آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » زفاف بيزوس في البندقية: عربدة الأباطرة الجدد

زفاف بيزوس في البندقية: عربدة الأباطرة الجدد

 

سعيد محمد

 

 

البندقية، التي دائماً ما كانت مرادفاً للفن والجمال والرومانسية، أصبحت اليوم مثالاً حياً للمدينة التي تبتلعها طموحات السياحة الجشعة وتُهددها أمواج التغير المناخي المتصاعدة.

 

مع ذلك، لم يجد جيف بيزوس الملياردير الذي بنى إمبراطوريته على عرق العمّال والإعفاءات الضريبية، وخطيبته الإعلامية لورين سانشيز، مكاناً أنسب من هذه المدينة الهشة لزفافهما الباذخ في استعراض للثروة، يذكّر بصخب ليالي النخب الرومانية المتحلّلة قبل سقوط الإمبراطورية.

 

على مدار ثلاثة أيام (بدءاً من 26 الجاري)، ستتحوّل البندقية إلى ساحة استعراض للأثرياء، تتهادى فيها يخوت فاخرة وطائرات خاصة، وتُغلق فيها الشوارع والكنائس والمعالم العامة، لاستيعاب احتفالات نخبوية مشفّرة بالتسلّط الطبقي، كلّفت وفقاً للتقديرات، عشرات ملايين الدولارات، بمشاركة وجوه الانستغرام، مثل إيفانكا ترامب، وبيونسيه، والكارديشيان، وأوبرا، ما أثار حفيظة سكان المدينة، الذين يرون في هذا الزفاف استغلالاً سافراً لمدينتهم، وتحويلاً لها إلى مجرد «ديزني لاند» مخصصة للأثرياء.

 

اللافتات التي تملأ شوارع البندقية، مثل «لا مكان لبيزوس» و«فينيسيا لاند: ملعب يليق بأوليغارشية»، وحملة «إذا كنت تستطيع استئجار البندقية لزفافك، يمكنك إذن دفع المزيد من الضرائب»، التي أطلقتها «منظمة السلام الأخضر» في ساحة سان ماركو، تلخص جوهر الاحتجاجات اليسارية: تعبير عن سخط عميق تجاه نموذج رأسمالي وقح، يرى في كل شيء سلعة قابلة للاستغلال.

 

هذا الزفاف ليس مجرد حدث شخصي، بل تجسيد لخلل بنيوي يعمّق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، في عالم تتكدس فيه الثروات في أيدي قلة معدودة على حساب فقر الأكثرية. إنه العصر الترامبي بامتياز.

 

لقد أطلق الرئيس ــ الممثل نمط الاستعراض الباذخ هذا، كإعلان عن القوة والسلطة بطريقة فجة وغير تقليدية. وبالطبع لا يمكن نسيان همروجاته المبالغ فيها، سواء في مهرجان تسلّمه لرئاسة الاتحاد الذي شبهه النقّاد بحفل جلوس ملكي على العرش، أو في العرض العسكري الذي خطط له في عيد ميلاده مستلهماً في ذلك من عروض القوة التي كانت تميز الأنظمة الفاشيستية.

 

زفاف بيزوس، بكل تفاصيله المبالغ فيها من حجز الفنادق الفاخرة، وصولاً إلى اليخوت العملاقة والطائرات الخاصة، هو امتداد لهذا التوجه. إنه تأكيد على أن الثراء الفاحش لا يقتصر على الإنفاق الشخصي، بل يمتد إلى استعراض القوة والتأثير، كأنهم الأباطرة الجدد يقولون لبقيتنا: «نحن هنا، ونحن نحكمكم».

 

العلاقة الوثيقة بين بيزوس وإدارة ترامب، التي تجسدت في حضوره حفلات الرئيس، أضفت على هذا الزفاف بُعداً سياسياً، إذ على حد تعبير القس ستيفانو فيسينتين: «لا يمكننا القول إنها حفلة زفاف خاصة. فهؤلاء شخصيات سياسية».

 

ولا غرابة أن تدعى إلى الاحتفال إيفانكا ابنة ترامب وزوجها جاريد كوشنر، فالعائلة التي احترفت تسييل السياسة إلى محتوى تلفزيوني، تجد في هذه المناسبات امتداداً طبيعياً لمشروعها السفيه: النخبة لا تحكم خلف الكواليس، بل ترقص باستفزاز على المسرح.

 

بعيداً من النقد الأخلاقي، يثير هذا الزفاف تساؤلات حول الذوق والجماليات. بينما كان «الحد الأدنى» و«الرفاهية الهادئة» هي السائدة في مدة ما، يبدو أن عصر ترامب قد دشّن حقبة جديدة من «الذوق الرديء».

 

بدلاً من التقليل والتواضع، أصبحنا نرى استعراضاً كاملاً للثروة، مع بريق الذهب والألماس والفساتين الضيقة والشعر الكبير. هذا التوجه ليس مجرد تفضيل جمالي، بل هو انعكاس لتحوّل ثقافي أوسع، إذ أصبح التباهي بالثروة والجاه بفجاجة عديمة الذوق ليس فقط مقبولاً، بل علامة على القوة والنفوذ.

 

بيزوس، الذي تحوّل من رجل أعمال يرتدي سراويل الكاكي، إلى رجل مفتول العضلات يرتدي قمصان البولو الضيقة ونظارات الطيارين، أصبح بحكم هيمنة الإعلام الأميركي «رمزاً للأناقة» بطريقة غير متوقعة.

 

لكنها رمزية تعكس قوته ونفوذه، يمتلك بنفسه «واشنطن بوست» صحيفة العاصمة، وليس بالضرورة حسّ الموضة المتطور.

 

أما سانشيز، فقد فضلت دائماً الأحزمة ذات القطع الملحوظة من مسافة بعيدة، والفساتين المزخرفة، والكعب العالي، وخطوط العنق المنخفضة، وحواف الفساتين العالية، والمجوهرات الكبيرة.

 

خاتم خطوبة سانشيز الذي يقدر بنحو 30 قيراطاً، وقلادتها المرصعة بالألماس بحجم الهاتف المحمول، وحفلة عزوبيتها الباذخة في باريس بحضور نجمات مثل كيم كارداشيان وكريس جينر، وزيارة متجر «هيرميس» مع مديري العلامة التجارية، كلها أمثلة أخرى على هذا الاتجاه.

 

لم يعد الأمر في زمن ترامب يتعلق بالذوق الرفيع بالمعنى التقليدي، بل أصبح يتعلق بالظهور بموقع «القوي» و«المسيطر»، ولو على حساب الجماليات التقليدية.

 

في خضم هذا الاستعراض، تتراجع معاناة سكان البندقية إلى خلف كواليس المشهد. أعداد السكان تتضاءل في المركز التاريخي، من 100 ألف نسمة في الثمانينيات إلى أقل من 50 ألفاً اليوم، في حين تتزايد أعداد الأسرّة الفندقية والشقق السياحية بشكل جنوني.

 

البندقية، التي كانت ذات يوم نابضة بالحياة، تتحول ببطء إلى متحف مفتوح، يفتقر إلى الخدمات الأساسية لسكانها الأصليين العاجزين عن دفع إيجارات منازلهم.

 

شعور السكان بالخيانة والإهمال ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة عقود من سياسات ممنهجة تفضل السياحة على حساب رفاهية المواطنين.

 

الاحتجاجات في المدينة ليست فقط ضد بيزوس كشخص، بل هي ضد نظام يرى في المدن التاريخية مجرد خلفيات للأحداث الفاخرة، ويستغل هشاشة هذه الأماكن لخدمة مصالح الأثرياء. وعندما يصرّح المسؤولون المحليون بأن الزفاف سيجلب إيرادات كبيرة للمدينة (ما يصل إلى 40 مليون يورو)، فإنهم يغفلون الثمن الحقيقي: تآكل الهوية الثقافية للمدينة، وإزاحة سكانها الأصليين، وتحويلها إلى مجرد سلعة.

 

زفاف جيف بيزوس في البندقية ليس مجرد خبر عابر في صفحات المشاهير، ولا يتعلّق فقط بمالك «أمازون دوت كوم» كشخص، بل بما يمثّله: طبقة جديدة من الأوليغارشية الرقمية، تدمج بين الثروة الخارقة، والنفوذ السياسي، والذوق المبتذل.

 

إنه ترف ما بعد الحداثة، يمرّ فوق أجساد المياومين وسائقي التوصيل وعمال المستودعات. لا يلام بيزوس وحده، بل نلوم مدينة انحنت، ونظاماً قواداً غضّ الطرف، وثقافة انحطاط صارت تحتفل بكل ما كان يُدان. إنه تذكير قاسٍ لكل منا بواقع الرأسمالية في دورة تمظهرها الأميركي البشع: حيث الإمبراطورية تبنى على القوة السافرة، والتفاوت الاجتماعي الصارخ، وفساد النخب حدّ الرداءة.

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

7 وصايا ذهبية لإتقان فن الكتابة والتأليف

        نُقدِّم لك سبع نصائح ذهبية من “دار بسمة للنشر الإلكتروني” لتُصبح كاتبًا مبدعًا ومؤثرًا. هذه الوصايا هي بوصلتك لإتقان فن الكتابة ...