د.سومر منير صالح
تندرج مقاربة السؤال التراثيّ ضمن سياق المشروع النهضويّ العربيّ، كيف نتعامل معه وكيف نقرأه؟، حيث ثمّة عدّة رؤىً ومقارباتٍ متباينةٍ حول التعاطيّ مع التراث، من بينها القطيعة المعرفية..، فبخلاف الوضعية التي ذهب إليها أوغست كونت، والتي تعتبر العلم بأنّه مستمرٌ، أثبتت التطورات العلمية مثل نظرية ألبيرت أينشتاين الطبيعة النسبية المتقطعة لتاريخ العلوم، هذا التقطع قاد إلى ظهور مفهوم “القطيعة المعرفية” في الثلث الثانيّ من القرن العشرين في الثقافة الغربية، وانتقل إلى الثقافة العربية عبر المثاقفة الحضارية..، ومفهوم القطيعة الأبستمولوجية صاغه بالأساس غاستون باشلارد عام 1938 وهو (مفهوم يُعبّر في نظره عن فترات الانتقال الكيفيّ في تطور العلوم) ، فبقدر ما تحدث تلك الكيفية بقدر ما تحدث قطيعةٌ إبستمولوجيةٌ في الفكر العلميّ الجديد والفكر السابق، ولا يقتصر الأمر على مجرد إضافة معرفةٍ جديدة، بل على إعادة تنظيم مكانة المعرفة نفسها مع ما سبقها، فالقطيعة تفترض تغيير شروط ما يمكن معرفته مستقبلاً مقارنةً بسلّفه المعرفيّ، هذه القطيعة لها ثلاثة مظاهر، (أولاً تعني قيام فكرٍ علميٍّ أكثر شمولاً، وهيّ تعنيّ ثانياً مراجعةٌ للمفاهيم الأساسية للعلم السابق عليها، وتعنيّ أخيراً قيام فكرٍ علميٍّ أكثر تفتحاً) ، وبالانتقال إلى الأبستمولوجيا فكلمة “أبستمولوجيا” من الناحية اللغوية متكونةٌ من كلمتين يونانيتين “أبستمي” ومعناها علم، والثانية لوغوس وهيّ بمعنى علم أيضاً فهي أذاً معناها اللغوي “علم العلوم” أو “الدراسة النقدية للعلوم”، ولا يختلف المعنى الاصطلاحيّ كثيراً عن المعنى اللغويّ فالأبستمولوجيا هيّ نظريةٌ في المعرفة كانت فيما سبق تختص بالبحث حول أسئلة المعرفة التقليدية حدودها ووسائل إدراكها..، ويرتبط مفهوم القطيعة الأبستمولوجية عند غاستون باشلارد بتصوره لتاريخ العلوم، فهو يطرح (تفسيراً غير ارتقائيٍّ لبيان تطور العلم) ، أيّ أنّ ماضي العلم لا يفسر حاضره، وهو يعارض بهذا طرح نظرية الاستمرارية لتاريخ العلم لإميل ميرسون، والقطيعة الأبستمولوجية بالمفهوم الباشلاري تتم على مستويين: قطيعةٌ بين المعرفة العاميّة والمعرفة العلمية، تنتج تصوراً جديدًا لفلسفة العلوم تتجاوز من خلاله التصور الذي كان سائداً عن المعرفة، فهو يرى أنّ بين المعرفة العلمية والمعرفة الشائعة قطيعةٌ كاملةٌ، فالأولى مبنية على البرهان والموضوعية أمّا الثانية فهيّ ذاتيةٌ وتقليديةٌ، وتأثر به محمد عابد الجابري حين ميّز بين العقل العرفانيّ والبرهانيّ، والمستوى الثانيّ بين الأنساق والنظريات العلمية تضع خلاله حدوداً للأنساق القديمة، وتنطلق نحو أنساقٍ جديدةٍ بقيمٍ معرفيةٍ جديدة، والمستوى الأول هو ما يهمنا في الحالة الثقافية العربية التي تتسم بالتخلف في العلوم الفيزيائية، ولكن دون تحديد طبيعة هذه القطيعة والتي اختلفت باختلاف المرجعية الفلسفية وتراوحت بين ثلاثة مستوياتٍ، بين قطيعةٍ تامةٍ وجذريةٍ مع التراث كما ذهب عبدالله العروي وهيّ قطيعةٌ منهجيةٌ مع العقل التراثيّ، والمستوى الثاني قطيعةٌ أداتيةٍ، كما هيّ عند محمد الجابري دعا فيها إلى قطيعةٍ مع أدوات قراءة التراث التي كانت متبعةً في عصر الانحطاط الثقافي العربيّ، والقطيعة الثالثة هيّ قطيعة مع السّلفية التراثية أيّ القراءة التراثية للتراث وهيّ قطيعة محمد أركون. تأسست القطيعة المعرفية كنهجٍ على يد رينيه ديكارت مؤسس الفلسفة الحداثية والذي أبدع قانون السببية لردّ الظواهر إلى أسبابها بعيداً عن التفسيرات الميتافيزيقية، وتجذّرت مع غاستون باشلارد، وأصبحت فلسفة العلم فكراً نقدياً تحليلياً تاريخياً مستقلاً، فكانت القطيعة المعرفية مع المعارف السابقة سبباً في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الأوربيّ ولاحقاً تجذّير الحداثة على صعيد العلوم، وساهم في انتشار الديكارتية عاملٌ حاسمٌ حينها وهو معاصرتها لحركة الإصلاح الدينيّ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلاديّ، لتشكّل العلمانية (فصل الدينيّ عن السياسيّ) والديكارتية (القطيعة المعرفية مع العصور الوسطى) ولاحقاً الدولة القومية (الهوية الوطنية) جوهر النهضة وتجتمع مع (فلسفة التنوير/نقد العقل) لتشكّل جوهر الحداثة التي تجذّرت مع فلسفة غاستون باشلارد، ولكن مع انتقال هذه التجربة والمقصود هنا تجربة النهضة وليس الحداثة إلى الثقافة العربية عانت من ثلاث إشكاليات أعاقت حركتها، ولكن بدايةً لابدّ من تفصيل لماذا هيّ حركة نهضة وليست حركة حداثةٍ رغم انتماء روادها من العقلانيين العرب إلى فلسفة التنوير(نقد العقل)؟، والجواب يكمن في طريقة التعاطي مع التراث، فعلى شاكلة عصر النهضة الأوربي اتجه رواد النهضة من العقلانيين العرب إلى إحداث قطيعةٍ مع الماضي في فهمنا للتراث لاكتشاف الجوانب العقلانية فيه في نموذجٍ مشابهٍ للحركة النهضوية الأوربية التي بدأت في القطع مع العصور الوسطى وإحياء الفلسفة اليونانية والإغريقية لاكتشاف العقل وأهميته أيّ إحياء التراث اليونانيّ، وليس الاتجاه إلى خلق تراثٍ جديدٍ يصنعه العقل الحاضر وهو جوهر التنوير، وبالعودة إلى الإشكاليات التي أعاقت مرحلة النهضة فالإشكالية الأولى هيّ تعثر حركة الإصلاح الدينيّ التي كانت سلفيّة الطابع إجمالاً أو الأدق الأكثر انتشاراً حينها، ومثالاً عليها سلفية محمد عبده التي تدعو إلى تحرير الفكر من قيد التَّقليد، وفهْمُ الدين على طريقة سلف الأمَّة قبل ظهور الخلاف، والإشكالية الثانية هيّ العلمانية والتي تحولت إلى شبهة إلحاد في الثقافة العربية، والإشكالية الثالثة وهو ضعف العلوم الفيزيائية والتطبيقية، وهنا يتضح جليّاً أنّ المشكلة كانت ولازالت تكمن في سؤال التعامل مع التراث منذ طرحه في بدايات حركة الإصلاح الدينيّ العربية، ولكن مع الحركة الفكرية الجديدة دشن روّاد العقلانية العربية الجابري وأركون والعروي وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد… مرحلةً جديدةً في محاولة عقلنة التراث، وفق مناهج الاجتماعيات والأنثروبولوجيا واللسانيات والأركيولوجيا، وذلك بالاستفادة من التجربة الغربية وعلومها، هذه العقلنة تعني إعادة قراءة التراث بكليّته لاكتشاف الجوانب العقلانية بداخله والاستفادة منها، وتقليص الفجوة المعرفية لمجتمعاتنا العربية مع المجتمعات الغربية عموماً، وانتقل نقد التراث مع الجابري وأركون من نقد مسائل معينة من التراث إلى نقد النظام المعرفيّ الذي أنتج هذه المسائل، وكانت فلسفة القطيعة المعرفية حاضرة عند أغلب روّاد هذه الحركة الجديدة متأثرين جميعاً بفلسفة غاستون باشلارد، واتفقوا على ضرورة القطيعة مع الماضي في التعامل مع التراث وليس القطيعة مع التراث ذاته، سواءٌ بقطيعة الجابري مع أدوات قراءة التراث “التراثية”، أم قطيعة أركون مع الفهم التراثيّ للتراث أم قطيعة العروي مع الوعي المشكّل مع التراث، لتشكّل مفهوم القطيعة المستند إلى العلمانية كنهجٍ أساسَ الانتقال إلى الحداثة، التي لا يمكن تأسيسه إلّا بتحديد علاقة التراث بالحاضر المعرفيّ، وقراءة التراث لا يمكن إنجازها إلاّ بالقراءة النقدية الأبستمولوجية والقراءة الأركيولوجية (المقصود بالقراءة الأركيولوجية هي الحفريات المعرفية كما حددها ميشال فوكو)، وبالحالتين تتطلب نزع القداسة عن فهمنا لهذا التراث- وليس نزع القداسة عن النص-، وبهذا المعنى تصبح العلمانية هيّ منهج الحداثة في التعامل مع التراث، ولكن في الحالة العربية تعقّدت الإشكالية مع اصطدام العلمانية والتراث والمنهجية السّلفية في قراءته، ورغم التحولاتٍ الكبيرةٍ في الخطاب العلمانيّ العربي المعاصر لتلافي الصدام والنفور عبر إعادة تحديد طبيعة العلاقة بين السياسيّ والدينيّ من خطابٍ متصلبٍ مع الفكر الدينيّ إلى خطابٍ يرى أنّ الدين هو حقيقةٌ اجتماعيةٌ لا يمكن إغفالها، مسترشداً بالنموذج العلمانيّ الغربيّ الذي أصبح فيه الدين في الغرب أقلّ سياسةً، وأصبحت العلمانية أكثر دينيةً، ولكن هذا التقارب العلمانيّ مع الدين (كقيمةٍ روحيةٍ) وإن حصل فعلاً فهو لم يلغِ إشكالية العلاقة مع التراث ، فكيفية التعامل العلمانيّ باعتباره نظريةً في المعرفة مع التراث مازالت مساحة جدلٍ فكريّ بين روّاد العلمانية لإنجاز شرط الحداثة اللازم، فهل تُؤسَس الحداثة على قطيعةٍ مع التراث أم قطيعةٍ مع الفهم التراثيّ للتراث؟!ورغم أهمية ما قدّمه روّاد هذه الحركة إلى الثقافة العربية ومشروعيّ النهضة وتجديد العقل العربيّ إلّا أنّها لم تبلغ بعد مرحلة التأثير على الوعيّ الاجتماعيّ، فلاهيّ تحولت إلى حركةٍ مجتمعيةٍ ولا هيّ قاربت التقنية العلمية، فلا يمكن تصور حداثة ٍكمشروعٍ سياسيٍّ إلّا إذا كانت تعبيراً عن سيرورةٍ اجتماعيةٍ علميةٍ اقتصاديةٍ معرفيةٍ تنزع نحو الحداثة…، بالختام التراث هو معنى وجودنا وأساسه الحضاري، ولكن فهمنا للتراث يجب أن يتجدد كلما تجددت الأدوات المعرفية التي تعمق فهمنا للإنسان والكون. *دكتوراه في العلوم السياسية
(سيرياهوم نيوز-صفحة الكاتب19-3-2021)