شادي عاكوم
حفّزت التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، إضافة إلى التبدلات في سياسات الأمن والدفاع بعد الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات الغربية، أشكالاً متعدّدة من الأنشطة الاستخباراتية الروسية ضد ألمانيا، شملت التجسس، والتخريب، والتضليل، وصولاً إلى إلحاق أضرار تجارية واقتصادية جسيمة بهدف تهديد السيادة الوطنية. فما هو مستوى التهديدات وطبيعتها؟ وما هي التدابير المضادة؟
انقضاض على البيانات
وكشف تقرير حديث صادر عن المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية عن تصاعد مستمر في مستوى التهديد السيبراني، مشيراً إلى تسجيل نحو 202 ألفي قضية جريمة إلكترونية مصدرها الخارج، تسببت بأضرار مالية فادحة للاقتصاد والدولة والمجتمع. ووفقاً لمسح أجرته مؤسسة “بيتكوم”، بلغت الأضرار الناجمة عن هذه الهجمات 178.6 مليار يورو عام 2024، بزيادة قدرها 30 مليار يورو عن العام السابق.
وفي السياق ذاته، أفاد المكتب الاتحادي لأمن المعلومات بأن أخطر التهديدات يتمثل في هجمات “برامج الفدية”، إذ يقوم المهاجمون بتشفير أجهزة الكمبيوتر ويطلبون فدية لفك التشفير. وقد أبلغت 950 شركة مكاتب الشرطة عن تعرّضها لهكذا هجمات. كما تُسجَّل هجمات حجب الخدمة الموزعة (DDoS) التي تشل الإدارات العامة عبر تحميل الشبكات بشكل متعمّد. إلى جانب ذلك، تتصاعد الأنشطة الإجرامية من خلال تطبيقات التراسل الفوري، ضمن ما يُعرف بـ”عروض الجرائم السيبرانية”.
وفي ضوء هذه التهديدات، أكّد المكتب الاتحادي لحماية الدستور أن روسيا لا تعتمد سياسة انتقائية في اختيار أهدافها، وأن ألمانيا تظل في دائرة الاستهداف الدائم، خصوصاً عبر الإنترنت، الذي يوفّر فرصاً كبيرة للمخترقين الروس للولوج إلى بيانات المؤسسات والشركات الألمانية. ووفق التقرير، فقد ارتفع نشاط الاستخبارات الروسية منذ فرض العقوبات الغربية على موسكو، وبلغ ذروته في عام 2024، من خلال استخدام عملاء مدرّبين على تنفيذ مهام قصيرة الأمد، شملت محاولات تخريب وتجسس ودعاية. وقد وجّه الادعاء العام الاتحادي اتهامات لثلاثة ألمانيين من أصول روسية بممارسة أنشطة استخباراتية.
القواعد العسكرية وصناعة الأسلحة
وكشفت التحقيقات الاستقصائية أن الهجمات الروسية لا تستهدف الإدارات فقط، بل تشمل أيضاً الشركات العاملة في مجالات حساسة، لا سيّما الصناعات الدفاعية. إذ يعمد المخترقون إلى تعطيل أنظمة تكنولوجيا المعلومات لتلك الشركات، بهدف سرقة المعرفة التكنولوجية المتقدمة، ما يشكّل تهديداً بالغاً للاقتصاد الوطني.
ووفق دراسة لشركة “TÜV Rheinland”، فإن 15% من الشركات التي شملها الاستطلاع تعرضت لهجمات سيبرانية خلال العام الماضي، من دون احتساب ملايين محاولات التصيّد الاحتيالي التي تم إحباطها، والتي تعتمد على رسائل بريد إلكتروني مضللة.
الأخطر كان تسجيل رصد لطائرات تجسس مسيّرة فوق مقرات عسكرية ألمانية، ما أثار حالة من القلق الأمني، خاصة مع وجود احتمال لحمل بعضها متفجرات. وقد أبلغ الجيش الألماني عن تحليق عدد كبير منها فوق قواعد عسكرية، أبرزها مطار مانشينغ العسكري في ولاية بافاريا، وقاعدة شفيزينغ في شليسفيغ هولشتاين، حيث يتدرّب الجنود الأوكرانيون على منظومة الدفاع الجوي “باتريوت”.
ألمانيا بوصلة وهدف
يرى الباحث السياسي والاقتصادي يان مولر، في تصريح لـ”النهار”، أن ألمانيا “تمثل هدفاً محورياً لروسيا”، كونها أكبر دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وثاني أكبر عضو في “الناتو”، وصاحبة ثالث أقوى اقتصاد في العالم. ويضيف أن الهدف من هذه الهجمات هو تقويض مكانة ألمانيا الديبلوماسية في السياسة الخارجية، مع الإضرار بالحياة العامة من خلال أعمال تخريبية ممنهجة.
ويشير مولر إلى أن موسكو تستثمر بكثافة في التأثير على الرأي العام الألماني والتلاعب به، بما يخدم تعزيز الانقسام داخل المجتمع، وزعزعة الاستقرار السياسي.
وفي هذا السياق، قال خبير الشؤون الأمنية في الحزب المسيحي الديموقراطي رودريش كيزويتر، في تصريحات لصحيفة “راينيشه بوست:” “ألمانيا لا ترد بالشكل الكافي على الهجمات الروسية الهجينة، ولهذا لا تجد موسكو ما تخشاه، بل إنها تعزز موقعها بفضل ضعف برلين”.
الحماية غير كافية
يتفق الخبراء على أن الاستثمار في الأمن السيبراني مجدٍ، إذ إن كلفته تبقى أقل بكثير من كلفة هجوم ناجح. ويوصون باللجوء إلى شركات متخصصة لإدارة البيانات التجارية مع ضمان أمن البنية التحتية الرقمية.
وفي هذا الإطار، نقلت شبكة “NTV” عن خبير الأمن السيبراني في “TÜV Rheinland”ميشائيل فوبي، ضرورة تسريع الحكومة الفيدرالية في تنفيذ توجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بأمن الشبكات والمعلومات، والتي تهدف إلى توحيد وتعزيز منظومة الحماية السيبرانية، لا سيما في ما يتعلق بالبنى التحتية الحساسة كمحطات الطاقة والمطارات.
كذلك، دعا إلى التركيز على الذكاء الاصطناعي نظراً لدوره الحاسم في الكشف المبكر عن التهديدات، وتعزيز قدرات المراقبة، إضافة إلى دعم المؤسسات البحثية في تطوير تدابير مضادة تعتمد على شبكات رصد عالية الدقة.
وفي مقابل هذه الانتقادات، صرّح وزير الداخلية الاتحادي ألكسندر دوبريندت بأن ألمانيا تسعى لتطوير قدراتها التقنية والتنظيمية، مشدداً على ضرورة توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل أجهزة الاستخبارات.
وأشار إلى تجارب تنفذها شركات خاصة لمحاكاة اعتراض الطائرات المسيّرة بواسطة طائرات بدون طيار مخصّصة، تعمل على إطلاق شبكة أمان عبر الهواء المضغوط للقبض على طائرة التجسس ومنع سقوط أي حطام على الأرض. غير أن هذه الأنظمة، رغم تطورها، تظل مكلفة ومعقدة، وتتطلب أطقم مدرّبة، ورادارات أرضية، وأنظمة كشف بصري لتكون فعّالة في عمليات الدفاع، سواء باستخدام طائرات اعتراض أو أجهزة تشويش.
أخبار سوريا الوطن١-النهار