نزار نمر
تغيّر ملحوظ يمكن استشفافه على الإعلام اللبناني المهيمن كما العربي، وعلى الأرجح أنّ الأوّل حذا حذو الثاني. تسود في الآونة الأخيرة سردية مختلفة حول فلسطين، أو على الأقلّ اختلاف في موازين الانحياز بين فلسطين وكيان الاحتلال، وتعتيم أقلّ على معاناة الفلسطينيّين.
ويُرفق هذا التوجّه غالباً بهامش أوسع في انتقاد السياسات الأميركية، ولا سيّما بشخص الرئيس دونالد ترامب، الذي دائماً ما استسهلت وسائل الإعلام حصر العربدة الأميركية بشخصه.
السؤال الأوّل الذي قد يخطر في بال مراقب لهذا الجزر، ولو أنّه ليس بمئة وثمانين درجة، هو: لماذا الآن؟ لكن مَن يراقب عن كثب، سيخطر في باله الجواب تلقائيّاً: لأنّ الإعلام المهيمن في دولنا العربية يعكس توجّه الأنظمة، وهذا التحوّل في الموقف هو نتاج هذه الأنظمة.
وبما أنّ القلق يؤرّق حكّام الدول العربية، وبالأخصّ السعودية ومصر والأردن التي شملها ترامب بخطّته للقضاء على القضية الفلسطينية، استدار هؤلاء فجأة لهذه القضية، إذ إنّ تأثيراتها باتت تمسّهم.
عوّلوا لسنين على أنّ مواقفهم «المحايدة» واكتفاءهم بالمساعدات العينية والبيانات اللفظية التي تدعو من أجل «حلّ الدولتَين»، معطوفة على تلبيتهم كلّ مطالب المتنمّر الأميركي التي لا تنضب، ستبقيهم في دائرة الأمان. وهم من أجل ذلك أنفقوا ما فتح ورزق على إعلامهم حتّى يلعب دوراً لم يقدر حتّى الإعلام الأميركي على لعبه، والتحريض على أيّ مقاومة من الفلسطينيّين وأيّ حكومة أو جماعة تقرّر دعمهم في ذلك. وصلوا إلى حدّ تبرير مختلف الحروب الأميركية على شعوب المنطقة، إلى جانب مشاركتهم ببعضها، قبل أن يتفوّقوا على أنفسهم في تبرير حتّى الإبادة الجماعية على يد كيان الاحتلال.
نجحت لعبة الميديا القذرة، وأحدثت شرخاً وفتنة بين الشعوب العربية، لكنّ نتائجها لم تأتِ كما كان يشتهي معدّوها ويعوّلون على هذا الشرخ. تغيّرت موازين القوى بغير ما توقّعوا، وباتوا يدركون متأخّرين أنّ عدوّ الأمس الذين اتّفقوا وأنفقوا ونافقوا في شأنه ظناً بحماية أنفسهم وأنظمتهم، إنّما هو ذاته مَن حماهم!
هو الذي لم يوفّروا برنامجاً أو نشرة أخبار أو دورة تدريبية أو حتّى مسلسلات و«بودكاستات» لغسل العقول العربية وتحريضها عليه، باتوا اليوم يصدّقون ما كان يحذّر منه ويعمل جاهداً ويضحّي لمنعه، لكن بعد فوات الأوان وتكبيل أيديهم!
لاحظوا أنّ القضاء على مقاومة الفلسطينيّين واللبنانيّين والسوريّين والعراقيّين واليمنيّين للاحتلال، ستفتح شهية «إسرائيل» لاحتلال المزيد من الأراضي العربية، ولا يهمّ مهما وقّعوا من اتّفاقات معها وقدّموا من اعتمادات لراعيها بلطجي العالم، فدولهم تحت التهديد أيضاً. والأهمّ، أدركوا أنّ غزّة والضفّة الغربية وجنوب لبنان والجنوب السوري وحتّى اليمن، شكّلت مع أهاليها درع الحماية لدولهم وأنظمتهم، فيما كان إعلامهم منشغلاً بالتكالب والتحريض على أولئك الأهالي.
بالطبع، قد لا يعترف هؤلاء الحكّام بأخطائهم في العلن، وسيستعجلون لتدارك أنفسهم بالتي هي أحسن، واستيعاب الموقف ولو عنى ذلك التراجع عن مواقف كانوا من أشدّ المتشبّثين بها، ففي يوم القيامة تتبدّل الأولويّات. هذا ما يفسّر التقارب بينهم وبين أطراف لم يستسيغوها يوماً، بل إنّ بعضها عدوّ الأمس، وليس بالضرورة على هذه الأطراف أن تكون كلّها من الخلفية ذاتها.
من هنا، ينقشع الغبار أكثر فأكثر عن استعادة الاهتمام بـ«القضية الفلسطينية»، وصولاً إلى الدعوة إلى جلسة «طارئة» للجامعة العربية. كلّ هذا سينعكس إعلاميّاً، وعندما يحدث في مدة قياسية فإنّ تبدّل المواقف سيكون أكثر وعورةً وبالتالي نفوراً.
كما تشكّل وسائل الإعلام العربية المهيمنة مرآةً لمواقف حكوماتها وبواطنها، يمكن للأسف الربط بالطريقة ذاتها بين تلك الوسائل ونظيراتها اللبنانية. وعندما نتكلّم عن الإعلام المهيمن في لبنان، فنحن لا نعني فقط بضع قنوات تلفزيونية، بل أيضاً إذاعات وصحفاً ومواقع إلكترونية وصفحات افتراضية «مستقلّة»، كثير منها وجوده ذاته مرتبط بهذا الارتهان.
فمن دون التمويل الذي تحصل هذه المؤسّسات عليه مقابل تردادها بروباغندا خارجية وبخّ سموم لا تخدم سوى أعداء لبنان وأجنداتهم، لا يمكنها الاستمرار يوماً، وهناك أمثلة كثيرة من واقعنا الإعلامي التعيس الذي أودى بمؤسّسات إلى الإغلاق. بل إنّ الكثير من هذه الوسائل الإعلامية اليوم نبت في الأمس القريب بدعم أطراف خارجية خصّيصاً من أجل خدمة أهدافها. وتأثير هذه أكبر بكثير ممّا يُظنّ، فهي تصل حتّى إلى مَن «لا يهتمّون بالسياسة»، بل إنّها تستهدفهم بشكل خاصّ!
صحيح أنّ انتقاد كيان الاحتلال وتأييد القضية الفلسطينية أكثر قبولاً إعلاميّاً في لبنان من بعض الدول العربية الأخرى. غير أنّ دور الوسائل الإعلامية في ما يتعلّق بمقاومة الاحتلال هو ما يُقام له الوزن، وهي بغالبيّتها تبرّر للاحتلال جرائمه بحقّ لبنانيّين، حتّى أصبح ذلك لسان حال شريحة كبيرة من اللبنانيّين عن مواطنيهم. ورغم ذلك، يمكن ملاحظة الانعطافة العربية بين سطور موادّها، حتّى يخال للمرء أنّها ليست سوى آلة نسخ لإعلام مموّليها. فعسى أن تتّعظ مع اتّعاظ مموّليها قبل أن يغرق القارب بنا جميعاً!
أخبار سوريا الوطن١_الأخبار