فراس الشوفي
مجدّدةً الأحقاد التاريخية، والثارات المؤجّلة، اندلعت جولة جديدة من أخطر حروب الإخوة، بين الهنود والباكستانيين، في واحدٍة من أكثر بقاع العالم توتّراً، كشمير. وبينما ينتظر العالم انطفاء حرب الإخوة السلاف، بين روسيا وأكرانيا، اشتعلت نيران الاشتباك الأخير قرب سقف العالم في جبال الهملايا، لتقدّم مؤشرات مقلقة للغاية عن حجم التوتر بين نيودلهي وإسلام آباد، وتعطي صورةً قاتمةً عن حربٍ طاحنة في طور التشكّل في آسيا والمحيط الهادئ.
ولا تحتاج التراكمات التاريخية والنَّزعات القومية والدينية والعرقية والحتميات الجيوسياسية الحاكمة في العالم الهندي، وكشمير تحديداً، إلى الكثير من التحفيز الخارجي لكي تندلع الحرب. لا بل إن عناصر التفجير الذاتية القائمة باتت تتقدّم بكثير على أي أجندة دولية لإشعال صراع في كشمير وصدام بين القوتين النوويّتين. وهو ما كشفته الجولة الأخيرة، حين سارعت الولايات المتحدة إلى تلقّف مبادرة السعودية، لتهدئة خواطر الهنود والباكستانيين وفرض وقف سريع لإطلاق النار، بعد أيام من الاشتباكات الجوية والبرية العنيفة، خصوصاً في ظل الإحراج الهندي من نتائج المواجهة العسكرية، ومحاولة الرئيس دونالد ترامب الوفاء بالتزاماته لناحية تخفيف التوتر العالمي.
وممّا لا شكّ فيه، أن التوتّر الدولي، الأميركي ـ الصيني تحديداً، والأميركي ـ الروسي ـ الأوروبي، والتقارب الأميركي ـ الأوروبي ـ الهندي، كل ذلك يضفي بعداً دولياً على علاقة الهند بباكستان، أوثق حلفاء الصين وأكبر شركائها العسكريين. إلّا أن الاشتباكات التي اندلعت، ولغة التصعيد التي رافقت الاشتباكات بين دلهي وإسلام آباد، تكشفان عن سرعة تحرك الطرفين لرفع مستوى المواجهة، كما تكشفان أيضاً عن تحوّلات سياسية واقتصادية وفكرية في داخل البلدين (في الهند على نحو أكبر تجلّى في محاولة تغيير اسم البلاد إلى «بهارات» وهو الاسم الهندوسي)، تدفع نحو الصدام وصولاً إلى حربٍ تفرض فيها إحدى القوتين إرادتها على الأخرى، في مناطق النزاع بينهما على الأقل.
كان حدث 22 نيسان الماضي، حين شنّ إرهابيون هجوماً على حملة سياحية من السياح الهنود والأجانب في منطقة باهالغام على السفوح الجنوبية الغربية لجبال الهملايا في كشمير الواقعة تحت السيطرة الهندية، سبباً كافياً لتوجّه الهند اتهاماتها إلى المؤسسات الباكستانية بالمسؤولية عن الهجوم؛ على اعتبار أن باكستان لطالما عمدت إلى تقوية جماعات غير نظامية تنشط عسكرياً وأمنياً في الجزء الواقع تحت سيطرة الهند من إقليم كشمير وجامو.
وتدعم طبيعة الهجوم غير المعقّدة، والذي راح ضحيته حوالي 28 قتيلاً وعدد من الجرحى، بعدما شنّ أربعة إلى ستة مسلحين اعتداءً بأقل من دقيقة، مطلقين النار على الضحايا من الأسلحة الرشاشة، رواية باكستان في شأن نفي أي مسؤولية لها عن الحادث، خصوصاً أن الهجمات التي شنّتها في السابق الجماعات المقرّبة منها كـ«جيش محمد» و«عسكر طيبة» كانت أشد تعقيداً بكثير من ناحية التخطيط والعتاد.
ويحاجّ الباكستانيون بأن الإجراءات التي اتخذتها الهند في عام 2019 (رداً على هجوم إرهابي شديد التعقيد شنّته على الأرجح «عسكر طيبة» المحظورة الآن في الباكستان، وأدّى إلى مقتل 46 جندياً هندياً وأعقبه اشتباك جوي بين الهند وباكستان نتيجة التوترات)، ولا سيّما إلغاء الوضع الإداري الخاص للجزء الواقع تحت سيطرتها من كشمير وتجزئته إلى إقليمين، وزيادة الضغوط على السكان، ولّدت حركة اعتراضية كبيرة لدى السكّان لا علاقة لباكستان بها ولا تتحمل مسؤوليتها.
والواقع أن الحركة الاحتجاجية تلك لا تنفكّ تعبّر عن نفسها بصورة سلمية عبر التظاهرات والإضرابات والتحرّكات الشعبية، وكذلك من خلال هجمات إرهابية تستهدف أحياناً مدنيين والقوات الأمنية الهندية، كما حصل في هجمات راجوري في عام 2023. وتبدو «جبهة المقاومة»، وهي تنظيم ناشئ تقول الهند إنه نتاج تنظيم «جيش المجاهدين» التابع لمنظمة «عسكر طيبة»، المظلة الجديدة التي تنضوي تحتها الحركة الاعتراضية الكشميرية، وتتخذ منحىً إعلامياً وطنياً غير إسلامي، في اختلاف كبير عن السياق الجهادي الذي طبع الجماعات الكشميرية المناهضة للهند، وذلك على الرغم من اتهام نيودلهي لهذه الجماعات بشنّ هجمات على الهندوس والسيخ من خلفيات دينية.
ويحاجّ الباكستانيون أيضاً، بأن الهند اتخذت منحىً خطيراً حين قررت اتخاذ سياسات عدوانية والتحضير لتصعيد المواجهة مع باكستان حتى منذ ما قبل قرارات 2019، بل من عام 2014، على خلفيات سياسية وعنصرية، تماشياً مع وصول رئيس الوزراء الهندي الحالي، ناريندرا مودي، إلى الحكم، وهو ما بات يظهر الآن في السلوك الهندي، خصوصاً أن مودي بالنسبة إلى الباكستانيين بدأ التحضير لحملته الانتخابية طمعاً بولاية جديدة ثالثة له.
وسبق لباكستان أن وجّهت اتهامات إلى الهند بشن عمليات أمنية على أراضيها وفي الخارج، وأنها تقوم بدعم جماعات معادية لإسلام آباد، ولا سيّما في بلوشستان، الجزء الغربي من البلاد، حيث وقعت حادثة إرهابية ضد حافلة ركاب باكستانية قبل أيام قليلة. ويوم أمس أيضاً، استهدف تفجير إرهابي حافلة تقلّ أطفالاً في خضدار بلوشستان، أدّت إلى مقتل ثلاثة أطفال وإصابة أكثر من 10، وهو ما اتهمت باكستان جماعات مرتبطة بالهند بالمسؤولية عنه.
وكان سبق لإسلام آباد أن اعتقلت الهندي كولبوشان ياداف في بلوشستان في عام 2016 وحكمت عليه بالإعدام، وهو عسكري رفيع في البحرية الهندية، تقول باكستان إنه خطّط وساهم في تنفيذ عمليات إرهابية في بلوشستان وكراتشي بتكليف من جهاز الاستخبارات الخارجية الهندية.
يفتح ما جرى باب الأسئلة عن مستقبل الصراع المتوقّع بين الصين والغرب في آسيا والمحيط الهادئ
ولعلّ أبرز الخطوات التصعيدية الهندية، كان تعليق العمل باتفاقية توزيع المياه النابعة من كشمير، ولا سيّما نهر السند وروافده التي تغذّي باكستان، في ظل حاجتها الكبيرة إلى المياه العذبة. وبدا القرار الهندي في اليوم التالي لهجوم باهالغام، مفاجئاً لإسلام آباد، خصوصاً أن حرباً خيضت لأجل توقيع معاهدة نهر السند في عام 1960، والآن عادت باكستان لتنظر بعين القلق إلى التهديد الهندي بقطع مصادر المياه العذبة أو التسبب بفيضانات في مناطق شمال باكستان وشرقها، جراء تغييرات متعمّدة في السدود المائية. وربما تكون هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها ورقة المياه في الحرب بين قوتين نوويّتين.
كذلك، فاجأ الهنود الباكستانيين، مع بدء الهجوم العسكري الهندي بعد عشرة أيام على هجوم باهالغام، بتعمّدهم قصف بعض الأهداف المدنية بدقّة، ولا سيّما أفراد من عائلة مسعود أزهر، زعيم جماعة «جيش محمد» الموضوع على قوائم الإرهاب الدولية، ما تسبب بمقتل نساء وأطفال، وتبعه قصف في مناطق خارج كشمير داخل الحدود الباكستانية.
تلك الخطوات الهندية ضد باكستان، والتي لا تتناسب مع طبيعة الاعتداء الإرهابي على الهند، واستعداد الأخيرة للتصعيد من دون رادع، إن دلّا على شيء، فعلى قناعة الحكومة الهندية الحالية بأن نيودلهي يجب أن تتعامل مع نفسها على المسرح الدولي كقوّة عظمى تدخل إلى نادي الكبار من بوابة الحسم العسكري وردع الأعداء، ليس في منطقة النفوذ في آسيا والمحيطين الهندي والهادئ بل على صعيد عالمي، كشريك موثوق ووحيد للغرب بين الدول الشرقية الكبرى.
وتالياً، تكون ردّة الفعل الهندية مدفوعة بدينامية داخلية عنصرية دينية تبحث عن الحسم ضد الأعداء وتجييش المريدين، وبدينامية الطموح الهندي إلى التحول إلى قطب، ثم رغبة الحكومة الحالية في إظهار أهمية الدور والقوة للشريك الغربي، في صراع المحورين الغربي والروسي ـ الصيني.
كما أن خطوات التصعيد الدبلوماسي والعسكري، كشفت أيضاً عن حجم التوتّر والتحضيرات المسبقة لدى الهنود والباكستانيين، وسلّطت الضوء على الحرب الهجينة التي بات يستخدمها الطرفان، بدءاً من الإعلام وحرب المعلومات مروراً بالاستخبارات واستخدام أنظمة التجسس والطائرات المُسيّرة ووسائل الحرب الإلكترونية والسيبرانية، وصولاً إلى الاعتماد الواسع على الصواريخ الدقيقة والطائرات المقاتلة والمُسيّرات الانتحارية، بالتوازي مع تطوير قوات القتال الجبلي.
لكن أبرز خلاصات المناوشات العسكرية، وما فاجأ الهنود ومن خلفهم الكثير من المراقبين والمراهنين، هو النجاح الكبير الذي حقّقته القوات المسلحة الباكستانية أولاً في المعركة الجوية ضد الهنود بين المقاتلات الحربية، وثانياً في معركة الدفاع عن السماء الباكستانية ضد سلاح المُسيّرات، ما دفع بالهند إلى تلقّف المبادرة السعودية والأميركية وإعطاء الرئيس دونالد ترامب ورقة وقف إطلاق النار.
أيضاً، ظهرت براعة الباكستانيين في استعمال الأسلحة، ولا سيّما تمكّنهم من إسقاط 77 مُسيّرة انتحارية من نوع «هاروب» إسرائيلية الصنع – بالأسلحة الرشاشة التي يملكون منها عدداً كبيراً (وهو ما يعيد إلى أسلحة الدفاع الجوي الرشاشة دورها) -، في عزّ تطوّر العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية على نحو غير مسبوق، و«النجومية» التي حققتها الأسلحة الإسرائيلية بالنسبة إلى الغربيين وفي سوق السلاح بسبب العدوان على غزة ولبنان وسوريا واليمن، ما هزّ صورة الأسلحة الإسرائيلية. كذلك، كسبت الأسلحة الصينية جولة سريعة وبالضربة القاضية، ضد أبرز المقاتلات الغربية ولا سيما مقاتلة «رافال» الفرنسية، التي تتمتّع بميزة انخفاض بصمتها الحرارية في مواجهة مقاتلة «جي أف 17» الصينية والمزوّدة بالصواريخ الصينية، علماً أن باكستان باتت تملك خطاً لإنتاج هذه المقاتلات، وقد أنتجت حتى الآن حوالي 150 طائرة منها.
وبدا لافتاً جداً، في هذا السياق، الإعلان الباكستاني والصيني عن تزويد بكين، إسلام آباد، قبل يومين من بدء الردّ الهندي، بصواريخ «بي. أل. 15» جو ـ جو، والتي يصل مداها بالنسخة المعدّة للتصدير، على الأقل إلى 150 كم، وبالنسخة الصينية الأصلية إلى أكثر من 300 كم. وبالنظر إلى أن التسليح الباكستاني بأغلبه صيني، فلا توجد أدلّة كافية على أن الصين لم تسلّم مثل هذه الأنظمة لباكستان من قبل، خصوصاً أن إسلام آباد خاضت مواجهة 2019 بصواريخ «بي. أل. 12»، التي يصل مداها إلى 100 كم.
ولذلك، بدت الخطوة الصينية استعراضية وبمثابة رسالة سياسية لتأكيد القرار الصيني بدعم باكستان، وقدرة هذه الأسلحة على منح الأخيرة قوة ردع أمام «الغول» الهندي، وتفوّقاً على الأسلحة الغربية. ولم تفرض الأسلحة الصينية نفسها ضد «رافاييل» فقط، التي نجح الباكستانيون في إسقاط ثلاث منها، بالإضافة إلى مقاتلتين هنديتين، واحدة فرنسية من طراز «ميراج» وأخرى سوفياتية من طراز «سوخوي 30»، بل سجّلت الأسلحة الصينية تفوّقاً عندما تمكّنت باكستان من استهداف منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة «أس 400»، في الأعماق الهندية.
كل هذه التطورات تفتح باب الأسئلة عن مستقبل الصراع المتوقّع بين الصين والغرب في آسيا والمحيط الهادئ، خصوصاً أن الغرب كان ينظر إلى الهند على أنها عماد مشروعه لمواجهة الصين ومنافسة خطة «حزام وطريق» الصينية بمشروع «الكوريدور» الهندي نحو الخليج ومنه إلى أوروبا. فإذا فشلت الهند في مواجهة باكستان، التي يبيّت لها الغرب حساباً أيضاً منذ اجتياح أفغانستان، وظهر أخيراً في العقوبات الأميركية ضد البرنامج الصاروخي الباكستاني، فكيف يمكن أن تواجه الهند الصين؟
أو، ماذا لو قررت الصين توسيع دعمها ومبيعاتها العسكرية نحو دول حليفة أخرى، ولا سيّما إيران؟ والسؤال الأهم، كيف يمكن أن تنعكس أي حرب هندية ـ باكستانية على خطوط التجارة العالمية، وعلى منطقة الخليج والعالم العربي، في ظلّ التعاطف الإسلامي والعربي مع باكستان، والاصطفاف الهندي مع إسرائيل في حربها ضد فلسطين ولبنان، بعد أن كانت من أشد المؤيّدين لحقوق الفلسطينيين وعضواً في دول عدم الانحياز؟ وهذا ربّما، ما يفسّر مسارعة السعودية إلى التدخل والضغط على البلدين لوضع حدّ للتصعيد.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار