انس جوده
في كل لحظةِ تحول، تُطرَح شعارات القطيعةِ مع الماضي بوصفِها شرطا للتقدم . وتخرجُ مقولاتٌ عن “كسرِ السلسلةِ”، وعن “التحرُّرِ من كل ما مضى”، و”تأسيس جديد من خارجِ كل الإرثِ”، وتعدُنا بمستقبلٍ نقي بلا شوائبَ للتاريخِ.
فعلَها البعثُ سابقًا، حين هدمَ كلَّ البُنى التي سبقَته، ثم عادَ إليها مُرغمًا بطريقةٍ مشوَّهَةٍ. واليومَ يتكرَّرُ هذا الخطابُ نفسُه، الذي، رغم تأثيرِه التعبويِّ والشعبويِّ، لا يصمُدُ أمامَ اختبارِ البناءِ الفعليِّ للمجتمعاتِ الخارجةِ من الصدماتِ.
فما يُقدَّمُ بوصفِه قطيعةً، ينتهي غالبا إلى إعادةِ إنتاجِ صِيَغِ الماضي بأدوات جديدة، وبعُنف أشد.
لا يمكنُ للمجتمعاتِ أن تنجحَ حين تُنكِرُ ماضيَها، ولا أن تنمو عبرَ محوه، بل عبرَ تحوُّلاتٍ تراكميَّةٍ تُؤسَّسُ على التجاربِ السابقةِ، بكلِّ ما فيها من أَلَمٍ ومعنًى ونجاحٍ. فالتغييرُ الحقيقيُّ يبدأ حين نفهمَ هذا الماضي، ونُفكِّكَـه، ونعيدَ تشكيلَه.
*القطيعةُ تُنتِجُ شعاراتٍ، أمّا التحوُّلُ فيُنتِجُ وعيًا.
*القطيعةُ تهدمُ الهويّةَ، أمّا التحوُّلُ فيُعيدُ تركيبَها.
*القطيعةُ تخلُقُ فراغًا، أمّا التحوُّلُ فيبني بُنيةً قابلةً للحياةِ.
مسارُ التاريخِ يتناقضُ مع فكرةِ القطيعةِ، فهو يعودُ بطريقة دائرية دائماً إلى النقطةِ نفسِها، ولكن بقراءةٍ مختلفةٍ.
ومن هنا، فإنّ سوريا (وكلَّ المجتمعاتِ الخارجةِ من الصراعِ) لا تحتاجُ إلى قطيعةٍ، بل إلى إعادةِ بناءٍ من داخلِ الجُرحِ، ومن قلبِ التجربةِ نفسِها، عبرَ الانفتاحِ على قراءتِها، وفهمِها، واستيعابِ تحوُّلاتِها.
لا نُكرِّرُ ما مضى، ولا نُلغيه، بل نَحمِلُه بوعيٍ جديدٍ.
أمّا القطيعةُ، فلا تُعبِّرُ إلّا عن استسهالٍ، وغُرورٍ شديدٍ، بأنّ النموذجَ الجديدَ كاملٌ مُتكاملٌ، لا يحتاجُ لدروسِ الماضي، ولا لعِبَرِه.
(اخبار سوريا الوطن ٢-صفحة الكاتب)