آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » ماليء الدنيا وشاغل الناس

ماليء الدنيا وشاغل الناس

الدكتور محمود الطويسي

 

 

ما الذي يجعل شاعرا يملك حضورا مدهشا طوال قرابة 1700 عام، وتملك أشعاره تداولا يفوق تداول اشعار أي شاعر عربي آخر طول مسيرة الشعر العربي؟

ما الذي يجعل هذا الذيوع بالامتداد التاريخي الطويل يبقى على وتيرة التأثير نفسها رغم ما اعترى اللغة من تغيرات، ورغم ما طرأ من تغيرات جوهرية على ثقافة الناس؟

منذ أن وصفه ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة) بماليء الدنيا وشاغل الناس، وهو يملأ الدنيا ويشغل الناس حتى يوما هذا، بكل ما يملك الشعر وتملك اللغة من قدرة على إدهاش الناس.

المتنبي حالة شعرية مدهشة، بلغ من الأثر في عصرنا أن تلبس شعراء كبار وحل فيهم كحلول الجن في الناس، فسيطر على أسلوبهم وألفاظهم وكافة أغراضهم واتجاهاتهم الشعرية، وقد بنى هؤلاء إبداعيتهم وذيوعهم على شديد تشابههم معه، وهم يدركون في وعيهم ولاوعيهم أن لولا ذوبان نصوص وأسلوب وطرائق المتنبي في أشعارهم لما كانوا شعراء على المستوى الذي وصلوا إليه.

لقد شكل المتنبي علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، بفعل عوامل كثيرة ساهمت في تشكيل هذه العلامة وأكاد أجزم أنه لم يبلغ هذه الدرجة من الأهمية النقدية، وهذا الذيوع الكبير، وهذه الشعرية الفريدة لو كانت لغته غير العربية، حيث ساعدته الطاقات التعبيرية الهائلة للغة العربية، وثرائها الكبير بالألفاظ المناسبة لمقتضى كل حال، ودقة تعبيرها عن المشاعر بما يفي بمراد الشاعر، بالإضافة إلى ما تمنحه اللغة العربية للشاعر من رخصة نقدية في تجاوز القوالب والقواعد المتعارف عليها فيما يسمى بالضرورة الشعرية في بناء نموذج شعري له ملامح وهوية نقدية مميزة.

لقد بلغت ابداعية المتنبي أن أحدث إشكالات لغوية كثيرة تتعلق بجوهر اللغة حيث جاء في المرحلة التاريخية التالية لكتابة قواعد اللغة العربية، وصرفها، وبلاغتها، والتي استند النقاد والنحاة فيها آنذاك إلى اللغة العربية في زمانهم بكل ما تحويه اللغة من أشعار وسير ونثر وأساليب تعبيرية، للمرحلة السابقة لعام 150 هجري، ثم خرج عليهم المتنبي بأساليب وألفاظ، وتراكيب لغوبة، وأنظمة تعبيرية خرج الكثير منها عن ما تم تدوينه من نحو وصرف وبلاغة، فأحدث إرباكا وإشكاليات لغوية وأسلوبية حار فيها النحويون لعدم انسجامها مع ما تم تدوينه، بالتوازي مع ابداعيتها الفريدة من الناحية النقدية، لقد فاجأهم بأن اللغة لا تقف عند حد ما تم تدوينه وتقعيده، إنما تحتمل المزيد، ويعتبر ذلك من أعلى مراتب الإبداع حينما لا يقتصر دور الشاعر على التعبير عن المعنى ببناء شكلي مميز فحسب، إنما باستحداث أساليب، ومبان، ونحت ألفاظ جديدة فتكون العملية الإبداعية عملية مركبة، تمارس الإبداع في قالبه الاعتيادي، وتضيف إليه إبداعا في اللغة نفسها، وفي أساليب جديدة لم يتم رصدها آنذاك، وفي مستوى بلاغي جديد وغير معتاد.

لقد ساهمت أيضا قراءة المتنبي للفلسفة اليونانية في توسيع أفقه وانفتاح فكره، ومعارفه الفلسفية حيث كان الشعر يمثل خطابا ثقافيا وسياسيا رفيعا، ويحتاج إلى معان تضارع هذا الدور وترتقي به، وبذلك ساعدت ثقافته في تشكيل نواة شعر الحكمة عنده الذي يعتبر جوهر شعرية المتنبي، وهو الغرض الذي ساهم في استمرار تأثير المتنبي وذيوع أشعاره حتى يومنا هذا.

كما ساهم تعددت الأغراض الشعرية عند المتنبي بين المدح والفخر والوصف والهجاء وغيرها من الأغراض في الارتقاء بتجربته الشعرية إلى مستوى رفيع من الثراء الفني والموضوعي، وكان لغرض الحكمة الدور الكبير في ديمومة تداول أشعاره عبر العصور حتى أصبحت بعض أبياته أمثالا يتم تداولها حتى اليوم.

ومن مظاهر أثر المتنبي في المشهد الثقافي العربي ان لا شاعر عربي كتب حوله وحول أشعاره قدر ما كتب عن المتنبي، حيث يتوفر في المكتبة العربية عشرات الشروح لاشعاره ألفها نقاد وشعراء على امتداد تاريخ الأدب العربي حتى يومنا هذا.

لقد ملأ الدنيا وشغل الناس، ومازال قادرا على ذلك، بوعيه المبكر، وثقافته الموسوعية، وقدرته على تطويع اللغة خارج قواعد التقعيد المألوفة.

ومن المظاهر النقدية التي أبرزت المتنبي على غيره أنه كان هجاءً غير تقليدي، بل كان الهجاء مقرونا بتقييمه للمهجو بحسب رأي تميم البرغوثي الذي قال عنه أنه كان يهجو على قدر احترامه لذهنية المهجو، فإن كان المهجو ذا فكر وعقل مميز وذائقة أدبية، فإنه يرتقي بمستوى الهجاء إلى مستوى شعري رفيع جدا، وإن كان يحتقر المهجو يلجأ إلى شتمه بشكل مباشر .

لقد أعجز المتنبي الشعراء من بعده ولا أدل على ذلك من قولهم: ماذا أبقى لنا المتنبي لنقوله؟!!، في إشارة إلى إحاطة المتنبي بكل ما ينبغي قوله، وبكل الكيفيات المميزة للقول، لذلك قال عنه ابن الأثير  ” المتنبي خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الاطراء ” وهذه المبالغة الدالة على أن لا شعراء بعد المتنبي تعني تقييما نقديا يفسر انشغال الناس به طوال زهاء سبعة عشر قرنا.

ويقول عنه ابن خلدون في مقدمته ” قد سمعت كثيرا من أشياخنا في الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس من شعر العرب في شيئ ” وينطوي هذا القول على أن المتنبي قد فارق المعتاد والمرعي والتقليدي وما اعتادت عليه العرب، ولم يجري على أساليبهم الشعرية، أو هو سابق لعصره الذي كانت قوانين عمود الشعر فيه صارمة إلى هذا الحد.

المتنبي حالة إبداعية فريده، وانشغال الناس بها كل هذا الوقت يعني من جهة أخرى بؤس المشهد الثقافي والإبداعي العربي، فالشعر أحد أهم مكونات هذا المشهد عربيا، وبؤس المشهد وفقره يجعل شاعرا كالمتنبي يستمر في إدهاشه للناس، لأن أحدا لم يتمكن من التفوق عليه، ويستمر في تلبس شعراء محدثين والحلول فيهم حتى يبدو العمود الشعري للمتنبي والمعنى للشاعر المحدث.

 

 

 

 

 

اخبار سورية الوطن 2_وكالات_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سلامة: لبنان ليس جاهزاً للمفاوضات

    قال وزير الثقافة غسان سلامة إن الموفدة الأميركية، أظهرت اهتماماً بالتعرف أكثر إلى لبنان وتاريخه وتعقيدات مشهده الداخلي. وأشار في حديث إلى قناة ...