آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » “حين تكسّرت القلاع”: إسرائيل تضرب وإيران تترقب

“حين تكسّرت القلاع”: إسرائيل تضرب وإيران تترقب

 

د. سلمان ريا

في فجر اليوم الثالث عشر من حزيران 2025، اهتزت أركان المشهد الإقليمي على وقع الضربات الإسرائيلية المركّزة التي اخترقت العمق الإيراني، مستهدفة منشآت نووية ومواقع عسكرية حساسة، وأطاحت بشخصيات قيادية بارزة في الحرس الثوري. الضربة لم تكن حادثة معزولة في فضاء التصعيد الروتيني، بل جاءت كتتويج لمسار استدراكي طويل، كان يُنسَج على وقع الانذارات الصامتة وإعادة تموضع القوى العظمى.
قبل يومين فقط، أقدمت الولايات المتحدة، في خطوة لافتة لا تخطئها عين المراقب، على سحب موظفيها ورعاياها من عدة مواقع في الخليج والمنطقة، في إشارة مضمرة إلى أن واشنطن كانت تتهيأ لما هو قادم، أو على الأقل، كانت تدرك أن “ساعة الضربة” تقترب.
اللافت أيضاً أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خرج بتصريح مختصر لكنه مكثف في دلالاته، حين قال دون مواربة: “إيران لن تمتلك سلاحاً نووياً أبداً”، كأنه يستدعي من جديد نبرة “الخطوط الحمراء” التي طالما رسمتها الإدارات الأمريكية السابقة، لكنه يفعلها هذه المرة كمن يبارك الضربة أو يقرأها كاستحقاق طبيعي لمنطق القوة في معادلات الردع. أما في طهران، فقبل الضربة بساعات، كان المسؤولون الإيرانيون يتحدثون بثقة عن تطور قدراتهم النووية، وعن امتلاكهم لزمام المبادرة الإقليمية، وكأنهم يعلنون أنهم باتوا في موقع اللاعب الحاسم الذي يصعب ترويضه. المفارقة أن هذه اللغة الواثقة لم تمنع صدمة الفجر من أن تسقط كحقيقة صلبة على مراكز القرار الإيراني.
الضربة في توقيتها، أسلوبها، وأهدافها تحمل بصمة ما بعد الحرب النفسية. لقد تم اختيار ساعة الفجر بعناية، في لحظة تراهن فيها إسرائيل على أن القرار الإيراني بات محاصراً بخيارات مؤلمة، بين الرد الفوري بما قد يفتح بوابات الجحيم، أو الانكفاء المؤقت بما يُلحق جرحاً عميقاً في صورة الردع التي طالما بنتها طهران. العملية لم تقتصر على توجيه رسالة ردع تقليدية، بل بدت كخطوة تهدف إلى تعميق الإرباك في بنية القيادة الإيرانية، وضرب مفاصل حيوية لا تعوض بسهولة.
تكتيكياً، ما جرى ليس مجرد ضربة عسكرية محدودة، بل هو تحرك مدروس يتجاوز حدود الاستهداف المادي إلى محاولة إعادة تعريف حدود اللعبة. الطائرات المسيرة التي عبرت التخوم الإيرانية وصواريخ كروز التي وصلت إلى مواقع محصنة، ليست سوى الواجهة المرئية لعملية تحمل في طياتها رسائل معقدة، عنوانها أن إسرائيل لم تعد تقبل بسياسة الخطوات التدريجية الإيرانية في البرنامج النووي، وأنها مستعدة لأن تتخذ زمام المبادرة منفردة، حتى لو أدى ذلك إلى فتح جبهات إقليمية متعددة.

الرد الإيراني السريع بإطلاق طائرات مسيرة باتجاه الأراضي الإسرائيلية بدا أقرب إلى رسالة رمزية منه إلى رد نوعي بحجم الضربة. من الواضح أن إيران، في هذه المرحلة، تحاول تفادي الانزلاق إلى مواجهة شاملة قد تستنزف قواها على أكثر من جبهة، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية الداخلية والعزلة المتنامية. لكنها بالمقابل، لا تستطيع أن تسمح بتثبيت معادلة جديدة يتم فيها قصف العمق الإيراني دون أن يكون لذلك كلفة حقيقية على الطرف الآخر. لذلك، من المرجح أن تلجأ طهران إلى الرد عبر وكلائها التقليديين، سواء عبر تفعيل الجبهة الشمالية مع حزب الله، أو عبر تصعيد العمليات البحرية، أو ربما عبر توسيع الهجمات السيبرانية التي تتيح هامش الإنكار السياسي.

المخاطر تكمن في أن إسرائيل قد لا تقبل بعد اليوم بلعبة “الرد غير المباشر”، بل قد تعتبر أن أي تحرك ضد مصالحها، ولو جاء عبر الوكلاء، هو امتداد مباشر للقرار الإيراني، ما يفتح الباب أمام ردود إسرائيلية تطال بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء وربما حتى مضيق باب المندب. الحرب قد لا تأخذ شكل اجتياحات برية، لكنها ستتحول إلى حرب واسعة متعددة الجبهات، تتداخل فيها الضربات الجوية والصاروخية مع معارك البحر والسيطرة على خطوط الملاحة، إلى جانب معركة موازية على جبهات الاقتصاد والتقنية.

إذا اتسعت دائرة الحرب، فإن شظاياها ستطال حتماً المصالح الغربية في الخليج، وربما تدفع بعض القوى الكبرى إلى التدخل، ولو عبر الضغط السياسي أو دعم لوجستي غير معلن، خشية أن يتحول النزاع إلى حرب إقليمية لا يمكن احتواؤها. المعضلة هنا أن التوقيت الإقليمي والدولي ليس مثالياً لأي من الأطراف للدخول في حرب طويلة الأمد، فالعالم يغلي بأزمات اقتصادية متشابكة، والولايات المتحدة تخوض معارك انتخابية حاسمة، وروسيا غارقة في استنزاف أوكراني، والصين تترقب توازن القوى بحذر.

في هذا السياق، قد تلجأ طهران إلى ما يمكن تسميته بـ”الرد الذكي”، وهو التصعيد الموزون عبر مراحل متباعدة، بحيث تحافظ على منسوب التوتر، لكنها تتجنب القفز نحو مواجهة كاسحة، في محاولة لإجبار إسرائيل على التراجع التدريجي دون دفعها إلى رد فعل قاسٍ. في المقابل، يبدو أن إسرائيل تتصرف على قاعدة أن هذه الضربة هي فرصة لإعادة رسم قواعد الاشتباك من جديد، وربما لحسم المسألة النووية الإيرانية خلال هذا العقد، قبل أن تصل طهران إلى “اللحظة الحرجة” في قدرتها على تصنيع سلاح نووي.

المعركة الحالية ليست معركة سلاح بقدر ما هي معركة إرادات، تتقاطع فيها الرسائل المعلنة مع الحروب الخفية في الميدان السيبراني والاستخباراتي. إيران تحاول أن تبقي صورة “القلعة الصامدة”، لكنها تعلم أن الداخل الإيراني المتململ قد لا يحتمل كلفة حرب شاملة في هذا التوقيت، خاصة إذا تعمقت الضربات لتطال بنى اقتصادية وعسكرية نوعية. أما إسرائيل، فهي تدرك أنها تخاطر بالتصعيد الإقليمي لكنها تراهن على أن الهجوم الاستباقي، مهما كانت كلفته، أقل خطراً من قبول وجود إيران نووية على حدودها الجغرافية والسياسية.

بين خيارات الرد المحدود، والتصعيد غير المباشر، والحرب المفتوحة، يقف الشرق الأوسط اليوم على حافة مشتعلة، حيث يتداخل الممكن بالغامض، وتتشابك حسابات اللحظة مع رهانات العقود القادمة. المشهد أصبح أكثر سيولة من أي وقت مضى، وما يبدو اليوم كضربة مفردة قد ينقلب غداً إلى منعطف استراتيجي يعيد تشكيل ميزان القوى في المنطقة برمتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

(اخبار سورية الوطن _2 )

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“الصين”والهجوم على ايران

  أنس جوده أحاول منذ الصباح متابعة الأخبار والتحليلات حول موقف الصين المحتمل من الضربة على إيران، لأن انهيار النظام الإيراني، بكل ما يمثله من ...