في الذكرى السنوية الـ77 للنكبة، أعادت حرب الإبادة الجماعية التي تواصل إسرائيل ارتكابها منذ 19 شهرا في قطاع غزة، مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع إلى حالته الأولى، حيث تنعدم مقومات الحياة ويُقحم الفلسطينيون في نمط عيش بدائي قسري في مشهد يقول السكان إنه “أسوأ” من نكبة 1948.
المخيم وهو أكبر المخيمات الثمانية في القطاع عُرف قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بشكله العمراني المكتظ بالمنازل المتلاصقة والمحال التجارية والأحياء والأزقة النابضة بالحياة، تحول اليوم بفعل التدمير الإسرائيلي إلى مساحة واسعة من الخيام المرقعة بالنايلون والقماش، كما كان قبل 77 عاما إبان النكبة.
هذه الخيام تتوسط أكواما هائلة من ركام المنازل والبنى التحتية المدمرة، التي تخفي تحت أنقاضها العشرات من الجثامين الذين قتلتهم إسرائيل خلال الإبادة، وعجز الفلسطينيون عن انتشالها بسبب نقص المعدات والآلات الثقيلة.
بينما يقضي الفلسطينيون جل أوقاتهم في محاولة تأمين قوت يومهم من الطعام والشراب، ويُعد “محظوظا” من ينجح في هذه المهمة التي حولتها إسرائيل بإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات والبضائع منذ 2 مارس/ آذار الماضي، إلى “عملية شاقة وصعبة جدا”.
و”النكبة” مصطلح يطلقه الفلسطينيون على اليوم الذي أُعلن فيه قيام إسرائيل على معظم أراضيهم بتاريخ 15 مايو/ أيار 1948، واستشهد فيها نحو 15 ألف فلسطيني وهجر أكثر من 950 ألفا، ودمرت 531 قرية.
ووفق تقرير حديث لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (رسمي)، فإن إسرائيل قتلت 154 ألف فلسطيني وعربي في فلسطين منذ عام 1948، إضافة إلى تسجيل نحو مليون حالة اعتقال منذ “نكسة” 1967 حين احتلت إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وتحل ذكرى النكبة الـ77 وسط استمرار الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 بدعم مطلق من إسرائيل، وخلفت نحو 173 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.
**المخيم عام 1948
مخيم جباليا تأسس عام 1948 على مساحة 1.4 كيلو متر مربع، لإيواء نحو 35 ألف لاجئ هجروا من منازلهم وأراضيهم التي احتلتها إسرائيل في ذلك العام جنوب فلسطين، حيث أشرفت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” على مختلف الخدمات التي قدمت للسكان منذ إنشائه.
بدأ الفلسطينيون آنذاك حياة داخل خيام مؤقتة من القماش لا تصمد أمام رياح الشتاء ولا تتحمل حر الصيف، كما بقية المخيمات الثمانية في القطاع، ودون وجود أي مقومات إلا أن ظروف الحياة لم تكن أشد وطأة آنذاك حيث لم يعانوا ملامح المجاعة التي يعيشها سكان المخيم حاليا.
وفي أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بدأت “الأونروا” باستبدال الخيام بمساكن مؤقتة من الطوب والحجر وألواح حديدية، وفق ما أفادت به مصادر حقوقية وتاريخية متعددة، بمساحات صغيرة، بينما تم لاحقا توفير الحصص الغذائية والخدمات الصحية للاجئين.
وفي سبعينات القرن الماضي وبالتزامن مع النمو السكاني، بدأ اللاجئون ببناء غرف إضافية داخل الوحدات السكنية، تلاها لاحقا بناء طوابق عمودية دون تخطيط عمراني رسمي، ما تسببت بحالة من التكدس والاكتظاظ، استمرت على ذلك رغم تتالي العقود.
** قبل الإبادة
حتى عام 2023، بلغ عدد سكان المخيم ما يزيد عن 119 ألفا و540 لاجئا مسجلا لدى وكالة الأونروا، وفق ما أورده الموقع الرسمي للوكالة الأممية.
وشهد المخيم حتى ذلك العام، تطورا في بناه التحتية وخدماته العامة كما ضم مرافق عامة مختلفة ومحالا تجارية متعددة.
وأدارت الأونروا في المخيم نحو 26 مدرسة و16 مبنى مدرسيا و3 مراكز صحية تقدم خدمات الرعاية الأولية، ومكتبين يقدمان خدمات اجتماعية للاجئين هناك.
**بعد الإبادة
على مدار 19 شهرا، أعادت الإبادة الإسرائيلية عجلة الزمن إلى 77 عاما إلى الوراء، حيث عادت الخيام لتملأ المساحات التي أصبحت فارغة بعدما دمر الجيش مبانيها، وتلاشت مقومات الحياة الأساسية وتهدمت الطرق المعبدة وتفاقمت الظروف المعيشية الصعبة.
اللاجئ الفلسطيني جبر حسين علي، الذي هجر أجداده من قرية “دير سنيد” شمال شرق غزة، قال للأناضول، إنه ووفق روايات الأجداد لم تمر عليهم ظروف شبيهة بحرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة.
وذكر علي (68 عاما)، أن مخيم جباليا يعيش حاليا “نكبة ثانية” بعد نكبة 1948.
وأوضح أن أجداده لم يمروا عام 1948 بهذا الحجم من “الدمار والتشتيت وتدمير المنازل وقتل الشيوخ والأطفال”.
واستكمل: “لم يبق لنا شيء في المخيم، لا منازل ولا غيره”.
وهو يشير إلى عشرات الخيام المتراصة إلى جانب بعضها، أوضح أن لاجئي المخيم عادوا لبناء هذه الخيام البسيطة كما عام 1948 ليعيشوا فيها بعدما دمر الجيش الإسرائيلي منازلهم التي كانت قائمة في هذه المساحة من المخيم.
وقال إن حياة الخيام تتزامن مع معاناة كبيرة يعيشها الفلسطينيون في تأمين ظروف الحياة الأخرى مثل المأكل والمشرب والحصول على خدمات الصحة والبنى التحتية.
وأشار إلى أن الإبادة الإسرائيلية تسببت بتدمير كل طرق المخيم، قائلا: “لم يعد هناك طرق معبدة، كلها أصبحت مدمرة ورملية”.
** أسوأ من النكبة
أكد اللاجئ الفلسطيني أن ما يحدث في جباليا هي ظروف “أسوأ” من الظروف التي عاشها أجداده خلال النكبة”.
علي قال وهو يشير إلى خيمته المصنوعة من القماش والنايلون، حيث تختلط الرمال مع فراش أبنائه: “لا يوجد في المخيم أي مقومات للحياة، لا منازل ولا باطون (خرسانة) ولا دورات مياه، ولا حتى مساعدات تصلنا”.
وأشار إلى أن اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 كانوا يحصلون على مساعدات تخفف من وطأة الظروف، لكن اليوم يحرم منها فلسطينيو القطاع بشكل يفاقم من صعوبة الحياة.
وقال بهذا الصدد، إن منع إدخال المساعدات استمر لفترة طويلة، ولا تمتلك العائلات أي قدرة على إطعام أطفالهم الذين ينامون جائعين، بعد نفاد الدقيق لديهم وإعلان وكالة الأونروا نفاد الدقيق من مخزونها قبل أسابيع.
وأضاف: “يتم تجويعنا للمرة الثانية منذ الإبادة”.
ومنذ 2 مارس/ آذار الماضي، تغلق إسرائيل المعابر بوجه المساعدات الإنسانية؛ ما أدخل نحو 2.4 مليون فلسطيني بغزة في حالة مجاعة.
** ثبات وتضحيات
وهو يشرح قسوة الظروف، قال علي إنه استيقظ في إحدى الليالي على صراخ أحد أبنائه وإذ به تعرض لعضة جرذٍ تسلل إلى داخل الخيمة.
وأوضح أن القوارض والزواحف تتسلل إلى هذه الخيام الضعيفة، وقد تؤدي عضاتها إلى أوبئة وأمراض كالطاعون وتسبب الوفاة.
إلى جانب ذلك، قال حسن إن الخشب الذي استعمله اللاجئون عام 1948 لإشعال النيران بات شحيح جدا في غزة وغير متوفر، حيث يلجأ الفلسطينيون لاستخدام البدائل كقصاصات الكرتون والورق والنايلون لهذا الغرض.
ورغم “القنابل والخوف والتجويع والحصار والحياة الصعبة بدون أي مقومات”، فإن علي يؤكد أنه لن يترك المخيم ويهاجر منه إلى خارج القطاع، كما تهدف المخططات الإسرائيلية.
وختم قائلا: “رغم الحصار والحياة الصعبة نحن ثابتون في هذه الخيام”.
ومنذ بدء الإبادة الجماعية بغزة طالب وزراء ومسؤولون إسرائيليون بإعادة احتلال قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين منه حيث علت تلك الأصوات مجددا بعد خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي أعلنها في 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، للاستيلاء على القطاع وتهجير الفلسطينيين منه.
وفي مارس الماضي، قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إن بلاده تجري استعدادات “لإنشاء إدارة بوزارة الدفاع لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة”، في خطوة اعتبرها خبراء تأكيدا على خطة مبيتة لفرض التهجير القسري على الفلسطينيين.
** معاناة متزايدة
بدورها، تواصل الفلسطينية “أم كرم” العسكري (55 عاما)، استصلاح جزءا من منزلها المدمر لتعيش به وحيدة بدلا من حياة الخيام.
وتحت سقف متهالك وبين جدران من الركام، تواجه العسكري وطأة الإبادة الإسرائيلية وحيدة بدون معيل أو سند.
وقالت العسكري للأناضول، إن هذا المبنى السكني قبل أن يدمره الجيش الإسرائيلي كان يضم 3 طوابق، تؤويها برفقة أشقائها.
وأوضحت أن الإبادة الإسرائيلية أعادت سكان المخيم عقودا إلى الوراء حيث تغيب أبسط مقومات الحياة من مأوى وطعام ومياه.
ومرارا، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إن النازحين الفلسطينيين يعيشون ظروفا معيشية صعبة داخل خيام أو على أنقاض منازلهم المدمرة، وسط غياب المقومات الأساسية والخدمات الصحية.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم