يوسف فارس
بدت زيارة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إلى مراكز «مؤسسة غزة الإنسانية» الأميركية، إعلاناً بتقييد ظاهري للتفويض المفتوح الذي منحته إدارة الرئيس دونالد ترامب، للحكومة الإسرائيلية لحسم الحرب في غزة. فقبل أربعة أشهر، تسلّح وزير المالية، بتسلئيل سموترتش، بأعلى مستويات اللامبالاة الأميركية، وأعلن في خطابه الشهير «حبة القمح»، عن بدء مرحلة التجويع، قائلاً في حينه: «ركّزوا في شفتَيَّ، لن تدخل إلى غزة ولا حبة قمح، حتى يعلنوا الاستسلام ويسلّموا الأسرى». ومنذ ذلك الحين، تفتّقت عقلية الإجرام الأميركية عن آلية مصائد الموت الأربع لتوزيع المساعدات، بعيداً من سيطرة حركة «حماس». وهكذا، اشتدت حلقات التجويع، حتى تصدّرت صور الأجساد الهزيلة والهياكل العظمية صفحات الصحف العالمية، وبدأت الفضيحة التي أنتجت أكبر حالة من النبذ والانتقاد لدولة الاحتلال منذ عام 1948.
وأمام ذلك، أدلى ترامب بجملة من التصريحات، أعلن فيها البدء في مناقشة مجموعة من الأفكار التي من شأنها توصيل الغذاء والدواء إلى القطاع. وفي هذا السياق، زار ويتكوف، صباح أمس، برفقة السفير الأميركي لدى كيان العدو، مايك هاكابي، مراكز «مؤسسة غزة الإنسانية» في مدينة رفح جنوبي القطاع. على أن المشاهد والصور التي رشحت من هناك في خلال الزيارة، بدت مغايرة تماماً لواقع الحال؛ إذ شهدت عملية التوزيع، فجأة، حالة من الانضباط النسبي، حضرت في خلالها أعداد محدودة من السكان إلى المركز الذي زاره ويتكوف، في حين لم يطلق الجنود الأميركيون الرصاص وغاز الفلفل والقنابل على طالبي المساعدات، كما تراجعت دبابات العدو ومعها جنود الاحتلال إلى مسافات بعيدة من مراكز التوزيع. هكذا، بدا واضحاً أن خشبة المسرح تمّ تجهيزها على مدى أيام للعرض المحدود، فتمّت الزيارة من دون أن يُقتل أو يُصاب أحد. ويأتي ذلك فيما يبدو أن المؤسسة الأميركية نفسها، التي تورّطت في أعمال القتال، تريد أن تقدّم نموذجاً مغايراً، تحاول عبره غسل يديها من دماء نحو 1000 من طالبي المساعدات الذين استشهدوا على مدار شهرين ونصف شهر. وفي الجو، كثّفت الطائرات الأردنية عمليات إنزال المساعدات. ووفقاً لإذاعة الجيش الإسرائيلي، فقد شملت عمليات الإنزال الجوي قرابة 150 رزمة تساوي حمولة خمس شاحنات فقط، وهي مقدّمة لأول مرة من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والبحرين وبلجيكا. وترفع هذه الكمية مجموع ما تمّ إنزاله من مساعدات من الجو، منذ استئناف العمليات قبل نحو أسبوع، إلى 200 رزمة، أي حمولة ست شاحنات ونصف شاحنة فقط. أما براً، فلم تدخل، أمس، أي مساعدات إلى القطاع، بعد 5 أيام من الإدخال اليومي عبر معبرَي رفح وكرم أبو سالم، وهو ما يُعزى إلى طلب إسرائيلي في اللحظات الأخيرة، لتأمين زيارة ويتكوف، فيما من المقرّر أن تُستأنف اليوم عمليات الإدخال البري.
جيش العدو يقلّص عديد قواته في القطاع بسحب «الفرقة 98» و4 ألوية
وبالعودة إلى الزيارة الأميركية، فإن التصنّع الذي رافقها لم يدم طويلاً، إذ استؤنفت عجلة القتل سريعاً بعد انتهائها بنصف ساعة. وسجّلت وزارة الصحة استشهاد 8 مواطنين وإصابة العشرات جراء إطلاق الرصاص في اتجاه طالبي المساعدات في مصائد الموت. أما عند حاجز «زيكيم» أقصى شمال القطاع، فقد أفادت الخدمات الطبية باستشهاد 18 مواطناً وإصابة المئات من طالبي المساعدات. وبالتوازي مع ذلك، سجّلت وزارة الصحة الفلسطينية 3 حالات وفاة جديدة نتيجة المجاعة وسوء التغذية، ليرتفع إجمالي ضحايا التجويع إلى 162 شهيداً بينهم 92 طفلاً.
ويجيء هذا في وقت قال فيه ويتكوف إن قدومه إلى غزة يأتي في سياق السعي الأميركي لوضع خطة شاملة لتأمين إيصال المساعدات الغذائية والطبية إلى سكان القطاع، فيما وصف الرئيس ترامب الوضع في غزة بأنه «مروّع».
وعلى المستوى الميداني، أعلن جيش الاحتلال، أمس، تقليص عديد قواته العاملة في القطاع، حيث سحب «الفرقة 98» وأربعة ألوية أخرى، وأبقى على ثمانية ألوية قتالية فقط. وانعكست خطوة تقليص القوات انسحاباً من مناطق واسعة في أحياء التفّاح والشجاعية شمالي القطاع، مع الإبقاء على تلك المناطق تحت السيطرة بالنار. وفي غضون ذلك، بثّت كل من «سرايا القدس» و»كتائب القسام» مقاطع مصوّرة أظهرت الأسيرين أبياتار دافيد وروم برسلافسكي، وقد بدت عليهما آثار الهزال والضعف الشديد. وقالت «القسام» و»السرايا» إن المجاعة طاولت الأسرى، كما طاولت جميع أفراد المجتمع الغزي. وأحدثت تلك الصور صدمة في الأوساط الإسرائيلية، إذ يمكن القول إن معظم الصحافيين الذين دعموا حملة التجويع، استطاعوا أن يستوعبوا معنى المجاعة. ومن هؤلاء الصحافية، موريا أسراف، من «القناة 13» العبرية التي أنكرت مراراً وجود تجويع، فيما علّقت بعد رؤيتها المقاطع بالقول: «بعد مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو لأسرانا خلال الساعات الأخيرة، يتّضح لنا المعنى الحقيقي للمجاعة. يا للعار على الصحافيين الإسرائيليين الذين انجرّوا وراء هذه الحملة بينما أسرانا هناك في حالة هزال شديد، لا لحم على عظامهم، ومشاهد تقشعر لها الأبدان».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار