م.حسان نديم حسن
تتقدّم “صناعة الوعي” اليوم بوصفها أحد أخطر أدوات السيطرة وأكثرها نفوذاً في العصر الحديث.
لم تعد الحقيقة مسألة واقع موضوعي بل مشروعاً يُصاغ بعناية ولم يعد التحكم بالبشر رهيناً للقيود الحديدية أو الأوامر المباشرة بل بات مساراً ناعماً تتسلل فيه الأفكار إلى الأذهان صامتة مستمرة وشبه عصية على الاكتشاف ما لم يمتلك المرء حساً نقدياً يقظاً ومناعة فكرية متماسكة.
إن تشكيل الوعي لم يعد فعلاً ثقافياً تلقائياً يتولد من التربية و التعلم و التجربة والاحتكاك بالواقع إنما تحول إلى منتج ذهني يُصمّم و يُحرّر و يُجمّل ثم يُضخ عبر قنوات الإعلام والترفيه والتعليم والتكنولوجيا ليُستهلك جماهيرياً دون أدنى شك أو مقاومة.
حين تلتقي إرادة التأثير بالقدرات التقنية الهائلة على الاستهداف الدقيق يصبح وعي الفرد أرضاً مستباحة يُعاد رسم خارطتها المعرفية والقيمية بما يخدم أجندات من يملكون أدوات التأثير.
إن الخطورة في هذه الصناعة لا تكمن في فرض القناعات فقط بل تتعداها إلى إعادة تعريف “الطبيعي” و”المقبول” و”المعقول” حيث تُستبدل المفاهيم من دون صخب ويعتنق الفرد قيماً لا يدرك أصلها ويتبنى مواقف لا يعي كيف تسربت إلى داخله. و تتحول وسائل التواصل من منصات للتعبير إلى أدوات لصياغة الرأي و تنتقل الخوارزميات من كونها أدوات تقنية إلى سلطات تحريرية خفية تتحكم في ما نراه ومتى نراه ولماذا نراه.
تتراكم الصور والمشاهد والمحتويات اليومية حتى تبني قفصاً ذهنياً واسعاً لا يشعر فيه الإنسان أنه مقيد لأنه يظن أنه يرى العالم من حوله بينما هو لا يعلم أن كل نافذة يطل منها قد جرى انتقاؤها له بعناية فائقة.
الخطر لم يعد في الجهل بل في الوهم بالمعرفة و المشكلة لم تعد في الرقابة المباشرة بل في فائض الحرية حيث تُغرق المنصات وعيك بما تحب وتفضل حتى تغدو انعكاساً لما تسمع و ترى لا لما تؤمن به.
في هذا المشهد المركب لا يعود العقل ملكاً لصاحبه بل ساحة صراع مفتوحة بين مصالح سياسية واقتصادية وثقافية تتنافس على انتزاع انتباهه ثم على زرع اختياراته فيه من حيث لا يشعر.
في مواجهة هذا التيار الجارف لا يكفي أن تكون ذكياً أو مثقفاً بل لا بد أن تكون واعياً و الوعي هنا ليس مجرد تراكم للمعلومات بل حالة من اليقظة المستمرة والاستعداد الدائم لتفكيك و تحليل ما يُقدم على أنه طبيعي أو عصري أو شائع.
فالمعركة الحقيقية للإنسان اليوم ليست في أن يقول ما يفكر فيه بل أن يعرف من أين و كيف جاءت أفكاره و أن يسأل نفسه بصدق: هل أنا أعي… أم أُوعّى؟.
(موقع اخبار سوريا الوطن-٢)