نشب الخلاف بين إردوغان ورفاقه بدءاً من العام 2014، عندما أصبح رئيساً للجمهورية، إذ بات يتصرف كأنّه الحاكم المطلق للبلاد، من دون الحاجة إلى استشارة أحد. وقد أزعج ذلك هؤلاء الرفاق، وفي مقدّمتهم عبد الله جول،
بعد مرور 20 عاماً على مؤتمره التأسيسي الأول في 14 آب/أغسطس 2001، عقد حزب “العدالة والتنمية”، أمس الأربعاء، مؤتمره العام، في ظلِّ وضع لا يحسد عليه أبداً، بعد أن أثبتت جميع استطلاعات الرأي المستقلة أنه سيخسر السّلطة في أول انتخابات برلمانية ورئاسية مقبلة، إن جرت!
بعد النّجاحات المهمّة التي حقَّقها على صعيد السياستين الداخلية والخارجية خلال السنوات الأولى لاستلامه السلطة في نهاية 2002 وحتى ما يُسمى بـ”الربيع العربي”، واجه الحزب وزعيمه إردوغان الكثير من المشاكل الَّتي أوصلته وأوصلت البلد إلى مأزق جدّي وخطير في جميع المجالات.
وعلى الرغم من الانتصارات السياسية والنفسية التي حقَّقها باستلام الإخوان المسلمين السّلطة في تونس ومصر وليبيا والمغرب، مع دور بارز لتركيا في سوريا، اعتقد الرئيس إردوغان أنَّ هذه الانتصارات ستساعده على تنفيذ أجندته السياسية والعقائدية والتاريخية، وهو ما دفعه إلى المزيد من التدخلات السرية والعلنية التي وصفتها المعارضة بـ”المغامرات”، ليس في المنطقة العربية فقط، بل في أفريقيا والبلقان والقوقاز ومناطق أخرى “وطئتها أقدام العثمانيين” أيضاً، والقول لإردوغان.
وكان انقلاب السّيسي على الإخوان في تموز/يوليو 2013 وصمود الدولة السورية، بدعم من حزب الله وإيران وروسيا، بداية الانتكاسات التي حطَّمت أحلام إردوغان، ولكن يبدو أنه لم يتأثر بها، إذ استمر في نهجه الذي وصل إلى طريق مسدود في كل مكان وعلى جميع الجبهات.
ويفسّر ذلك مساعيه الآن للمصالحة مع مصر والسعودية والإمارات والاستعداد للتخلّي عن ورقة الإخوان والتنسيق مع العدو الأكبر السيسي في ليبيا. ومع انتظار مكالمة الرئيس بايدن حتّى يحدّد مسار مساوماته مع واشنطن وموسكو، بانعكاسات ذلك على حساباته المستقبلية في المنطقة، يبقى الرهان على الدور التركي في سوريا هو المعادلة الأهم بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، فقد كان الرئيس الأسد، وما زال، “خطاً أحمر” بالنسبة إليه، حتى مع استمرار المخاطر التي تهدد الأمن الوطني والقومي التركي من سوريا، بسبب استمرار الدعم الأميركي والغربي لوحدات “حماية الشعب” الكردية السورية شرق الفرات.
ولم تعنِ كل هذه الانتكاسات، وتلك المحتملة على صعيد التوتر مع واشنطن أو موسكو، أنَّ مأزق إردوغان لن يبقى في حدود السياسة الخارجية التي انعكست بظلالها القاتمة على الواقع الداخلي، وفي جميع المجالات، فقد سعى، وما زال، لأسلمة الأمة والدولة التركية، وخصوصاً بعد أن سيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، وأهمها المؤسسة العسكرية العلمانية والأمن والمخابرات والقضاء، و95% من الإعلام الحكومي والخاص. كل ذلك بعد الاستفتاء الذي أجراه في 16 نيسان/أبريل 2017.
وقد استغلّ إردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها أتباع حليفه السابق الداعية الإسلامي فتح الله جولان في 15 تموز/يوليو 2016، فتخلَّص من جميع معارضيه ومنافسيه وأعدائه، بعد أن أقام نظاماً قال عنه زعيم “الشعب” الجمهوري كمال كليجدار أوغلو وزعماء أحزاب المعارضة جميعاً “إنه مستبدّ وديكتاتوري لا يرحم أحداً”. وأمرت المحاكم “من دون عدالة” بوضع أعضاء البرلمان والمحامين والصحافيين والأكاديميين والأطباء ورجال الفنّ في السجون، تارة بتهمة الإساءة إلى إردوغان، وتارة أخرى بتهم الخيانة الوطنية والإرهاب التي تعني العلاقة بحزب “العمال” الكردستاني.
كلّ ذلك بعد أن طرد إردوغان أكثر من مئة ألف من أتباع جولان وأنصاره من مؤسَّسات الدولة، وأهمها الجيش والأمن والقضاء، ووضع الآلاف منهم في السجون. كما وصلت مساعي إردوغان لحلّ المشكلة الكردية عبر الحوار مع “العمال” الكردستاني وجناحه السياسي “الشعوب” الديمقراطي للفترة الممتدة بين العام 2011 والعام 2015 إلى طريق مسدود، بعد أن فشلت أنقرة في إقناع كرد سوريا ووحدات “حماية الشعب” الكردية، الذراع السورية لـ”العمال” الكردستاني التركي، بالتمرّد على الدولة السورية.
وكانت كلّ هذه التّناقضات كافية لسلسلة من الخلافات، ثم العداءات، بين إردوغان والغالبية الساحقة من رفاق دربه السابقين الذين كانوا معه في المؤتمر التأسيسي الأول، ولم يبقَ إلى جانبه الآن إلا عدد قليل جداً منهم، ليحل محلهم أعداء إردوغان السابقون، ومنهم زعيم حزب “الحركة” القومية دولت باخشالي ووزير الداخلية سليمان صويلو وآخرون.
نشب الخلاف بين إردوغان ورفاقه بدءاً من العام 2014، عندما أصبح رئيساً للجمهورية، إذ بات يتصرف كأنّه الحاكم المطلق للبلاد، من دون الحاجة إلى استشارة أحد. وقد أزعج ذلك هؤلاء الرفاق، وفي مقدّمتهم عبد الله جول، الرئيس السابق للجمهورية ورئيس الوزراء الأول لـ”العدالة والتنمية” بعد استلامه السلطة في نهاية العام 2002، عندما كان إردوغان ممنوعاً من العمل السياسي. ولولا جول لما عاد إليه.
وتطوّر خلاف إردوغان مع جول ليشمل عدداً كبيراً من الرفاق السابقين، وانضم إليهم أخيراً رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، الذي أسس حزب “المستقبل”، ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان زعيم حزب “الديمقراطية والتقدم”، وهما يوجهان معاً انتقادات عنيفة إليه، ويتهمانه “بالاستبداد والفساد الخطير وإيصال البلد إلى حافة الإفلاس التام”، وهو ما يفضح أحاديث التنمية التي تغنى بها إردوغان وأتباعه في الداخل والخارج خلال فترة حكم “العدالة والتنمية”.
وقد أثبتت السنوات الأخيرة أن هذا الحزب “لم يتبقَّ من اسمه عدالة ولا تنمية”، والقول هنا لعبد اللطيف شنار، نائب رئيس الوزراء الأسبق (للفترة 2002-2007)، وهو من أهم مؤسسي “العدالة والتنمية”، وهو الآن عضو في البرلمان عن حزب “الشعب” الجمهوري. وقال شنار: “إن ديون تركيا الخارجية زادت على 440 مليار دولار. دفعت تركيا 505 مليار دولار، فوائد ديونها الداخلية والخارجية، خلال 19 عاماً، ووصل العجز في التجارة الخارجية خلال الفترة نفسها إلى 1.1 تريليون دولار، وقامت الحكومة ببيع ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسسات القطاع العام. في المقابل، لم تبنِ أي مصنع أو معمل استراتيجي، واكتفت ببناء الأنفاق والجسور والطرقات السريعة التي نفذتها شركات أجنبية، والتي تعد عقودها فاسدة جملةً وتفصيلاً”.
ولم يبالِ الرئيس إردوغان بكل هذه السلبيات، ما دام يهمه “البقاء في السلطة، مهما كلف ذلك تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وحيث الفشل في جميع المجالات، بعد أن ابتعد الحزب كل البعد عن مبادئه الأصيلة التي تأسس عليها، وأهمها العدالة”، والقول هنا لأحمد داوود أوغلو، الّذي يتّهم الرئيس التركي “بالقضاء على النظام الديمقراطي برمته”، فيما يرجّح علي باباجان الحديث عن “انتكاسات إردوغان في سياساته الاقتصادية والمالية، بعد أن زاد عدد العاطلين من العمل على 13 مليوناً، وأعلنت عشرات الآلاف من الشركات إفلاسها، في الوقت الذي لا يدري أحد كيف اختفى 128 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الذي قام بتغيير 4 من محافظيه خلال عامين فقط”.
ويبقى السّؤال الأهم: إلى متى سيستمر إردوغان في نهجه هذا، ضارباً بعرض الحائط اعتراض معارضيه ورفاقه السابقين، ما دام يخطط للبقاء في السلطة حتى العام 2023، أي الذكرى المئوية لقيام جمهورية أتاتورك العلمانية، التي يبدو واضحاً أنه يسعى للتخلّص منها؟ كما يتحدَّث باستمرار (واليوم أيضاً) عن حلمه للاحتفال – هو نفسه أو من سيخلفه – بالذكرى الـ600 لفتح محمد الفاتح للقسطنطينية في العام 1453، بل إحياء الذكرى الألفية لدخول السلطان أرتوغرول إلى الأناضول في العام 1071، من دون أن يكون واضحاً ما إذا كان إردوغان سيحقق أحلامه، ما دامت كل المعطيات لم تعد تصب في مصلحته، إلا في حالة واحدة، وهي “الدعم المطلق والشامل مالياً وسياسياً وعسكرياً من الحليف التقليدي أميركا”، وكيفية حدوث ذلك، والقول هنا للجنرال المتقاعد توركار أرتورك، الذي توقع “قبول إردوغان بشروطها مقابل ضمانات مطلقة لبقائه في السلطة، مهما كلف ذلك تركيا داخلياً وخارجياً”.
وما علينا هنا إلا أن نذكّر بالسنوات الأولى لـ”العدالة والتنمية”، الذي اعتبرته واشنطن “نموذجاً مثالياً للتجربة الديمقراطية العلمانية بملامح إسلامية في دولة مسلمة، يمكن تسويقه إلى الدول العربية في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير”. وكان إردوغان “لاعباً أساسياً فيه، خدمة للأجندات الأميركية”، والقول هنا لزعيم الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو، الذي اعتبر “سياسات إردوغان في سنوات الربيع العربي بكل انعكاساتها الإقليمية والدولية والتركية داخلياً متمماً لهذا الدور الذي خلق لتركيا والمنطقة ما يكفيها من الدمار”.
(سيرياهوم نيوز-الميادين26-3-2021)