أحمد العبد
تمضي إسرائيل قدماً في تطبيق مخططاتها الهادفة إلى ضم الضفة الغربية وفرض «السيادة» عليها، وتهويد المواقع الدينية والثقافية والتاريخية فيها. ويبدو، في هذا السياق، أن المستوطنين هم عنوان المرحلة؛ إذ تعمل إسرائيل بكامل أذرعها ومؤسساتها ومقدّراتها لخدمتهم وتقويتهم، وهو ما انعكس أخيراً بفرض سلطات الاحتلال تغييراً غير مسبوق في الوضع القائم داخل الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل.
وبحسب صحيفة «يسرائيل هيوم»، يشمل التغيير المشار إليه سحب الصلاحيات من بلدية الخليل ونقلها إلى ما يُسمى «المجلس الديني في مستوطنة كريات أربع – الخليل»، تحت إشراف الإدارة المدنية التابعة لجيش العدو، وذلك تمهيداً لتنفيذ تغييرات إنشائية واسعة داخل الحرم، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ قرارات «لجنة شمغار» عام 1994، والتي تم بموجبها تقسيم الحرم بين المسلمين واليهود، عقب مجزرة «باروخ غولدشتاين».
وكانت الإدارة المدنية تسعى، منذ مدة، إلى إجراء تغييرات «جوهرية» في الحرم، تشمل إقامة سقف دائم لساحة «يعقوب»، التي يسيطر عليها المستوطنون ويؤدون فيها صلواتهم طوال 90% من أيام السنة، بعدما أنشأت السلطات الإسرائيلية، في وقت سابق، «سقفاً مؤقتاً» ومفتوحاً جزئياً في المكان. كما تشمل التغييرات تركيب منظومة متطورة لإطفاء الحرائق، يعارضها الجانب الفلسطيني بشدة، في وقت ادعت فيه الصحيفة أنّ عدم وجود مثل تلك المنظومة يشكّل «خطراً على الأرواح»، علماً أن كاميرات المراقبة الأمنية ظلت، حتى وقت قريب، في أيدي موظفي الأوقاف الإسلامية، ما استوجب في حالات الطوارئ تسليم المفاتيح من قبلهم للاحتلال الإسرائيلي.
وأشارت الصحيفة العبرية إلى أن القرار جاء عقب اجتماع وصفته بـ«الدراماتيكي» بقيادة وزير حرب الاحتلال، تمت خلاله إزالة العقبات القانونية التي منعت في السابق سحب الصلاحيات من بلدية الخليل والأوقاف الإسلامية، ونقلها رسمياً إلى «المجلس الديني»، ما يعني، عملياً، أن الإشراف على الحرم لم يعد بيد أي جهة فلسطينية، بما في ذلك الإدارة المدنية نفسها.
وفي حديث إلى «إسرائيل هيوم»، رحّب شاي غليك، مدير منظمة «بتسلمو» اليهودية الاستيطانية، بالخطوة، معتبراً أن «الحرم الإبراهيمي مسجل في (الطابو) باسم الشعب اليهودي منذ سفر التكوين». وهاجم غليك ما وصفه بـ«القرار المشؤوم لموشيه ديان»، والذي منح الأوقاف الإسلامية السيطرة على المكان، مضيفاً: «آن الأوان لأن يصبح الحرم مثل أي قبر لرجل صالح في إسرائيل: مغطى، مكيّفاً، مزوّداً بخدمات ومرافق»، قبل أن يختم بالقول: «لقد حان وقت السيادة».
وعلى ما يبدو، بدأت السلطات الإسرائيلية بتنفيذ القرار على الأرض؛ إذ افتُتحت، الأحد، وحدات مراحيض جديدة عند سفح المبنى داخل ساحة الحرم، في استجابة لمطلب قديم للمستوطنين الذين اشتكوا من الحاجة إلى المشي لمسافات طويلة للوصول إلى دورات المياه في الساحة، في وقت يرفض فيه الفلسطينيون تلك الخطوة، باعتبار أنها «تفرض تغييراً في الواقع القائم داخل الحرم».
اعترفت «اليونسكو» بالحرم الإبراهيمي ووضعته على لائحة التراث الحضاري لعام 2017
وفي هذا الإطار، يوضح مدير الحرم الإبراهيمي، معتز أبو اسنينة، لــ«الأخبار»، أنّ الأوقاف الإسلامية وبلدية الخليل لم تُبلّغ إلى الآن بأي قرار رسمي، لافتاً إلى أنّ جميع المعطيات محصورة بما يتداوله الإعلام العبري. ويستدرك أبو اسنينة بأنه «إن حصل هذا القرار – لا سمح الله – سيكون هناك تخوف حقيقي من فرض الاحتلال أمر واقع جديداً على الحرم، مشابهاً لما حصل عقب المجزرة التي وقعت عام 1994، ما سيشكل خطورة على المكان المقدس»، مؤكداً أن «الحرم الإبراهيمي هو ملكية وقفية للمسلمين، وليس لغيرهم الحق فيه، وهو مكان ديني وتاريخي وأثري معترف به من المنظمات الحقوقية والدولية، وعلى رأسهم منظمة (اليونسكو)، التي وضعته على لائحة التراث الحضاري لعام 2017، ولذلك لا يجوز للاحتلال أو غيره المساس بهذا المكان المقدس».
على أنّ الاحتلال «لا يأبه» بأي من تلك الوقائع، بحسب أبو اسنينية، الذي يشير إلى أنّ السلطات الإسرائيلية تقوم، بشكل دائم، بحفريات في ساحات الحرم، وتنشئ تمديدات كهربائية وتعبث بشبكات المياه وتتعدى على صلاحيات البلدية، مضيفاً أنّ وتيرة تلك الإجراءات تصاعدت بعد الـ7 من أكتوبر. ويحذر أبو اسنينة من أنّ الاحتلال يحاول استغلال ظروف الحرب وانشغال العالم بها لتمرير مخططاته، داعياً إلى «شد الرحال إلى المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، لتفويت الفرصة على العدو، والتصدي لمحاولات تهويد ما تبقى من أجزاء الحرم ودعم صمود الأهالي في البلدة القديمة».
على أنّ المحاولة الأخيرة لتغيير هوية الحرم الإبراهيمي لا تعدّ سابقةً من نوعها؛ إذ تعرض الأخير بشكل خاص، ومحيطه في البلدة القديمة في الخليل بشكل عام، لهجمة استيطانية كبيرة منذ احتلال الضفة الغربية. هكذا، زرع العدو في المدينة نحو 400 مستوطن، وسط انتشار لمئات الجنود وعناصر الشرطة لتوفير الحماية لأولئك، إضافة إلى نشر عشرات الحواجز العسكرية، والتضييق على الفلسطينيين الذين اضطروا إلى إغلاق مئات المحال التجارية وهجر البلدة القديمة.
وفي أعقاب المجزرة الدموية الشهيرة التي ارتكبت داخله، وأسفرت عن استشهاد 29 مصلياً، قسمت دولة الاحتلال الحرم، عام 1994، إلى قسمين، بواقع 63% لليهود و37% للمسلمين، علماً أنّها كانت قد أغلقته والبلدة القديمة لمدة ستة أشهر كاملة بدعوى «التحقيق في الجريمة». ويضم القسم الذي سيطرت عليه إسرائيل مقامات وقبور أنبياء، منها قبر النبي إبراهيم وزوجته سارة، وقبر حفيده يعقوب وزوجته ليئة، وقبر النبي يوسف بن يعقوب، إضافة إلى صحن الحرم.
كما شرعت سلطات الاحتلال عام 2021، في تنفيذ مشروع تهويدي على مساحة 300 متر مربع من ساحات الحرم ومرافقه، يشمل تركيب مصعد كهربائي، لتسهيل اقتحامات المستعمرين. وهي حاولت أيضاً، مطلع العام الجاري، سقف صحنه للإضرار بمكانته التاريخية والتراثية، والتعدي على الصلاحيات التي تمتلكها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بشكل حصري، جنباً إلى جنب إغلاق المكان أمام المصلين المسلمين ومنع رفع الأذان مرات عدة.
ورداً على الأنباء الأخيرة، عقدت محافظة الخليل، الأربعاء، اجتماعاً لمناقشة القرار، قبل أن تصدر بياناً تؤكد فيه أن ما يجري الحديث عنه يُعَدّ امتداداً لسياسات «فرض الأمر الواقع وإعادة إنتاج الاستعمار» في قلب الخليل، وأن محاولة الاحتلال الأخيرة «تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولا سيما (اتفاقيات جنيف الرابعة)، والتي تحظر على قوة الاحتلال إجراء تغييرات إدارية أو قانونية في الأراضي المحتلة».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار