مالك صقور
” السروةُ انكسرتْ ” ، واحدة من قصائد محمود درويش الرائعة . وقد مرّت دون أن تُلفت انتباه قراء الشاعر وجمهوره ، وربما النقّاد أيضاً .
ذلك أن القارئ العربي قد اعتاد على شعر محمود درويش المقاوم ، مذ بدأ الشاعر ينشر قصائده الأولى، مروراً بمرحلة نضجه الفني والفكري والسياسي ،وحتى رحيله الأخير ، والتحاقه بالرفيق الأعلى .
نعم .. لقد عودّنا محمود درويش على أشعاره الثورية والوطنية المقاومِة والأنسانية والسياسية أيضاً. قبل مرحلة ” سجل أنا عربي ” وبعدها ، مثل : أحمد الزعتر ، بيروت خيمتنا الأخيرة ،مديح الظل العالي ،عابرون ، لا تعتذر عما فعلت ، ومئات القصائد الأخرى .
لهذا ربما لم ينتبه القارئ والناقد إلى هذه القصيدة الوجدانية بموضوعها الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطاً وعادياً، وبمضمونها الذي هو عبارة عن لوحة مرسومة بالكلمات ..
“السروة انكسرت ” – قصيدة – لوحة : من خلالها يرصد الشاعر ردّ فعل الآخر، والأصح القول : رأي الآخر ، وكيف تمّ النظر إلى هذه اللوحة ، كل من موقعه ، وكل من رأى المشهد .
قلت : الموضوع بسيط ، والفكرة واضحة ، والمشهد ( الواقعة ) واقعة ( انكسار الشجرة – شجرة السرو ) تكررت كثيراً، وتتكرر دائما ً ، ولهذا يبدوالمشهد عادياً .. فماذا يعني أ ن شجرة سرو قد انكسرت ، وهناك آلاف لا بل الملايين من أشجار السرو التي تقتلع أو تُكسر ؟ّ!! لكن في هذه القصيدة ، للسروة معنى آخر .. فثمة شجرة سرو باسقة ، هوت منكسرة ، فديست وتحولت أغصانها دريساً ناعماً ، ومن ثم تطاير غباراً هباءً في النهاية ، كأن شيئاً لم يكن .
القصيدة مقطوعة موسيقية بنغمة واحدة ، سكبها الشاعر دفعة ًواحدة ، دون أن يقسمها إلى مقاطع ، راسماً بالكلمات هذه اللوحة .
وبما أني رأيت في هذه القصيدة لوحة كاملة ، ففي رأيي ، يمكن تقسيم هذه اللوحة إلى أربعة أقسام ، أو أربعة مشاهد:
المشهد الأول :
” السروة انكسرت كمئذنةٍ ، ونامت
في الطريق على تقُشف ظلِّها خضراءَ
داكنًة كما هي . لم يُصَبْ أحدٌ بسوء ”
يخبرنا الشاعر بهذا الاستهلال ، أن شجرة السرو الشاهقة الباسقة كمئذنة ، قد هوت منكسرة ً ، وتمددت في الطريق ، لا يقول ( ماتت)، بل يقول : (نامت) .. ففعل الموت يعقبه الدفن . والنوم يمكن أن يكون في أي مكان، ولكن ليس على الطريق ، وفي المثل : إن الأشجار تموت واقفة . هنا ، اختار الشاعر (نامت )في الطريق . ويفهم من قوله أنها أصبحت تعيق المرور ، ويفهم أيضاً ، أن الطريق غير معبدة فهي إذن طريق وعرة ، هذا تفسره كلمة ( تقشف )، لأنه أراد أن يؤنسن الفعل ، فقال : ( نامت على تقشف ظلها ) ، كي يُظهر المطرح الذي استلقت فيه السروة ، على ظلها الفقير ، فنومها إذن ، لم يكن على فراش وثير ، ولا حتى على الحصير ، ومع ذلك حافظت على لونها الأخضر القاتم الداكن . والأهم ، أنه لم يصب أحدٌ بسوء . جراء انكسار السروة .. ويتابع الشاعر القول والرسم :
المشهد الثاني :
” مرّت العرباتُ مسرعةً على أغصانها
هبّ الغبارُ على الزجاج …السروة انكسرت
لكن الحمامة لم تغير عُشًها العلنيّ في دارٍ
مجاورةٍ ، وحلّق طائران مهاجران على
كفاف مكانها ، وتبادلا بعض الرموز
لم يأبه أحد لانكسار السروة ، بل لم يحترم أحد حرمة الطريق ، ولم يكترث أحد (بنوم) الشجرة عليه . فعبرتها العربات مسرعة ؛ وبقوله مسرعة يؤكد اللامبالاة بالسروة والطريق معاً .فدُعست أغصانها ، حتى أصبحت دريساً ناعما ً ، وتحول إلى غبار غطى زجاج النوافذ ، وهنا ، يفهم من قوله : ( هب الغبار على الزجاج ) ، إذن الشجرة – السروة ، ليست في حقل بعيد ، ما دام ثمة أبنية ونوافذ . هنا ، حدّد الشاعر بقوله ذلك موقع السروة . إن علاقة الطيور بالأشجار علاقة قوية وأبدية ، كما هو معروف ، والطيور تبني أعشاشها على غصون الأشجار ، ومعروف أيضاً ، العلاقة الحميمية بين الطير والغصن . مثلاً : ( حلْفتك بالغصن ياعصفور )، لكن انكسار الشجرة – السروة ، لم يكلف الحمامة عناء ، سوى أنها انتقلت إلى عش ٍ آخر ، في دار مجاورة ، ولم يجعل الحمامة ذات الصلة القوية بهذه السروة تكترث ، أو تهتم ، كأن شيئاً لم يكن . وكل مافي الأمر ، فيما بعد ، حلّق طائران مهاجران على ( كفاف) مكانها ، ربما كانا في وقت ما يستريحان على أغصانها ، والآن، فوجئا أنها غيرموجودة ، فتهامسا وكأنهما يتساءلان عنها أو مالذي حدث لها !! وتابعا طيرانهما ، كأن شيئاً لم يكن . وهنا ، لا بد من الانتباه أيضاً إلى كلمة ( كفاف ) ، وهذا تأكيد على فقر المكان وشحه .أولاً : تقشف ، وثانياً : كفاف .
المشهد الثالث :
” وقالت امرأة لجارتها : تُرى شاهدتِ عاصفةً ؟
فقالت : لا . ولا جرافًة .. والسروة انكسرتْ
وقال العابرون على الُحطام
لعلها سئمت ْ من الإهمال أو هرمتْ
من الأيام ، فهي طويلة كزرافة ، وقليلة
المعنى كمكنسة الغبار ، ولا تظلل عاشقين ”
مشهد السروة المنكسرة جعل امرأة تتساءل عن سبب انكسار السروة . وهذا يبدو أنها تسكن في مكان قريب من الشجرة ، وهي لم تلحظ أو تسمع هبوب عاصفة قوية سببت بانكسار السروة ، ويأتي تأكيد الجارة ، أنه لم تكن عاصفة ، ولم ترَ جرافة !! لكن السروة انكسرت .. إذن ، لابد من سرٍ ، من لغز ٍ قد سبب بانكسار السروة!! هذا رأي الجارات . فلنرَ رأي العابرين : واحد من ا لعابرين علل انكسار السروة قائلاً : ربما سئمتْ من الأهمال .. أي ، أهمل أصحابها شأنها ، والإهمال االمتعمد سبب لها السأم فلم تتحمل . ويقول آخر بلا مبالاة ، معللاً أنها ببساطة هرمتْ ، والهرم نهايته الموت . ويقول ثالث واصفاً السروة إنها طويلة كزرافة ، ولا نفع ولافائدة من هذا الطول . ويقول رابع : إنها قليلة المعنى ،فهي كمكنسة الغبار .. فطبيعة شجر السرو ، أنه يجمع غباراً كثيفاً ، ولذلك فهي كمكنسة كبيرة !! ولا تظلل عاشقين . وفي رأيه أن شجرة لا تظلل عاشقين ، لا نفع منها وفيها .
المشهد الرابع :
” وقال طفل : كنت أرسمها بلا خطأ
فإن قوامها سهل ، وقالت طفلة :
إن السماء ناقصةٌ لأن السروة انكسرت
وقال فتى : ولكن السماء اليوم كاملة
لأن السروة انكسرت . وقلت أنا لنفسي :
لا غموضَ ولا وضَوَح ، السروة انكسرتْ.
وهذا كُلُّ مافي الأمر : إنَّ السروة انكسرتْ !
بالنسبة لطفل ، فإن السروة تعني له ، فيما تعني ، أنه كان يرسمها تماما كما هي موجودة في الطبيعة ، فشكل السروة يغري الأطفال بتعلم الرسم ، ولهذا فإن الطفل يفتخر بأنه يرسمها بلا خطأ . وهذا الطفل شأنه شأن كل الأطفال الذين يبدؤون بتعلم الرسم ، وأول ما يبدؤون بالتمرين على الرسم ، يرسمون شجرة سرو ، لأن شكلها وقوامها يساعدان الأطفال على رسمها .والآن ، قوله أنه كان يرسمها بلا خطأ لايخلو من حسرة .
أما الطفلة ، فلها رأي آخر ، فقد رأت المشهد ناقصاً . لأنها اعتادت أن ترى السروة دائماً ، والسروة هي من ضمن المشهد في الطبيعة المجاورة ، والسروة كانت جزءاً من السماء ، ولآن لا تراها . لذلك ، من وجهة نظرها : ( إن السماء ناقصة ) من غير السروة .
لكن فتى آخر ، يرى العكس تماماً . فبما أن السروة باتت غير موجودة ، فمن وجهة نظره ( السماء اليوم كاملة ) ، لأن السروة ليس لها وجود ، لأنها كانت تحجب أو تسد رؤية السماء ، أو جزءاً منها ، وعندما أُزيحت السروة ، اكتملت رؤية السماء . وتأتي الخاتمة بعد كل ما قيل ، يأتي دور الراوي أو الشاهد على الواقعة ، ليقول : ” وقلت أنا لنفسي : لا غموض ولا وضوح .. السروة انكسرت . وهذا كل مافي الأمر : إن السروة انكسرتْ .
بالنسبة للراوي ، المسألة واضحة ، علام الالتباس بين الوضوح والغموض ، وكأنه يقول : لماذا الاختلاف والخلاف ، وعلام التحليل والتعليل ، والشرح والتفسير ، وكل يدلي بوجهة نظره .. قولوا ماشئتم ، اشرحوا ، فسروا ، عللوا ، رمزّوا ، أولّوا .. إن الأمر المهم هو : السروة انكسرت .
وأخيراً : بعيداً عن التفسير أو الشرح أو التأويل الذي يحمّل القصيدة أكثر مما تتحمل ، وعلى الرغم ، مما يختم الشاعر به قصيدته – اللوحة ، فإن البساطة والرشاقة ، ووضوح المعنى يحمل عمقاً آسراُ . لا سيما ، عندما يعيد القارئ قراءة القصيدة أكثر من مرة . وفي يقيني ، وكما فهمت أن السروة ليست أي سروة ، بمعنى ، أنها ليست شجرة سرو عادية ، في بستان ما ، أو في حقل ما بعيد . فما أكثر شجر السرو في كل مكان . لكن ( أل التعريف ) تجعل القارئ يبحث عن أية سروة يتحدث الشاعر . وأي سروة هي التي انكسرت . وماذا يقصد؟ وفي ظني ، لكل قارئ سروة ..
السروة انكسرت ، أظن أنها سروة معروفة .. معروفة من قبل الجميع . وربما ، على الأقل ، معروفة في المحيط الذي يعيش فيه الشاعر . وربما ، يعيش فيه القارئ أيضاً . ولهذا ، تدخل ( لام العهدية ) تشير إلى سروة بذاتها ، بعينها ، أي السروة التي نعرفها جميعاً . ولكن يبقى تعدد القراءات مفتوحاً ، أقصد تحميل ( السروة ) رمزاً ما .
لقد كرر الشاعر : ( السروة انكسرت ) سبع مرات ، من غير العنوان . وهو بهذا التكرار يؤكد أمراً ما بعينه . واللافت أيضاً ، في هذه القصيدة – اللوحة ، هو التشبيه : فالسروة –
– كالمئذنة
– كالزرافة
-كالمكنسة
للمئذنة دلالة ، إن شئنا .. فالمئذنة ، ليست مجرد فن معماري شاهق يمتع الناظرين ويبهج السامعين وحسب. المئذنة – منارة ، ومنها ينطلق الآذان ، ويدعو الناس للصلاة ، وتلقى من عليها الأوراد إيضاً . وفي الوقت نفسه ، لانكسار المئذنة دلالته أيضاً . يفهمها كل قارئ كما يشاء . أما عند ا لآخر فهي : كالزرافه، و للزرافة معنى آخر ، ودلالة أخرى .
الزرافة – حيوان ضخم ، من ذوات الظلف ، وهي قصيرة الرجلين طويلة اليدين ، وعنقها طويل جداً .. إذن: ما وجه الشبه بين السروة والزرافة ؟ هل الضخامة ، أم الطول ؟؟ أما الثالث يقول ( كمكنسة الغبار ) لامعنى لها، أي بلا فائدة . وكما قلت : إن من طبيعة أشجار السرو ، أن يجمع الغبار بسبب وريقات أغصانه الناعمة والدقيقة.
إذن ، كل واحد منهم شبّه السروة من وجهة نظره ، وفق فهمه ، ومعرفته ، وذوقه وكما يشاء . .
أمر آخر لافت هو أنسنة السروة ، بغض النظر عن التشبيه ، إذا ما لحظنا الكلمات التالية : نامت ، تقششف، كفاف .
أعيد وأكرر : بعيداً عن التأويل ، وتحميل القصيدة أكثر مما تحتمل من الرمز . ولنعتبر أن القصيدة تسجيلٌ واقعي لمشهد حقيقي قد شاهده الشاعر فعلاً وعاينه ، وكان شاهداً عليه ، فسجله بعين شاعرية ، وريشة فنان .. وهذا كل مافي الأمر . وفي النهاية : إن السروة انكسرت .
ولكن : ماذا لو تمّ استبدال (السروة ) ب ( الثورة ) ؟!
أما الآن يمكن القول بثقة : إن الثورة انتصرت .. بفضل أبطال غزة العزة .
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)