آخر الأخبار
الرئيسية » عربي و دولي » تراجع مؤقّت عن التجويع: إسرائيل تلمّع صفحتها

تراجع مؤقّت عن التجويع: إسرائيل تلمّع صفحتها

 

يحيى دبوق

 

 

مع شبه الانهيار الذي أصاب المفاوضات القائمة في الدوحة، سرت توقّعات حول احتمال بدء إسرائيل مرحلة تصعيد عسكري واسع النطاق في قطاع غزة، ولا سيما أن رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، أعلن أن «الحرب ستستمرّ»، وأن «حماس ستدفع الثمن»، مكرّراً الموقف نفسه في اتصال مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي هدّد، بدوره، الحركة بعواقب وخيمة. والواقع أن كلّ المؤشرات التي أعقبت ذلك دلّت على الاتجاه نحو التصعيد، بما يشمل حملة تجويع وقتل، وتدميراً شاملاً للبنية التحتية، وربّما أيضاً احتلالاً دائماً للقطاع.

 

لكن ما حدث لاحقاً كان النقيض؛ إذ أعلنت إسرائيل عن سلسلة خطوات تُشبه الانسحاب التكتيكي: هُدن إنسانية يومية تصل إلى عشر ساعات؛ إسقاط سريع لمساعدات إنسانية من الجوّ؛ فتح المعابر أمام قوافل الأمم المتحدة بالمئات؛ توصيل الكهرباء لمحطة تحلية المياه، وغيرها الكثير.

 

وبدا هذا التحوّل مفاجئاً، خصوصاً بعدما اتُّخذ القرار به على عجل، ومن دون إعداد مسبق؛ وكأنّ إسرائيل، التي كانت تُهدّد بالحديد والنار، قرّرت النزول عن الشجرة العالية جداً التي صعدت إليها قبل أيام قليلة فقط، وهو ما يطرح السؤال عن سبب تراجعها؟ لعلّ واحداً من أسباب ذلك، هو مستويات الجوع في غزة، الموثّقة، والظاهرة على جثث الأطفال؛ فلم تكن صورة جثة الطفلة زينب أبو حليب، التي ماتت جرّاء سوء التغذية والجوع، مُحرَّفة، بل شهادةً على سياسة دولة تتعمّد تجويع شعب. أيضاً، تؤكد شهادات الأطباء في مستشفيات غزة، وتقارير «منظمة الصحة العالمية»، وتحقيقات الأمم المتحدة، أن غزة تعيش مجاعة حقيقية، ناتجة من حصار مُحكم وقصف ممنهج ومنع متعمّد للمساعدات.

 

وقد كان لتصاعد الانتقادات على خلفية ذلك، خلال الأسبوعَين الماضيَين، وقعٌ حاسم في الاتجاه المذكور. فإسرائيل، التي سعت طويلاً للتموضع كضحية، صار يُنظر إليها في المحافل الدولية، على أنها الطرف المسؤول عن كارثة إنسانية تتّسع وتتمدّد يوميّاً. وهكذا، أعلنت دول وازنة رفضها القاطع سياسةَ التجويع، مطالبة بوقفها فوراً، فيما ذهبت فرنسا، مثلاً، إلى حدّ إعلان نيّتها الاعتراف بدولة فلسطين، في أيلول المقبل. وفي الموازاة، برزت تحوّلات ملموسة في الرأي العام العالمي، عُدّت مؤشراً خطيراً إلى تآكل الشرعية التي كانت تستند إليها سياسات الحصار والتصعيد.

 

لكن، هل هذا كافٍ كي تغيّر إسرائيل سياساتها وتوقف وحشيّتها؟ الإجابة هي: «لا مشدّدة»؛ إذ، ومن المنظور الإسرائيلي، فإن هذا هو أسوأ سيناريو يمكن أن تواجهه في هذه الحرب، باعتبار أن مصلحتها الإستراتيجية ليست تدمير البنية العسكرية لحركة «حماس» فحسب، بل أيضاً كسر إرادة الصمود لدى الفلسطينيين، وإثبات كلفة المقاومة الباهظة ولا جدواها، ودفع أهل القطاع إلى القبول بـ«الواقع» الذي تفرضه هي عليهم.

 

وعليه، فإن التراجع عن سياسة الحصار والتجويع، بالصورة المفاجئة تلك، من شأنه، في نظر الاحتلال، إحداث أضرار استراتيجية على أكثر من صعيد:

أولاً، يمكن «حماس»، وهو كذلك، أن تفهم التراجع على أنه نتيجة للصمود في وجه الضغوط القصوى، وأن الصمود نفسه يؤدي إلى نتائج. فالمقاومة، على الرغم الخسائر الباهظة والثمن البشري الهائل، تمكّنت من دفع إسرائيل إلى التراجع في اللحظة التي كانت تُعِدّ فيها للتصعيد، وهو ما يعني أن الاستمرار في المقاومة قد يُفضي إلى نتائج أفضل من الاستسلام أو التفاوض تحت وطأة الإخضاع.

 

لا يعني هذا التراجع أن إسرائيل تخلّت عن سياسة التجويع بالمطلق

 

ثانياً، يُضعف القرار موقف إسرائيل وتموضعها الحربي – القتالي، إذ إن إقدامها على تعطيل أداة فاعلة في الضغط – وهي التجويع -، سيفتح الباب أمام قراءة جديدة: أن الإرادة الإسرائيلية ليست بمنأى عن التأثّر، وأنها قابلة للانكسار تحت وطأة التداعيات الإنسانية والسياسية. ومَن يُجبَر على التراجع في معركة الجوع، ربّما يُجبَر لاحقاً على التراجع في الحرب نفسها، وفي أهدافها المعلنة.

 

ثالثاً، يحمل القرار تداعيات داخلية خطيرة على بنيامين نتنياهو. فالتراجع عن سياسة وصفها قادة إسرائيل بأنها «جزء من الحرب»، يعني مواجهة غضب شركاء الائتلاف الحاكم، واحتقان الجمهور اليميني الذي يرى في أيّ تنازل «استسلاماً أمام الفلسطينيين».

ومن هنا، يُطرح السؤال عن مغزى قبول تل أبيب، التي تصرّ على القوّة المطلقة، بأن تتراجع في ذروة الضغط، خصوصاً في ظلّ صمود «حماس» تفاوضيّاً؟ المصلحة الإسرائيلية الابتدائية، كانت الامتناع عن هذا التحوّل والإبقاء على سياسة التجويع والحصار بلا تغيير، بل وتشديدها، باعتبار أن التجويع هو السلاح الأنجع لفرض الاستسلام التدريجي.

 

على أن الإجابة على تلك الإشكالية لا يكمن في فرنسا، ولا في خطابات رئيسها، إيمانويل ماكرون، وتأييده الاعتراف بدولة فلسطينية، ولا في مقالات الصحافيين الغربيين، ولا حتى في معركة الرأي العام التي تُخاض على منصّات التواصل، بل عند دونالد ترامب. فالرئيس الأميركي، وحده، يمتلك القدرة والتأثير على فرض قرار على نتنياهو، بما يتناقض مع رؤية الأخير الاستراتيجية ويهدّد استقرار حكومته، ويُعدّ في نظر قاعدته السياسية «خيانة» للخطّ الأيديولوجي الصهيوني.

 

وعلى الرغم من أنه ليست ثمة معطيات إلى الآن تشير إلى أن ترامب كان وراء تراجع الحصار الإسرائيلي، فإن ذلك هو التفسير الأرجح والأكثر معقولية، إذ يبدو أن الاتصال الهاتفي الأخير بين الجانبَين، لم يكن مجرّد تبادل للآراء أو تنسيقٍ كما المعتاد، بل، على الأرجح، كان إملاءً سياسيّاً مباشراً، من القوّة الوحيدة التي لا يمكن نتنياهو تجاهلها: أميركا – ترامب.

 

ودعماً لهذا التقدير، كشف مصدر إسرائيلي رفيع، لقناة «كان»، أن الهدف من الهدنة الإنسانية ليس تخفيف الجوع، بل «تزويد الولايات المتحدة بحبل إنقاذ يمكنها من خلاله الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية»، نظراً إلى أن تل أبيب هي المسؤولة عن الكارثة الإنسانية في القطاع. وهذه المعلومة ليست تفصيلاً إضافيّاً، بل تمثّل اعترافاً صريحاً من داخل المؤسسة الإسرائيلية بأن القرار لم يُتّخذ من منطلق إنساني أو عسكري، بل لتمكين ترامب من مواصلة دعمه لإسرائيل من دون أن يُتهم بأنه يُغطي على جريمة حرب.

 

مع ذلك، لا يعني هذا التراجع أن إسرائيل تخلّت عن سياسة التجويع بالمطلق، إذ إن ما حدث لا يعبّر عن اعتراف بالخطأ، أو تحوّل في السياسات، بل هو انسحاب تكتيكي مدروس، ومؤقت، يُتوقّع أن ينفّذ بدقّة: توزيع المساعدات الإنسانية بعناية، والتباهي بها إعلاميّاً كإثبات على إنسانية إسرائيل، بينما تُبقي الأخيرة عينها على المتغيّرات والفرص المناسبة، لإعادة العمل بسياسة التجويع كسلاح ووسيلة قتالية، تمتهنها.

 

وما لم يكن لدى ترامب توجُّه مغاير، ستكون هذه هي وجهة إسرائيل لما سيلي، بعد هدوء العاصفة خارجيّاً. وحينها، ستعود، بلا تردّد، عقارب الساعة إلى الوراء، وستلجأ إسرائيل إلى أيّ سبب لإعادة إغلاق المعابر ومنع دخول شاحنات الإغاثة، وتستأنف من جديد حصارها للشعب الفلسطيني وتجويعها إياه، ليعاد اجترار السردية إياها: الجوع كذبة ودعاية، و«حماس» تسرق المساعدات. وبالنتيجة، يظلّ التجويع لدى إسرائيل سلاحاً وهدفاً.

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حل الدولتين… وزراء يجتمعون في الأمم المتحدة للمشاركة في مؤتمر بشأن إسرائيل والفلسطينيين

  يجتمع عشرات الوزراء في الأمم المتحدة اليوم الاثنين لحضور مؤتمرٍ مُؤجَّلٍ يهدف إلى دفع الجهود نحو التوصل إلى حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، إلا ...