشخصيات مع الفقد كجزء من الحياة، حيث تصبح المشاعر المختلطة بين الحزن والاستمرار في العيش جزءاً من النسيج السردي. هذا التصوير الواقعي يجعل القارئ يشعر بالقرب من الشخصيات، وكأنها جزء من حياته الخاصة.

 

في نهاية المطاف، يظهر الموت في أدب تشيخوف كجزء من فلسفة أوسع تتعلق بالوجود الإنساني. الحياة بالنسبة له ليست عن الإنجازات الكبرى، بل عن التفاصيل اليومية التي تشكل كياننا. هذا المزيج من الجمال والحزن يجعل أدب تشيخوف دعوة لفهم الموت كجزء من دورة أبدية، حيث الحياة والموت يكملان بعضهما.

 

في المحصلة، لم تكن فلسفة تشيخوف حول الموت مجرد تأمل في النهاية، بل دعوة لفهم الحياة بشكل أعمق. من خلال قصصه ورسائله، يقدم رؤية تتجاوز ثنائية الحياة والموت، فيصبح الفناء جزءاً من الجمال الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش. أدب تشيخوف في النهاية شهادة على قدرة الإنسان على إيجاد المعنى وسط الفناء، ورؤية الجمال في أحلك اللحظات.

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١ الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أسعد فضة مكرماً في الشارقة

    كرم حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي الفنان القدير أسعد فضة ضمن حفل إطلاق مهرجان أيام الشارقة المسرحية بدورته الـ34، المقام في ...