آخر الأخبار
الرئيسية » إقتصاد و صناعة » الاقتصاد السوري بين الانفتاح المشوَّه والانهيار المنظّم..!

الاقتصاد السوري بين الانفتاح المشوَّه والانهيار المنظّم..!

 

د. سلمان ريا

منذ أن بدأ وهج الاشتراكية يخبو في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كانت سوريا تتهيأ لتحول اقتصادي بالغ العمق لم يُصغ له مشروع نظري محكم، ولم يُواكب بإصلاح مؤسساتي جاد. بل جاء هذا التحول أشبه بانزلاق بطيء من منظومة مركزية مترهلة إلى فراغ تنظيمي فادح، حيث لم تنشأ أدوات سوق ناضجة ولا مؤسسات رقابية تكفل الحد الأدنى من العدالة أو الكفاءة. لم يكن الخروج من الاقتصاد الموجّه خطوة واعية نحو نمط جديد من التنمية، بل كان استسلامًا طويل الأمد لضغط الأزمات المتراكمة: انحدار متسارع في سعر الصرف، تضخم في النفقات العامة، تراجع مستمر في معدلات النمو، واتساعٌ مقلق في دائرة البطالة والاستثمار العشوائي.

في التسعينات، بدأ ما يمكن تسميته بـ”التحرر المتردد”، حيث خففت الدولة من قبضتها على بعض القطاعات، وسمحت بفسحات محدودة للقطاع الخاص، دون أن تتخلى فعليًا عن خطاب التخطيط المركزي أو تضع نظرية اقتصادية بديلة. فكان الناتج ما يمكن وصفه بـ”الليبرالية الرمادية”: واقع اقتصادي لا هو اشتراكي بالمعنى الإنتاجي، ولا هو سوق حرّ بالمعنى المؤسسي. بل نشأ نمط قائم على الامتيازات الممنوحة لأشخاص لا لمؤسسات، وعلى الريع المستتر لا على التراكم الإنتاجي، ما أنتج طبقة من “الوسطاء” الذين تربّحوا من الثغرات، وتغذّوا على ضعف البنى التنظيمية، لا على توليد قيمة مضافة حقيقية.

ومع مطلع الألفية، وبوصول بشار الأسد إلى الحكم، ارتفع منسوب الخطاب التحديثي، ورفعت شعارات “التحوّل نحو اقتصاد السوق الاجتماعي” بوصفه مسارًا جديدًا يجمع بين الديناميكية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. لكن الشعارات سرعان ما تكشفت عن فراغ بنيوي، إذ لم تُصغ سياسات مالية واقعية، ولا طُوّرت البنية الضريبية، ولا أُعيد تعريف وظيفة الدولة. بدلاً من ذلك، فُتحت البلاد على استثمارات مصرفية وعقارية وخدمية، غالبًا ما كانت قائمة على الامتيازات، بينما تراجع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة، وتُركت منظومة التعليم والبحث العلمي بلا تمويل يُذكر. نما اقتصاد سطحي، هشّ، متمركز في المدن الكبرى، لا قدرة له على امتصاص طاقات العمل ولا على تحفيز الابتكار أو خلق الثروة طويلة الأمد.

حين اندلعت الاحتجاجات عام 2011، لم يكن الاقتصاد السوري يقف على أرض صلبة، بل كان مُجوّفًا، متآكلًا، يعيش على تحالف هش بين السلطة والمال، فيما تآكلت الطبقة الوسطى واندمج أكثر من نصف اليد العاملة في القطاع غير الرسمي. لم تُحدث الأزمة اختلالًا جذريًا في النموذج القائم، لأنها ببساطة كشفت أن النموذج قد انهار قبل ذلك بسنوات. وهكذا، دخلت البلاد في طور “اقتصاد الحرب”، حيث تحوّلت موارد الدولة إلى وقود للمواجهة، وتراجع الاستهلاك المدني، وتصاعدت شبكات التهريب، وتحولت قطاعات بأكملها إلى أدوات تمويل للصراع.

ما أعقب الحرب لم يكن إعادة نظر في المشروع الاقتصادي، بل انهيار ما تبقى منه. صار الاقتصاد يُدار من أطراف متنازعة، كلٌّ له عملته، وأسعاره، وسوقه، وهيئاته الجبائية. لم تعد الدولة تمثل المركز الضابط، بل تحولت إلى مظلة لاقتصاديات محلية لا تخضع لمنطق الدولة، بل لمنطق السيطرة والولاء. تفككت البنية الإنتاجية، وتراجعت الزراعة والصناعة إلى مستويات خطيرة، في حين باتت الخدمات الأساسية تعتمد على المعونات أو التحويلات الخارجية. وغدت سوريا، في بنيتها الاقتصادية، خارطة من التناقضات: اقتصاد رسمي عاجز، وغير رسمي متمدد، ومليشيات مسلحة تحتكر الموارد، وسلطة نقدية فاقدة لأدوات التدخل.

في ظل هذه المشهدية، لا يمكن التفكير في “إصلاح اقتصادي” بالمعنى التقليدي، لأن ما جرى ليس انحرافًا عن النموذج، بل غيابٌ تام للنموذج نفسه. سوريا اليوم تقف أمام ضرورة وجودية: إعادة تأسيس الاقتصاد لا عبر شعارات مستعارة من التجارب الأجنبية، ولا عبر العودة إلى بيروقراطيات الماضي، بل من خلال إنتاج نموذج سيادي أصيل، يقوم على اللامركزية الإنتاجية، والعدالة التوزيعية، وتمكين المجتمعات المحلية، واستعادة الدولة لدورها كمنظّم لا كمستثمر، وكحكم لا كطرف.

إن الأرقام ليست سوى انعكاسات سطحية لما يجري في العمق. والخلل في الاقتصاد السوري لم يكن في انخفاض الناتج المحلي فحسب، بل في المعايير التي حُدد بها هذا الناتج، وفي الفجوة بين ما يُعلن وما يُبنى على الأرض. لقد غابت الرؤية، وغابت معها الدولة كمؤسسة اقتصادية، وحلّت محلها شبكات المصالح والغنائم. ومن هنا، لا يعود السؤال المطروح: كيف نزيد النمو؟ بل: كيف نعيد التوازن بين السوق والمجتمع، بين الحرية والتنظيم، بين الحق في الربح والحق في الكرامة. الاقتصاد، في نهاية المطاف، ليس مجرد مجموع صفقات، بل هو ترجمة دقيقة لعقد اجتماعي يضمن الأمن والفرص والكرامة. وما لم يُعاد التفكير بهذا العقد من جذوره، ستظل الأزمات تعيد إنتاج نفسها مهما تغيّرت الأدوات.

 

 

 

(موقع اخبار سوريا الوطن-2)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القرار 68/م ن الصادر عن المصرف المركزي عام 2022 ..إرهاق غير مبرر للسوريين فهل يعاد النظر به؟!

    د.دريد درغام     في الثالث من نيسان 2022 كان سعر الدولار بجوار 4 آلاف ليرة. في ذلك اليوم رفع مصرف سورية المركزي ...