محمود جمال سعيد
في قلب العواصف الاقتصادية والجيوسياسية المتلاحقة، يواصل الذهب تألّقه بصفته “ملاذاً آمناً” لا يُضاهى. لكن قصته في عام 2025 تتجاوز المألوف. فالمعدن الأصفر لم يعد مجرّد أداة تحوط تقليدية، بل تحوّل إلى محور استراتيجي في محافظ البنوك المركزية، التي صارت اللاعب الأبرز في دفع أسعاره نحو قمم جديدة.
هذه الظاهرة، التي تُشكّل منعطفاً تاريخياً في مسار الذهب، تدفعنا إلى التساؤل: ماذا يُحرّك هذه المؤسسات السيادية لضخّ كميات هائلة من السيولة في سوق الذهب؟ وكيف يُشكل هذا السلوك المستدام ملامح مستقبل المعدن النفيس؟
يد خفية وراء الصعود
منذ مطلع عام 2025، صار الذهب “ترمومتراً” دقيقاً يعكس نبض الاقتصاد العالمي برمّته، والأداء القوي للمعدن الأصفر يُؤكد هذا الدور المتنامي، حيث سجل ارتفاعاً لافتاً بنسبة 25.6% منذ بداية العام. ووصل سعر الأوقية عالمياً في 30 أيار/مايو المنصرم إلى 3292.96 دولاراً. ورغم التراجع الطفيف الذي شهده الذهب خلال مايو بنحو 1.29%، فقد أظهر مرونة استثنائية، مدفوعاً بموجات شراء قوية من البنوك المركزية التي تُعدّ المحرك الأساسي لهذا الزخم الصعودي.
ليست الارتفاعات الحالية للذهب برأيي مجرد تحرّكات سعرية عابرة أو مضاربات لحظية، بل هي تعبير عميق عن تحولات هيكلية في توازنات الاقتصاد الكلي العالمي. ففي ظلّ هشاشة المشهد المالي الدولي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، لا يبرز الذهب خياراً استثمارياً فحسب، بل ضرورة استراتيجية في خريطة الأسواق العالمية، مما يعزز قيمته بصفته مخزناً للثروة في الأوقات المضطربة والواعدة على حد سواء.
دوافع استراتيجية
إن الأسباب الكامنة وراء موجة شراء البنوك المركزية غير المسبوقة للذهب تتجاوز كثيراً مسألة التحوّط من التضخم أو إدارة أسعار الفائدة، فثمة عوامل استراتيجية أعمق تُشكّل هذه القرارات:
أولاً، تنويع الاحتياطيات وتقليل مخاطر التركيز. تسعى البنوك المركزية بجدية لتقليل اعتمادها المفرط على العملات الاحتياطية التقليدية، ولا سيما الدولار وسندات الخزانة المرتبطة به. تُقلّل هذه السياسة من مخاطر التعرض لتقلّبات اقتصادية أو قرارات سياسية لدولة واحدة، مما يجعل الذهب، بأصالته وحياديته، بديلاً جذاباً جداً.
ثانياً، التحوط ضد المخاطر الجيوسياسية وتجميد الأصول. إن تصاعد التوترات الجيوسياسية على الساحة الدولية، ومخاطر فرض العقوبات الاقتصادية أو تجميد الأصول، يدفع البنوك المركزية نحو المعدن الأصفر. فالذهب، كأصل مادي لا يمكن تجميده رقمياً بنفس سهولة تجميد الأصول المالية الأخرى، مما يُشكِّل درعاً حصينة ضد مثل هذه الإجراءات القسرية.
ثالثاً، مخزن قيمة سيادي في عالم متعدد الأقطاب. يُعد الذهب مخزناً عالمياً للقيمة لا يخضع لسيطرة أي حكومة أو بنك مركزي بعينه؛ وهذا الأمر يمنحه صفة “العملة السيادية”. وهذه الخاصية الفريدة تجعله جذاباً بشكل خاص للبنوك المركزية التي تسعى إلى الحفاظ على استقلالها المالي، في عالم يتجه نحو نظام مالي متعدد الأقطاب.
سباق الذهب
في سياق هذه الديناميكيات، نلفت إلى التأثيرات المستمرة للتوترات التجارية والجيوسياسية بين القوى الكبرى، والتي برزت بشكل خاص من خلال سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه الصين وتصريحاته حول قضايا مثيرة للجدل، مثل تطبيق “تيك توك”. تميل الأسواق بطبيعتها إلى الذهب بصفته ملاذاً آمناً كلما تصاعدت حدة هذه التوترات. فقد شهدنا في الماضي كيف تدفع أيّ إشارة إلى تصعيد حرب التعريفات الجمركية أو التفكك الاقتصادي بين واشنطن وبكين المستثمرين نحو الأصول الآمنة، وفي مقدّمها الذهب.
هذه الديناميكية تُشكّل طبقة إضافية من الدعم لأسعار الذهب، حيث تستبق البنوك المركزية وغيرها من المستثمرين أيّ تصعيد محتمل في المستقبل.
إحصائيات عالمية تؤكّد التوجه
تُقدّم الإحصائيات الأخيرة الصادرة عن مجلس الذهب العالمي دليلاً ملموساً على هذا التوجه الواضح. ففي الربع الأول من عام 2025، واصلت البنوك المركزية حول العالم تعزيز احتياطياتها من الذهب، حيث أضافت مجتمعة نحو 244 طناً إلى احتياطياتها الرسمية العالمية.
تصدرت بولندا قائمة المشترين (49 طناً)، تلتها الصين (13 طناً)، ثم صندوق النفط الحكومي الأذربيجاني (SOFAZ) (نحو 19 طناً). كذلك شملت قائمة المشترين البارزين في ذات الفترة كازاخستان (6 أطنان)، وجمهورية التشيك (5 أطنان)، وتركيا (4 أطنان)، والهند (3 أطنان)، إلى جانب قطر (3 أطنان) ومصر (1 طن).
وعلى الرغم من أن هذا الرقم يعدّ أقلّ من حجم المشتريات في الربع الأول من عام 2024، والذي بلغ 309.9 أطنان، فإنه يبقى مرتفعاً مقارنة بالمتوسطات التاريخية، متجاوزاً المتوسط الفصليّ لخمس سنوات بنسبة 24%.
تقدّم هذه المشتريات المؤسّسية الهائلة من الذهب دليلاً دامغاً على أن القوى الفاعلة في الاقتصاد العالمي تستعدّ لمستقبل قد يشهد اضطرابات أكبر، وتعتبر الذهب الضمانة الأكثر موثوقية في مواجهة هذه التحديات. فالذهب لم يعد سلعة تُحدّد قيمتها بالديناميكيات التقليدية للعرض والطلب، بل أصبح مؤشراً حيوياً على مستوى الثقة في النظام المالي العالمي، وفي العملات الورقية. إن الدور المتزايد للبنوك المركزية في سوق الذهب يُعيد تشكيل فهمنا لقيمة المعدن الأصفر، ويُرسّخ مكانته بوصفه درعاً سيادية لا غنى عنه في أوقات اللايقين، ومحركاً أساسياً لمسار سعره الصاعد في الأفق المنظور.
* باحث اقتصادي ومتخصص في أسواق المال
أخبار سوريا الوطن١-النهار