آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » سوريا ليست قصة تُروى من جانب واحد

سوريا ليست قصة تُروى من جانب واحد

 

 

 

د. سلمان ريا

 

 

في لحظات التحوّلات الكبرى، تنزلق الشعوب إلى النظر بعين واحدة. تُختزل الروايات، وتنغلق الزوايا، ويُسجن التاريخ داخل شعارات ضيقة. لكنّ من يريد أن يرى حقًا، من يطمح لأن يُنصت لما وراء الضجيج، عليه أن يتعلّم أن يرى بعينين: بعينٍ تُبصر المأساة، وبأخرى تُدرك التعقيد. بعينٍ تنحني أمام الألم، وبأخرى تسعى إلى فهم المعنى.

 

سوريا ليست قصة تُروى من جانب واحد. ليست سطرًا يُضاف إلى سجل الانتصارات أو الهزائم، ولا ساحة تُستباح لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. سوريا وطن. وطن بكل ما تحمله الكلمة من جذور ضاربة في الأرض وأفق مفتوح نحو الحياة. وطن لا يُختصر في طرف ولا يُختزل في معسكر. وطن يصعب تطويقه، ويستحيل امتلاكه، لأنه يتنفس في وجوه أبنائه جميعًا مهما فرّقتهم الرايات.

 

كثيرون أرادوا أن يمسكوا بسوريا من خيط التاريخ، لكنهم تجاهلوا أن الجغرافيا وحدها قادرة على توحيدها. الجغرافيا تجمع، تحتضن، تصنع التفاعل، بينما التاريخ حين يُوظّف كسلاح يُصبح عامل تفريق وتمزيق. حين ننبش مزابل التاريخ بحثًا عن معارك الماضي، لا نصنع وعيًا بل نُثير الروائح الكريهة التي تسمّم الحاضر. حين يُستدعى ما انقضى لإشعال ما هو آتٍ، ينحرف الوطن عن مستقبله ويُغرق نفسه في طين الانقسامات. اجترار الانقسامات القديمة لا يبني وطنًا بل يُحيي شياطين الطوائف والدم.

 

في عينٍ واحدة، قُدّمت القصة على أنها ثورة شعبية ضد نظام قمعي. وفي عينٍ مقابلة، رُسمت كحرب دولية لتفكيك بلد صامد. وبين هاتين العينين ضاعت الحقيقة. الحقيقة ليست هنا أو هناك، بل هي بين الظلال، في تلك المساحات التي يتجنّبها الجميع، حيث يعيش الناس الحقيقيون الذين دفعوا ثمن هذه الروايات المتصارعة.

 

الثورة كانت حقيقية، لكنها لم تبقَ نقية. والنظام كان قاسيًا، لكنه لم يكن الشيطان الوحيد. الفصائل التي رفعت شعارات الحرية اقترفت مجازرها، والنظام الذي ادّعى حماية الوطن دمّر مدنه على رؤوس أبنائه. الأبرياء ليسوا أبرياء مطلقًا، والمجرمون ليسوا مجرمين دائمًا. الكل بشر، يتقلبون بين المصالح والمآسي، يغرقون أحيانًا في دمائهم، ويستفيقون أحيانًا على مرارة ما اقترفت أيديهم.

 

أن نرى بعينين يعني أن نفهم أن الضحية قد يصير جلادًا حين يُعطى السلاح، وأن الجلاد قد يتقمّص قناع الضحية حين تُسلَب منه القوة. أن نرى بعينين يعني أن لا نختزل المأساة في معركة بين “النظام” و”المعارضة”، بل أن نغوص في ما تمزّق من النسيج الاجتماعي، في العائلات التي تصدّعت، في الأحياء التي تحوّلت إلى جبهات، في الإخوة الذين صاروا أعداء.

 

الرواية الكبرى لا تكفي. لا بد أن نصغي إلى الروايات الصغيرة: حكايات الأمهات، صمت المدن المدمّرة، أنين المعتقلين، دموع المهجّرين. لا بد أن ندرك أن الحرب لم تكن فقط على الجغرافيا، بل كانت حربًا على الذاكرة والهوية والروح. الوطن ليس خريطة يتمسّك بها المنتصرون، ولا نظامًا يحرص على بقائه من يتربع على الكرسي، ولا شعارًا تهتف به الحشود. الوطن هو الإنسان. هو ذاك الذي دفن أبناءه بيديه، ذاك الذي هُجّر عن بيته مكرهًا، ذاك الذي اختنق بدموعه وهو يبحث عن شقٍّ صغير يتسلل منه بعض هواء الحياة. من لا يرى هؤلاء، لا يرى سوريا.

 

من يرى بعين واحدة يردّد ما يُلقى إليه، ومن يرى بعينين يصمت طويلًا قبل أن يتكلم. من يرى بعين واحدة يصطف مع معسكر، ومن يرى بعينين يقف مع الإنسان. أن ترى سوريا بعينين هو أن تنحاز إلى سوريا لا إلى من يتحدّث باسمها، لا إلى من يرفع صورها وهو يهدم جدرانها. سوريا تحتاج إلى من ينظر إليها بعينين، بضميره، بالعقل والقلب. تحتاج إلى من يرى الجرح في الجانبين، ويعرف أن النصر الذي يُبنى على جثث الأبرياء هزيمة مؤجلة. تحتاج إلى من يفهم أن الانتصار الحقيقي ليس أن يُرفع علم على الخراب، بل أن تعود الحياة إلى شعبها، أن يعود أبناؤها إلى حضنها، أن تبني جسورًا فوق ما تهدّم من مدن وقلوب.

 

سوريا لا تزال تنتظر من يراها كاملة. تنتظر من يعترف بأن التاريخ أكبر من أن يُروى من نافذة واحدة. تنتظر من يُعيد بناءها بعينين مفتوحتين على الغد، ومن يُعيد قراءة تاريخها بعقل يتجنّب النبش في القبور، ويُدرك أن ما توحّده الجغرافيا يجب أن لا يُمزّقه استدعاء المعارك البائدة. سوريا لا تحتمل أن نبقى أسرى ماضٍ لا يُجدي، لأن ما ينتظرها لا يُبنى إلا بيدين مفتوحتين، وقلب يعرف كيف يُسامح، وعينين تتطلّعان إلى ما بعد الحطام.

(موقع اخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ماذا بعد العدوان الامريكي…..؟؟؟

    بقلم_الخبير عباس الزيدي       الحكمة والعقل والمنطق يقولان اولا _ عدم التسرع في الرد لغرض 1_ تقدير  حجم الاضرار 2_ عدم ...