طارق سامي الخوري
أنطون سعاده (1904–1949) هو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وصاحب نظرية القومية الاجتماعية، التي تُعد من أبرز الطروحات الفكرية حول مفهوم الأمة في العالم العربي. لم يكن مفهوم الأمة السورية عند سعاده مجرد تعريف جغرافي أو سياسي، بل كان كيانًا اجتماعيًا تاريخيًا قائمًا على وحدة الأرض والهوية والمصير. رأى سعاده أن الأمة السورية ليست مجموعة طوائف أو عرقيات متفرقة، بل وحدة عضوية نشأت عبر التاريخ في بيئة جغرافية محددة، ما جعلها ذات مصالح مشتركة تستدعي الوحدة الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية.
هذا البحث يناقش مفهوم سعاده للأمة السورية، وأهمية الوحدة التي دعا إليها من زوايا متعددة، وما كان يمكن أن يكون عليه واقعنا اليوم لو تحققت هذه الوحدة.
أولًا: مفهوم الأمة السورية عند أنطون سعاده:
يعرّف سعاده الأمة السورية بأنها الشعب الذي تكون في بيئة «الهلال الخصيب»، الممتد من جبال طوروس شمالًا إلى سيناء والبحر الأحمر جنوبًا، ومن البحر المتوسط غربًا إلى الصحراء العربية وخليج فارس شرقًا. يرى أن هذه الرقعة الجغرافية احتضنت تاريخيًا تفاعلات اجتماعية وثقافية واقتصادية أدت إلى تكوين شعب واحد بمصالح مشتركة وهوية متميزة.
يؤكد سعاده أن القومية ليست مجرد رابطة عرقية أو دينية، بل نتاج بيئة جغرافية تخلق تفاعلًا تاريخيًا بين السكان، مما يؤدي إلى نشوء وعي قومي واحد. وبالتالي، فإن تجزئة هذه البيئة تعني تقويض تطور الأمة وقدرتها على النهضة.
ثانيًا: أهمية الوحدة السورية في نظر سعاده:
يرى سعاده أن تجزئة الأمة السورية قد أضعفتها وجعلتها عرضة للاستعمار والهيمنة الأجنبية، وأن الوحدة كانت شرطًا ضروريًا لاستعادة سيادة الأمة وتحقيق نهضتها. يمكن تحليل أهمية هذه الوحدة من خلال عدة أبعاد:
1 ـ البعد الجغرافي:
ـ الموقع الجغرافي لسوريا الطبيعية جعلها جسرًا بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وهي مركز استراتيجي عالمي.
ـ امتلاكها سواحل طويلة على البحر المتوسط جعلها نقطة محورية في التجارة العالمية عبر التاريخ.
ـ احتواؤها على موارد طبيعية غنية، من الأراضي الزراعية الخصبة في بلاد الشام والعراق إلى الثروات النفطية في سوريا والعراق، يجعلها قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
2 –البعد الاقتصادي:
– وحدة سوريا الطبيعية كانت ستوفر سوقًا اقتصاديًا موحدًا، بدلاً من الأسواق المجزأة التي تعاني من قيود حدودية ورسوم جمركية تحد من نمو التجارة.
– التكامل الاقتصادي بين المناطق الزراعية (كالسهل السوري والعراقي) والمناطق الصناعية (كبيروت ودمشق وحلب) والمناطق النفطية كان سيخلق اقتصادًا قويًا ومستقلًا.
-توحيد الموارد المالية والصناعية كان سيمكن الأمة السورية من تحقيق نمو اقتصادي سريع وقادر على المنافسة عالميًا.
3. البعد السياسي:
– يرى سعاده أن تجزئة سوريا الطبيعية كانت نتيجة مؤامرات استعمارية (اتفاقية سايكس-بيكو مثلًا)، أدت إلى قيام كيانات سياسية ضعيفة يسهل التحكم بها.
-الوحدة السياسية كانت ستمنح الأمة استقلالًا حقيقيًا عن القوى الأجنبية، بدلاً من الاعتماد على الغرب في القرارات السيادية.
-كان يمكن للوحدة أن تخلق نظامًا سياسيًا أكثر استقرارًا، يمنع الحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية التي استنزفت الدول المجزأة.
4. –البعد العسكري:
-دولة موحدة تمتلك جيشًا قويًا كانت ستمنع الاحتلالات الأجنبية والاعتداءات الخارجية، كما حدث مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
-التنسيق العسكري بين جميع المناطق كان سيجعل الأمة السورية قوة عسكرية إقليمية قادرة على حماية مصالحها.
-موارد سوريا الطبيعية كانت ستسمح ببناء جيش متطور يعتمد على التصنيع العسكري الذاتي بدلًا من استيراد الأسلحة من الخارج.
5. البعد التاريخي:
-يرى سعاده أن الأمة السورية ليست كيانًا حديثًا، بل امتداد لحضارات عريقة نشأت في هذه الأرض، مثل الكنعانيين والفينيقيين والآشوريين والبابليين، الذين وحدتهم اللغة والثقافة والتجارة.
-الانقسامات السياسية الحديثة لم تكن انعكاسًا لهوية طبيعية، بل نتيجة لسياسات استعمارية فصلت أجزاء الأمة عن بعضها.
-التاريخ أثبت أن الأمم التي تتوحد تحقق نهضات كبيرة، بينما تلك التي تتجزأ تصبح ضعيفة، وهو ما حدث مع سوريا الطبيعية بعد التقسيم.
ثالثًا: ماذا لو تحققت وحدة الأمة السورية اليوم؟
لو أن رؤية أنطون سعاده تحققت، وكانت الأمة السورية موحدة في زماننا، لكانت النتيجة مختلفة تمامًا عمّا نعيشه اليوم. يمكن تلخيص الفوائد المتوقعة لهذه الوحدة في عدة نقاط:
-اقتصاديًا: كانت سوريا الطبيعية ستصبح واحدة من أقوى الاقتصادات الإقليمية، بفضل الثروات النفطية في العراق وسوريا، والزراعة في بلاد الشام، والموقع الجغرافي المميز.
-سياسيًا: كانت ستشكل قوة إقليمية مستقلة لا تخضع للتدخلات الخارجية كما هو الحال مع الدول المجزأة اليوم.
-عسكريًا: كانت ستملك جيشًا قويًا قادرًا على حماية مصالحها، وربما كانت قادرة على منع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
-اجتماعيًا: كان يمكن تجاوز الصراعات الطائفية والإثنية التي تفاقمت بسبب التجزئة، مما يؤدي إلى مجتمع أكثر استقرارًا وتجانسًا.
-دوليًا: كانت الأمة السورية ستصبح لاعبًا رئيسيًا في السياسة الدولية، مثل تركيا أو إيران، بدلًا من أن تكون مجموعة دول ضعيفة تعتمد على القوى الكبرى.
ختاماً، قدم أنطون سعاده رؤية متكاملة للأمة السورية باعتبارها وحدة تاريخية، وجغرافية وسياسية واقتصادية. اعتبر أن التجزئة مصطنعة ومفروضة من الخارج، وأن الوحدة ليست مجرد حلم، بل ضرورة لنهضة الأمة واستعادة دورها الحضاري.
اليوم، وبعد عقود من التجزئة، نرى صحة ما حذر منه سعاده: دول ضعيفة، صراعات داخلية، فقدان للسيادة الاقتصادية والسياسية، وتدخلات أجنبية متواصلة.
لو كانت الأمة السورية موحدة اليوم، لكانت في موقع مختلف تمامًا، قادرة على حماية نفسها وبناء مستقبل قوي ومستقل لشعبها.
وبذلك، تبقى رؤية سعاده نموذجًا فكريًا يمكن الاستفادة منه في إعادة التفكير في مستقبل المنطقة، والعمل على إيجاد صيغ جديدة للتكامل والوحدة بين الشعوب السورية في مواجهة التحديات المعاصرة.
المصادر:
كتابات أنطون سعاده، خاصة «نشوء الأمم» و«المحاضرات العشر».
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-صباح الخير