علي حيدر
مرة أخرى، تعود نغمة التشكيك لتتردّد في أروقة خصوم محور المقاومة، من بوابة أن إيران تتخلّى تدريجياً عن ثوابتها الإستراتيجية في مواجهة أميركا وإسرائيل، وأن الأيام كفيلة بإثبات ذلك. والواقع أن هذه النغمة ليست جديدة، بل تتكرر بإيقاع منتظم مع كلّ جولة مفاوضات نووية، إذ يتمّ الترويج لفكرة أن طهران «باعت» حلفاءها في المنطقة، وهو ما كان حدث في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق عام 2015. وإذا كان مفهوماً أن تتبنّى أطراف مختلفة مواقف سلبية تجاه الجمهورية الإسلامية، فإن الأمر يختلف جذرياً عندما يستند إلى تزوير للحقائق أو الانسياق ببساطة وراء حملات التشويه الممنهجة.
وإزاء ما تقدّم، لم ينتظر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، طويلاً ليضع حداً لمثل تلك التكهنات والرهانات المبنيّة على أسس واهية؛ إذ بلهجة قاطعة، حسم موقفه من القضايا الإقليمية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية ومستقبل الكيان الإسرائيلي، مشدداً على حتمية «استئصال» هذا الأخير. وأتى الموقف المذكور، والذي يمثل أعلى سقف ممكن، ليكرّر الرؤية نفسها التي أطلقها مؤسس الجمهورية، الإمام الخميني الراحل، عندما وصف إسرائيل بأنها «غدة سرطانية يجب استئصالها من الوجود»، في ما يعكس ثبات إيران على شعاراتها وخياراتها الإستراتيجية الكبرى منذ انتصار ثورتها.
كان بإمكان خامنئي أن يؤجل هذا الرد أو أن يتحدث بلغة أقل حدة، تماشياً مع مقتضيات المفاوضات، وسعياً إلى تهيئة أجواء إيجابية تسهم في إنجاحها. لكن توقيت هذه المواقف ومضمونها يحملان دلالات عميقة؛ إذ يكرّسان عملياً تصميم إيران على الفصل التام بين الملف النووي وبين القضايا الأخرى التي تصرّ الولايات المتحدة وإسرائيل على ربطها به، كبرنامج الصواريخ، والنفوذ الإقليمي، والموقف من وجود إسرائيل وأمنها، وحركات المقاومة.
وفي خضمّ المطالبات الأميركية والإسرائيلية المتكرّرة بربط الملفات بعضها ببعض، أعلن خامنئي بوضوح «(أننا) سنواصل تعزيز قوتنا وقوة بلادنا، يوماً بعد يوم»، مجدِّداً رفض إيران المطلق لإخضاع برنامجها الصاروخي للتفاوض، حتى لو كان الثمن هو فشل المحادثات. ذلك أن طهران مصمّمة على مواصلة تطوير قدراتها الصاروخية والعسكرية لمواجهة التهديدات المحتملة والفعلية، وبالتالي تعزيز قدراتها الردعية والدفاعية، في حين يُعدّ كبح هذا المسار من أهمّ المطالب الإسرائيلية، كون الصواريخ الإيرانية تمثل تهديداً مباشراً لأمن الكيان القومي، وأثبتت عبرها إيران قدرتها على ضرب العمق الإسرائيلي، رغم الدعم الغربي والعربي لإسرائيل ومنظومات الدفاع الصاروخي الخاصة بهذه الأخيرة.
لا تزال المفاوضات النووية مفتوحة على عدد من السيناريوات
بناءً على ما تَقدّم، يمكن القول إن مواقف خامنئي الأخيرة تدحض المقولات التي تروّج لضعف إيران إلى حدّ يمكن معه إخضاعها وإجبارها على التخلي عن ثوابتها. كما إنها تفنّد التفسيرات التي تربط تجدّد المفاوضات – التي ليست الأولى من نوعها – باستسلام إيران لمعادلات قوة جديدة نشأت عن التغيرات الأخيرة في المنطقة (الحرب الإسرائيلية وسقوط سوريا). ويكمن خلل هذا التقدير في انطلاقه من رؤية قاصرة تركّز فقط على المتغيرات الإقليمية السلبية ونقاط الضعف الإيرانية الفعلية والمتوهمة، مع تضخيم تأثير بعضها.
والأهم من ذلك، أنها تتجاهل حقيقة عبّر عنها خامنئي بوضوح في كلمته الأخيرة، وهي أنه «لا يمكن مقارنة إيران اليوم بإيران الأمس؛ فقد حققت إيران… رغم أنوف الأعداء، وخلافاً لإرادتهم، تقدماً كبيراً. وسيرى شبابنا في المستقبل… أن هذا البلد سيتقدّم أضعاف ما هو عليه اليوم»، علماً أن لدى الجمهورية الإسلامية إدراكاً دقيقاً لكيفية الموازنة بين محدودية قدراتها وأولوية الحفاظ على أمنها القومي، وبين نقاط قوتها وتصميمها واستعدادها لتقديم التضحيات من أجل قضاياها الكبرى.
وعلى سبيل المقارنة، دمر الأسطول الأميركي، في الحرب الإيرانية – العراقية (1980 – 1988)، منشآت نفطية إيرانية وعدداً من السفن الحربية، إضافة إلى إسقاطه طائرة مدنية إيرانية وعلى متنها نحو 290 شخصاً. وآنذاك، لم تكن لدى الجمهورية الإسلامية القدرات العسكرية والصاروخية التي تمكّنها من الرد بشكل متناسب.
أما اليوم، فلا تزال الولايات المتحدة وإسرائيل تمتنعان عن شن حرب على إيران على برنامجَيها النووي والصاروخي ودعمها لحركات المقاومة، وذلك نتيجة حساباتهما وتقديراتهما للمخاطر والأثمان والجدوى التي يمكن أن تترتب على هكذا سيناريو، من شأنه، في ما لو نجح، أن يغير المعادلات الإقليمية بشكل جذري.
بالنتيجة، تثبت إيران، مرة أخرى، عبر مواقف قيادتها العليا أن خياراتها الإستراتيجية الكبرى عصية على التغيير أو المساومة، وأن رياح المفاوضات مهما اشتدت، لن تهز ثوابتها الراسخة في مواجهة الهيمنة الأميركية ودعم القضية الفلسطينية. أما في ما يتعلّق بالمفاوضات النووية، فهي لا تزال مفتوحة على عدد من السيناريوات، فيما لا يَظهر أن إيران تنتظر منها الكثير، وفقاً لما أوحى به إعلان خامنئي أمس «(أننا) لا نعتقد أن المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن ستفضي إلى نتيجة، ولا نعلم ما سيحدث»، ودعوته الجانب الأميركي إلى أن «يتجنّب التصريحات الفارغة والعبثية»، وتأكيده أن «إيران لا تنتظر إذناً للسماح لها بالتخصيب».
وعلى أيّ حال، فإن أيّ اتفاق مفترض لن يكون سوى محطة في سياق إستراتيجية إدارة الصراع؛ وهذا ما كان سابقاً، من دون إغفال أن هناك في إيران من يسعى إلى ما هو أبعد من ذلك.
أخبار سوريا الوطن١-الاخبار