المهندس نضال رشيد بكور
شهدت العاصمة السورية دمشق خلال اليومين الماضيين زخماً إعلامياً كبيراً حول مشاريع استثمارية ضخمة أُعلن عنها ضمن فعاليات
منتدى الاستثمار السوري / السعودي ، الذي أسفر عن توقيع عشرات الاتفاقيات بمليارات الدولارات .
شملت بناء ناطحات سحاب ، مترو حديث ، مطارات ، ومدن طبية وثقافية وترفيهية وجميعها في محافظة دمشق.
رغم أهمية هذه الخطوة كمؤشر على بداية تعافٍ اقتصادي وجذب رؤوس أموال عربية ، إلا أن تركيز جميع المشاريع في العاصمة يثير تساؤلات جدية حول العدالة التنموية والتوازن الاقتصادي والاجتماعي في البلاد .
في غياب التوازن الجغرافي وتكثيف الاستثمارات في دمشق حصراً يعيد إنتاج المركزية المفرطة ، ويغيب عنه أي تصور لخارطة تنمية وطنية شاملة ..
مدن مثل حلب ، حمص ، دير الزور ، اللاذقية ، وحماه ، لم تحظَ بأي اهتمام استثماري يُذكر ، رغم إمكانياتها الزراعية والصناعية والسياحية.
واللافت أن مدينة حلب تحديداً ، قدمت في المنتدى دراسات وعروضاً واضحة حول فرص استثمارية متاحة لديها ، إلا أن ذلك لم يُترجم إلى اعتماد أي مشروع فعلي فيها ، على غرار ما حدث في دمشق التي حصدت وحدها عشرات المشاريع بمليارات الدولارات .
هذا التجاهل ، إذا استمر ، يُنذر بتهميش اقتصادي طويل الأمد لملايين السوريين في الأرياف والمحافظات البعيدة ..
حصر فرص العمل والتطوير العمراني في دمشق سيؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية وإلى نزوح داخلي من المحافظات ، مما يفاقم الضغط على خدمات العاصمة ، من إسكان وماء وكهرباء ونقل ، ويخلق بيئة مكتظة ومهددة بيئياً واجتماعياً بالمقابل ، سيؤدي هذا إلى اتساع الفجوة بين
*سوريا العاصمة وسوريا الأطراف*
وظهور طبقات مخملية في مقابل غالبية شعبية تعيش تحت خط الفقر.
في أنظمة سياسية تتمتع باللامركزية ، كالنموذج الإماراتي وغيرها ، تمتلك كل إمارة أو محافظة صلاحيات مستقلة واسعة في المجال الاقتصادي والتنموي ، مما يتيح لها استقطاب الاستثمارات وتنفيذ المشاريع بما يتناسب مع أولوياتها وخصوصيتها
أما في النظام الجمهوري المركزي كما هو الحال في سوريا ، فإن القرار الاستثماري ، ومصادر التمويل ، وتحديد الأولويات ، كلها محصورة بيد الحكومة المركزية ، ما يعقّد الوصول إلى تنمية متوازنة وشاملة.
اللافت أن معظم هذه المشاريع لم يُعلن عن تفاصيل تمويلها ، أو طبيعة الشراكة فيها ، أو معايير اختيار مواقعها .
هذا الغموض لا يساعد فقط على تقويض ثقة الشارع ، بل لانعدام الشفافية والرؤية
و يثير مخاوف مستثمرين أجانب يتطلعون إلى بيئة استثمارية واضحة وعادلة. كما يشير إلى غياب رؤية تنموية حقيقية ، واستمرار سياسة ردّ الفعل بدلاً من التخطيط الاستراتيجي.
ربما يسأل سائل وما المطلوب؟
إذا كانت سوريا مقبلة فعلاً على مرحلة تعافٍ اقتصادي ، فإن إعادة بناء الدولة لا تبدأ من ناطحات السحاب في العاصمة …
بل من استعادة التوازن التنموي بين المحافظات . المطلوب اليوم هو إطلاق *خطة استثمار وطنية شاملة تُوزّع المشاريع وفق أولويات المحافظات* وتربط التنمية بالبنى السكانية والاجتماعية ، وتُدار بشفافية وشراكة حقيقية مع المجتمع المحلي
كذلك ، من الضروري إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين المركز والمحافظات ، بما يتيح لكل منطقة هامشاً من الاستقلالية الاقتصادية والتنفيذية ، يمكنها من تطوير نفسها وفقًا لمواردها واحتياجاتها. وفي ظل النظام الجمهوري المركزي ، لا يمكن لهذا النموذج أن ينجح إلا بدعم مباشر وواضح من الحكومة المركزية لهذه المشاريع اللامركزية ، من حيث التمويل ، التشريع ، والتسهيل الإداري
فالمركز لا يجب أن يكون مجرد منفذ وحيد للمشاريع
بل شريكاً وداعماً لرؤية تنموية وطنية تشاركية تشمل كل الجغرافيا السورية.
وهنا يبرز سؤال جوهري: لماذا لم يُرفَق هذا الانفتاح الاستثماري السعودي على سوريا بوديعة نقدية في البنك المركزي السوري ، كما جرى في حالات سابقة مشابهة في مصر على سبيل المثال؟؟؟
فالاستثمارات ، رغم أهميتها وأثرها المستدام ، تحتاج لسنوات كي تؤتي ثمارها .
أما الوديعة النقدية فهي أداة فورية لتعزيز الثقة ، دعم سعر الصرف ، وضبط الأسعار ، وتمهيد الطريق أمام هذه الاستثمارات ذاتها …
غياب هذا النوع من الدعم العاجل يطرح تساؤلات حول مدى النضج والثقة في الشراكة الاقتصادية الحالية ، وإن كانت السياسة ما تزال تتقدم على الاقتصاد في رسم شكل هذا التعاون.
وأخيراً نقول :
دمشق تستحق النهوض ، لكن لا يمكن لبلد أن يتعافى من أزماته ببناء *عاصمة مثالية* وترك باقي جغرافيته تتخبط في التهميش والفقر .
العدالة في توزيع التنمية هي الضامن الوحيد لنمو مستدام واستقرار حقيقي. أما بناء الاقتصاد على نموذج مركزي هش ، فقد يقود إلى نهوض شكلي ، تعقبه أزمات أعمق .
فسوريا لكل أبنائها ، لا لعاصمتها فقط .
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)