محمد نور الدين
إذا كان وجود التفاؤل من عدمه بحلّ المشكلة الكردية في تركيا بعد قرار «حزب العمال الكردستاني» بحلّ نفسه وبإلقائه السلاح، يُقاس بطبيعة التعامل التركي مع الأكراد – نظريّاً وعمليّاً – على مدى المئة العام الماضية، أو خلال حقبة «حزب العدالة والتنمية» الممتدّة منذ عام 2002، فإن احتمالات الحلّ تبدو ضعيفة جدّاً، وهي، في أحسن الأحوال، لا تلبّي تطلّعات المجتمع الكردي في تركيا. أمّا معالجة المشكلة العلوية – والتي تُختصر بإنكار المذهب العلوي وبالتالي عدم الاعتراف بحقوق أتباعه -، فتوجب العودة، كمقياس، إلى طبيعة النظرة التركية تجاه هذه الفئة، منذ القرن السادس عشر وحتى الآن؛ علماً أن علويّي تركيا أكثر عدداً من الأكراد (18 مليوناً)، ومنهم التركي والكردي والعربي.
ومع أن دعوة زعيم «الكردستاني»، عبد الله أوجالان، من سجنه في إيمرالي، إلى حلّ الحزب وترك السلاح، وإقرار ذلك في ما بعد، فتحت الباب أمام الاعتراف بالهوية الكردية في الدستور والقوانين، فإن ذلك يبقى رهن قرار الدولة والنخبة الدينية – القومية التي تمسك بمفاصل الدولة العميقة. على أن هذا التطوّر فتح أيضاً الباب أمام احتمال حصول تحوّلات في نظرة الدولة إلى الهوية العلوية، مثيراً أملاً في الاعتراف بهذه الأخيرة على كلّ المستويات الدينية والتعليمية والاجتماعية.
والجدير ذكره، هنا، أن «معاهدة لوزان» لعام 1923، والتي تُعدّ الوثيقة المؤسِّسة للدولة التركية الحديثة، لا تعترف بتقسيمات المجتمع في تركيا إلا على أساس ديني، أي بوجود مسلمين ومسيحيين ويهود، وهو ما أدّى إلى «شطب» مجموعات إثنية من مثل الأكراد، ومذهبية من مثل العلويين، فيما تذرّعت النخبة التركية الحاكمة، منذ ذلك الحين، بنصوص المعاهدة حتى لا تعطي هؤلاء أيّ حقوق. وكان هذا الإنكار في أساس ظهور مشكلتَين مزمنتَين تسبّبتا، على مدى مئة عام، بعدم استقرار اجتماعي وسياسي في تركيا.
وإذا كان التفاؤل بحلّ المشكلة الكردية أكبر، على خلفية حسابات إقليمية، وأخرى تتعلّق بمصالح الرئيس التركي الشخصية، فإن ما ورد على لسان رئيس البرلمان التركي، نعمان قورتولمش، المحسوب على «العدالة والتنمية»، يوم الـ19 من أيار الجاري، أكد أن إمكانية إحداث تغيير في نظرة الدولة إلى العلويين، ليست واردة، علماً أن نواب «العدالة والتنمية» الـ268، لا يوجد بينهم أيّ نائب علوي.
وقال قورتولمش، في لقاء في جامعة «شيرناق» في أقصى الجنوب الشرقي من البلاد، إن «الاتفاق الذي وقّعه السلطان سليم ياووز (سليم الأول) مع إدريس التبليسي في مواجهة الشاه إسماعيل (الصفوي) الذي عاث في أراضي الأناضول فساداً وظلماً، هو اتفاق عظيم. وقد مكّن هذا الاتفاق، بتحالفنا في تشالديران 1514 (الموقعة التي هُزم فيها الصفويون على يد العثمانيين)، المجتمعات المسلمة في الأناضول من أن تمضي بثبات وسلام ووحدة».
وأثارت تصريحات قورتولمش هَبّة من جانب الجمعيات والاتحادات والهيئات العلوية كافة؛ ذلك أن السلطان سليم الأول قام، وهو في مسيره لقتال الصفويين، بقتل الآلاف من علويّي الأناضول، ولدى عودته منتصراً، أكمل على آلاف آخرين منهم. وبعد وفاته عام 1520، لم تتوقّف المذابح بحقّ هؤلاء، مع تنفيذ ابنه، السلطان سليمان القانوني، عشرات المذابح على امتداد حكمه الذي استمرّ حتى عام 1566، رغم أن علويّي الأناضول كانوا تركماناً تماماً، مثل الانتماء العرقي لإسماعيل الصفوي الذي كان أيضاً تركمانيّاً، أي إن سبب المذابح كان مذهبيّاً لا إثنيّاً.
ومن بعد هذه المذابح، تجنّب العلويون ممارسة عباداتهم أو حتى إظهار هويتهم بصورة علنية، إلى أن انهارت السلطنة عام 1918. ومع قيادة مصطفى كمال أتاتورك حركة تحرير ضدّ السلطان في إسطنبول، وضدّ القوات الأجنبية، انضمّ العلويون، كما الأكراد، إلى حركته، أملاً في نيل حقوقهم. ومع أن العلويين دعموا العَلمنة بصورة كاملة، لكنهم، للمفارقة، لم ينالوا أيّاً من حقوقهم، في ما يمكن إرجاعه إلى رسوخ النزعة القومية المذهبية في ذهنية النخبة الحاكمة.
وهكذا، كان العلمانيون يحصدون أصوات العلويين من دون أن يقدّموا لهم شيئاً، علماً أن الأخيرين لم ينجحوا في تأسيس أحزاب خاصة بهم، ولم يكن أمامهم من خيار، بالتالي، سوى الأحزاب العلمانية، خصوصاً أن البديل، أي الدولة الدينية، كان مرفوضاً بالنسبة إليهم. ولذا، شكّل العلويون جزءاً مهمّاً من قاعدة «حزب الشعب الجمهوري»، كما شكّلوا مع الأكراد قسماً مهمّاً من قواعد الحركة الكردية المعارِضة للسلطة، وفي مقدّمتها «حزب العمال الكردستاني»، كما الحزب الحالي «المساواة والديموقراطية للشعوب».
وبالعودة إلى كلام قورتولمش، فهو يبدو أنه جاء ردّاً على الاستنفار العلوي في تركيا، رفضاً للمذابح التي تعرّض لها علويّو سوريا، في مطلع آذار الماضي، والتي ذهب ضحيّتها الآلاف. إذ إن السلطات التركية تحسّست، على ما يَظهر، إزاء اتّساع الحَراك العلوي في تركيا، وما يمكن أن يشكّله من تصاعد للحساسيات مع السنّة، ولا سيما أن التحرّك العلوي لم يكن فقط ضدّ نظام أحمد الشرع في دمشق، بل أيضاً ضدّ سلطة «العدالة والتنمية»، التي لم تدن المجازر، بل تبنّت رواية الإدارة السورية، عبر اتهام «فلول» نظام بشار الأسد، بالتسبّب بها.
وعلى خلفية تصريحات قورتولمش، صدرت بيانات مندّدة، أبرزها عن 17 منظمة علوية أساسية، اتّهمت السلطة، التي تدّعي أنها تسعى إلى «تركيا بلا إرهاب (كردي)»، بأنها تعمل على مشروع «تركيا بلا علويين»، واصفةً مواقف قورتولمش بأنه «مؤسفة وطائفية وتشوّه التاريخ، بل وتزوّره، وتخدم الاستقطاب، كما إنها لا تعتبر العلويين مسلمين».
ولفت البيان إلى أن «الشاه إسماعيل ليس فقط مؤسّساً لدولة، بل هو أحد رموز وأركان طقوسنا الدينية، وهو رجل القلب الذي يتربّع على قمّة الأدب التركي وله مكانة خاصة لا تتزعزع في قلب ملايين العلويين البكتاشيين»، عادّاً كلام رئيس البرلمان بمنزلة «تقديس للإبادة» و«انعكاس لذهنية مرتكبها»، ولا سيما أن التبليسي من زعماء العشائر الكردية، وكان الساعد الأيمن للسلطان سليم في الولايات الشرقية للدولة العثمانية، ومحرّضاً كبيراً على قتل العلويين (قزل باش) في الأناضول.
وأشار البيان إلى أن «السلطان سليم هو سلطان لا يُذكر اسمه إلّا بكون يديه تلطّخت بدماء العلويين والعرب والأكراد، وكان التبليسي شريكاً له في المجازر. العلويون مواطنون في أصل وجود هذه البلاد، ويجب أن يكونوا متساويين مع الآخرين»، داعياً رئيس البرلمان إلى الاعتذار والاستقالة من منصبه.
ولفت في هذا السياق، أيضاً، ما كتبه نامق طان، السفير التركي السابق في واشنطن (2010 و2014)، والذي انتقل إلى صفوف المعارضة وانتُخب نائباً عن إسطنبول عن «حزب الشعب الجمهوري»؛ إذ قال إن «مكانة تركيا العالمية لا تكمن في زعامة إردوغان؛ ومن الأمثلة على الذهنية الوهمية لدى هذا الأخير، تصريحات أحد أبرز أركان حزبه، نعمان قورتولمش، عن العلويين. كانت تصريحات مؤسفة وغير مدركة.
وتحولت رواية الحرب إلى رواية تاريخية كاذبة ومثيرة للانقسام». ومن جهته، رأى الكاتب محمد علي غولر، في «جمهورييات»، أن إشارة قورتولمش إلى «تحالف» السلطان سليم مع إدريس التبليسي الكردي، «يراد منها إعطاء شرعية للتحالف المحتمل بين أوجالان وإردوغان، أو بمعنى تأسيس تركيا الجديدة على أساس حلف تركي – كردي – إسلامي. كما إن أوجالان وصف مرّة التحالف التركي – الكردي، في موقعة ملازكرد (1071 للميلاد)، ضدّ البيزنطيين بأنه «تحالف إسلامي»، وتحالف السلطان سليم – إدريس التبليسي بأنه جاء لمواجهة «الهيمنة الإيرانية»».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار