يكشف وزير الثقافة غسان سلامة الوجه الخفيّ من رحلة زياد الرحباني الأخيرة بين الصمت والوجع.
كان وقع الخبر قاسياً… لا يشبه إلا صوت زياد حين يتهجّى وجع الوطن على خشبة مسرح أو في زقاق معتم. رحل الرجل الذي طالما خاف عليه محبّوه من الرحيل، لا لأنه كان مريضاً فقط، بل لأنه كان كنزاً حيّاً نادراً، لا يُعوَّض.
في هذه اللحظة الثقيلة، لم يكن وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة مسؤولاً يتحدّث عن فقدان فنان، بل بدا كمن يتحدث عن عبقريّ حمل هموم الناس على كتفيه… وغادر بصمت.
في هذا الحوار الحصري مع “النهار”، يفتح سلامة قلبه وذاكرته، متحدثاً عن الساعات الأخيرة، وعن التردّد المؤلم بين العلاج والاستسلام، وعن زياد كما لم نعرفه من قبل: الإنسان، والعبقري، والمفكّر، والابن الذي لم يكن يشبه أحداً.
منذ اللحظة الأولى لتولّيه وزارة الثقافة، لم يُخفِ الوزير غسان سلامة إحساسه بأن الحالة الصحية للفنان زياد الرحباني تحمل قلقاً وجودياً عميقاً، عبّر عنه بقوله: “كان هذا الهاجس يرافقنا منذ فترة، وقد عبّرنا عنه بوضوح، لما نعرفه من صعوبة الوضع الصحّي الذي كان يعيشه زياد الرحباني في الآونة الأخيرة”.

معاناة طويلة وعلاج معقد
في اتصال هاتفي مع “النهار”، يفتح الوزير سلامة صفحات موجعة من معاناة زياد مع المرض، مؤكداً أن الراحل كان بحاجة إلى زرع كبد، “وهي عملية معقّدة تتطلّب انتظاراً طويلاً، ومتابعة طبّية دقيقة، وأيضاً وجود الكبد المناسب للزرع، وهو أمر قد يطول انتظاره في كثير من الحالات”، بحسب تعبيره.
ويلفت سلامة إلى أنّ “زياد لم يكن حاسماً في موقفه من العلاج، بل “كان متردداً، بين قبول هذه التجربة الطبية الصعبة وبين رفضها، كانت أفكاره في الفترة الأخيرة متناقضة حيال الموضوع. هو بنفسه عبّر عن هذا التردّد”.
ويكشف الوزير أن محاولات جديّة جرت لإقناع زياد بمتابعة العلاج عبر الدائرة الأقرب من أصدقائه: “كانت تتم عبر مجموعة من الأصدقاء المقرّبين منه. هم الذين كانوا يتواصلون معه، ويبحثون في شأن العلاج. وكانت تصلني أفكار كثيرة منهم حول ما يمكن فعله”.
هؤلاء الأصدقاء، بحسب سلامة، “ظلّوا إلى جانبه حتى اللحظات الأخيرة، وكانوا يبذلون جهداً كبيراً لإقناعه بمتابعة العلاج”.
ورغم ذلك، لا يدّعي الوزير أنه يعرف تفاصيل الحالة النفسية التي كان يعيشها زياد، إذ يقول بصراحة: “لا أستطيع أن أجزم بذلك على المستوى الشخصي، لأني لم أعرفه عن قرب كافٍ يتيح لي تقدير حالته النفسية. كما تعلمين، أنا كنت أعيش خارج لبنان لفترة طويلة. لكن، من دون شك، منذ تولّيتُ وزارة الثقافة، ومنذ اليوم الأول، بدأتُ الاهتمام بوضعه الصحّي بناءً على ما أخبرني به أصدقاؤه”.
عبقري متعدّد المواهب
أما عن الإرث الفني والفكري الذي يتركه زياد، فيرسم سلامة صورة شاملة ومفعمة بالتقدير: “زياد كان أكثر من شخص في جسدٍ واحد. أولاً، كان عبقرياً منذ سنواته الأولى. في سن العاشرة والحادية عشرة، كتب أغنيات ووضع لها موسيقى. هذا نوع من العبقرية المبكرة لا نراه إلا عند الكبار من أمثال زياد”.
ويضيف: “كان كاتباً، ومغنياً، وملحّناً، ومسرحياً. طوّر الفن الذي أسّسه والده عاصي وعمّه منصور، وأضاف عليه. وسّع دائرة جماهيرية فيروز لتشمل فئة الشباب، وهذا إنجاز كبير يُحسب له”.
ولا يتوقّف الإعجاب عند الإبداع الموسيقي فقط، بل يتعداه إلى الفكر والرؤية الاجتماعية والسياسية: “كان قادراً على استيعاب الواقع الاجتماعي اللبناني بتفاصيله الصغيرة، ثمّ التعبير عنها بسخرية عميقة. هذه السخرية لم تكن تهكّماً فارغاً، بل انعكاس لدقّة معرفته بالمجتمع الذي عاش فيه. كان لديه موقف من فلسطين، من القضايا العربية، من المجتمع اللبناني وتحوّلاته، وكان يفكر بعمق”، بحسب سلامة.
ويختم هذا الوصف الشامل بقوله: “لم يكن موسيقياً عادياً، بل كان مفكّراً، وناقداً اجتماعياً، ومراقباً سوسيولوجياً، بالإضافة إلى عبقريته الفنية”.

ماذا عن توثيق الإرث الفنّي؟
في ما يتعلق بالحفاظ على إرث زياد، يؤكّد الوزير أن وزارة الثقافة لا يمكنها التحرّك منفردة لأن “هناك ما يُعرف بالملكية الفكرية التي تعود إلى عائلة الراحل”، مضيفاً: “نحن نحترم تماماً هذه الملكية وحقوق الورثة. لذا، فإن أيّ خطوة ستقوم بها وزارة الثقافة ستكون ضمن هذا الإطار القانوني والأخلاقي”.
ويُبدي استعداداً كاملاً للتعاون مع عائلة زياد إذا قررت توثيق الإرث: “إذا قرّرت عائلة زياد أن تتعاون معنا لتوثيق هذا الإرث، فإن الوزارة مستعدّة تماماً للقيام بدورها في الرقمنة، والحفظ، والتبويب، ضمن إطار المكتبة الوطنية اللبنانية”.
تكريم في الأفق
أما عن التكريم الرسمي، فيؤكد سلامة أن التواصل جارٍ مع الجهات المعنية لوضع الترتيبات المناسبة، قائلاً: “زياد يستحق أكثر من تكريم، بل يستحق تكريماً متكرراً، على مدى الأشهر والسنوات المقبلة، وليس فقط في اللحظة الآنية”.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _النهار اللبنانية