آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » سيد درويش : أن تكون خادماً للموسيقى العربية

سيد درويش : أن تكون خادماً للموسيقى العربية

علي الأحمد:

هي قضية انتماء والتزام بالهوية الثقافية والتاريخ الإبداعي لهذا الفن، كما هي أيضاً رسالة نزوع نحو التجديد المعرفي الذي يؤكد على خصوصية ومكتسبات وتقاليد هذه الموسيقى، التي أحبها سيد درويش بكل وفاء وإخلاص، وكانت هاجسه ومبعث قلقه الروحي والوجداني على الدوام، وخاصة بعد تلك المرحلة التاربخية التي أحاطت بها إبان الحقبة العثمانية وطقوسها المغلقة، التي أوصدت الأبواب في وجه أي محاولة لخروجها من برجها العاجي نحو شمس الإبداع والتعبير الجمالي المنشود، بعيداً عن التطريب ومآلاته الذي ساد آنذاك لأسباب تاريخية واجتماعية معلومة.
– لكن بالرغم من واقعها الذي كان يأبى الحداثة، وجموديتها ودورانها في فلك هذا التطريب التخديري، عبر الأزمنة، إلا أن سيد درويش هذا المبدع الخلاّق، كان له رأي آخر مغاير، فقد أطلق ثورته الموسيقية الباهرة، في غضون سبع سنوات قصار. لكنها فعلت المعجزات بحق، قلبت المعايير ومجالات التلقي رأساً على عقب، كما وضعت هذه الموسيقى في طريق ومسير الحداثة المعرفية عبر تطوير بنيتها وطرق كتابتها وممارستها، ساعده في ذلك إضافة إلى عبقريته الفذة، ارتحالاته الموسيقية نحو بلاد الشام وغيرها، بما منحه ذخراً إبداعياً جديداً، نجد ذلك في كثير من أعماله المهمة، وظلال هذا التأثير الذي لا تخطئه الأذن والذائقة، بالطبع لن ننسى هنا الدور الكبير الذي قامت به العروض السيمفونية والأوبرات الغربية، التي كانت تقام آنذاك في المدن المصرية وغيرها، بما حفزّ كوامن الإبداع لديه وولّد عنده الرغبة والتحدي في مساره التجديدي الواعد للموسيقى العربية وهو ماعمل عليه عبر هذه السنوات السبع، نجد ذلك في مسرحه الغنائي، الذي قدم عبره، مجموعة من الأعمال المهمة التي كتبت بعض ألحانها بالصيغ الغربية المعهودة، “شهرزاد، والعشرة الطيبة، والباروكة، وفيروز شاه، ولو، راحت عليك، كلها يومين، وغيرها من أعمال كبيرة بكل المقاييس النقدية والجمالية، كما نجد ذلك أيضاً، في تقديمه العديد من الأعمال الموسيقية العربية التي استخدم فيها مقامات لم تكن مطروقة من قبل، كما نرى في بعض أدواره العظيمة،” ياللي قوامك يعجبني، مقام حجاز نكريز، عواطفك دي أشهر من نار، مقام نوى أثر، الحبيب للهجر مايل، مقام راست سازكار، عشقت حسنك، مقام بِسته نكار، في شرع مين، مقام زنجران ، وضيعت مستقبل حياتي، مقام قار جغار” وهو مقام تركي شهير، معروف في موسيقانا العربية باسم بياتي شوري ” وغيرها ” وهذا إن دل فإنه يدل على نبوغه الموسيقي الذي قاده إلى مصافي العظماء في موسيقانا العربية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، كما يرى العديد من الباحثين والنقاد العرب.
– لقد غيّر سيد درويش، مسار ودور هذه الموسيقى ، وأنزلها من مكاناتها وطقوسها المنغلقة، لتتكلم بلغة ونبض الشارع،وحكمة الشعب، هذه اللغة المفقودة والمغيبة منذ مئات السنين، هي موسيقى مغايرة استمدت حضورها وجماليتها، من أفواه البائعين والفلاحين والصنايعين والبنائين والموظفين وغيرهم من طبقات فقيرة ومعدمة، جاءت موسيقاه لتعبر عن همومهم وآمالهم وطموحاتهم المشروعة، وتحملهم إلى غدٍ مشرق، وحياة أكثر من ممكنة،كل هذه الموروثات استوعبها هذا الفنان ورفدت ذائقته وأمدت خياله وموسيقاه بصور وأفكار لحنية غير مسبوقة ليكتب للأجيال موسيقى عربية بديلة وحقيقية من لحم ودم ، أصبحت معه أداة بناء وارتقاء للمتلقي العربي ووسيلة للتعبير الوجداني والروحي ، يملؤها الحب والأمل وحب الحياة، بعد أن كانت وسيلة للإمتاع والخنوع والتذلل والبكائية التي لا تنتهي ، ومن ينظر إلى ألحانه الخالدة التي تنطق كما أسلفنا، بحكمة وروح الشعب يدرك تماماً أهمية الدور الذي لعبه هذا الحداثي المؤسس، ويتأكد بأن “أذنيه” كيف كانت الموسيقى قبله وكيف أضحت بعده، كما يؤكد أنجب تلامذته الموسيقار محمد عبد الوهاب حين يقول :”إذا أردت أن تتأكد مافعله سيد درويش، في الموسيقى العربية، فأنظر إلى كيف كان الملحنون في عصره يلحنون وكيف كان هو يلحن. ولعل الكثيرين ممن افتتن بألحانه الكبيرة، يعتقد للوهلة الأولى أنها ألحان مستقاة من التراث والفولكلور الشعبي كأغنيات ” الحلوه دي، وزروني كل سنة، وشدّ الحزام ياسيد، يانواعم ياتفاح، ويابلح زغلول، وياشادي الألحان وغيرها وهنا مكمن وسر عبقريته التي حيرت الكثير من الباحثين، بالرغم من عدم دراسته هذا الفن دراسة أكاديمية، وإن كان طموحه وآماله في أن يدرسه دراسة علمية وافية، لكن القدر لم يمهله كي يتابع علومه في إيطاليا بشكل معرفي وأكاديمي، ومع ذلك تبقى الموهبة والعبقرية والفطرة السليمة التي جعلت من سيد درويش علامة مضيئة في تاريخ هذا الفن المعاصر، والأهم من كل ذلك روح الانتماء لهويته الثقافية، والتزامه العميق بأصالة وجمال هذا الفن الجميل، الذي ازداد جمالاً وسحراً مع ألحان هذا العبقري الذي كان يوقع أعماله دائماً، بخادم الموسيقى العربية،التي تدين له بالكثير من  دون أدنى شك، نعم كان خادماً وفياً للموسيقى العربية، لكنه بالوقت نفسه كان سيدها ومبدع ألحانها الخالدة التي لن يمحوها الزمن أبداً.

سيرياهوم نيوز 6 – الثورة

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الثقافة واقع ومآلات

    | إسماعيل مروة   كتب باحثون عن تقزّم دور الثقافة، وصدرت كتب عن الآليات التي سعت فيها القوى الفاعلة في العالم إلى ضرب ...